الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإبراد الشديد يُخاف معه أن يُفعَل بعضُ الصلاة بعد خروج الوقت.
و
أمَّا الجمعة، فالسنَّة أن تصلَّى في أول وقتها في جميع الأزمنة
، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلِّيها في أول الوقت شتاءً وصيفًا، ولم يؤخِّرها هو ولا أحد من أصحابه، بل ربما كانوا يصلُّونها قبل الزوال. وذاك لأنَّ الناس يجتمعون لها، إذ السنَّة: التبكيرُ إليها، ففي تأخيرها إضرار بهم. وقد روي أنَّ جهنَّم تُسْجَر كلَّ يوم إلا الجمعة
(1)
. فالسبب الذي من أجله سُنَّ الإبراد يكون مفقودًا يوم الجمعة.
وهل
(2)
يستحَبُّ تأخير الظهر في غير شدّة الحرّ؟ على روايتين:
إحداهما: لا يستحَبُّ التأخير إلا في الحَرِّ، والأفضل التعجيل إذا تيقَّنَّا دخولَ الوقت. قال أبو عبد الله في رواية كثير من أصحابه: أنا أختار فيها كلِّها التعجيلَ إلا الظهر في الصيف، وعشاء الآخرة أبدًا
(3)
. وهذا اختيار الخرقي
(4)
،
(1)
أخرجه أبو داود (1083)، والبيهقي (2/ 464)، من طرق عن ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة به.
قال أبو داود: «هو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل، لم يسمع من أبي قتادة» ، وفيه أيضًا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، انظر:«فتح الباري» لابن رجب (3/ 291).
(2)
في الأصل: «وقيل» ، وصوابه من المطبوع.
(3)
انظر: «مسائل صالح» (3/ 51) وأبي داود (ص 41).
(4)
في «مختصره» (ص 17).
وهو الذي ذكره الشيخ. وذلك لأنَّ الصلاة في أول الوقت أفضل، كما تقدَّم. وإنما خولف في شدّة الحرِّ لمعنى يختصُّه [ص 44] فيبقى فيما سوى ذلك على استحباب التعجيل. ولأنَّ ما تقدَّم من تعجيل النبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر مطلقًا، وتعجيلَه إياها في الشتاء من غير تفريق بين حالَي الغيم والصحو= دليل على أنهم لم يفهموا من حاله رعايةَ ذلك، مع أنَّ الشتاء مظِنّة الغيوم.
والرواية الثانية: يؤخِّرها في الغيم أيضًا، وهذه أصرَح عنه. قال رضي الله عنه
(1)
: يؤخِّر الظهرَ في يوم الغَيم، ويعجِّل العصرَ، ويؤخِّر المغربَ، ويعجِّل العشاء. وقال أيضًا
(2)
: في يوم الغيم يؤخِّر الظهرَ حتى لا يشُكَّ أنها قد حانت، ويعجِّل العصرَ. والمغرب يؤخِّرها حتى يعلم أنه سواد الليل، ويعجِّل العشاءَ.
وهذا اختيار أكثر أصحابنا، لما روى سعيد في «سننه» عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يؤخِّرون الظهر، ويعجِّلون العصر، ويؤخِّرون المغرب في اليوم المُغِيم
(3)
. وهذا إخبار عن أهل الكوفة من أصحاب علي وعبد الله، ومَن بين ظهرانيهم من الصحابة. ومَن علِم حالَهم علِمَ أنهم لم يكونوا يتحرَّون ذلك إلا تلقِّيًا له عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الصلاة تتكرَّر في كلِّ وقت، فأمرُ الوقت بها لا بَّد أن يتقدَّم فيه سنّة وأثر
(4)
، ولا يجوز أن
(1)
في رواية المروذي. انظر: «المغني» (2/ 38)، و «مسائل الكوسج» (2/ 438).
(2)
في رواية أبي طالب. انظر: «المغني» (2/ 39).
(3)
عزاه إليه في «كنز العمال» (8/ 219).
(4)
في الأصل: «واثر واتد» . ولعل كلمة «وأثر» تكرَّر وتحرَّف. وقد حذف «واتد» في المطبوع دون إشارة.
يتحرَّوا مخالفة ما ظهر من السنة. وقال ابن المنذر
(1)
: رُوِّينا عن عمر أنه قال: إذا كان يومُ غيم فعجِّلوا العصر، وأخِّروا الظهر.
ولأنَّ الغيم مظِنَّة المطر وغيره من الموانع للخروج، فإذا أُخِّر الظهر، وعُجِّل العصر، وأُخِّر المغرب، وعُجِّل العشاء= اكتُفي لهما بخروج واحد للمشقَّة. ولهذا قال القاضي: لا يستحَبُّ التأخير لمن يصلِّي في بيته. وقال غيره: بل يستحَبُّ على ظاهر كلامه.
وعلَّل بعض أصحابنا هذه المسألة بأنَّ الغَيم في الجملة مظِنَّة اشتباه الوقت، فأخَّرنا الظهر والمغرب لنتيقَّن دخولَ الوقت
(2)
، فإنهما لا يُفعلان قبل وقتهما بحال، وفعلُهما بعد خروج الوقت جائز للعذر، وهذا عذر في الجملة؛ بخلاف العصر والعشاء فإنهما يصلَّيان قبل وقتهما في حال العذر، وهذا عذر في الجملة، ولا يصلَّيان بعد وقتهما بحال. وأمَّا الفجرُ، فلمَّا لم يجُز بحالٍ تقديمها ولا تأخيرها استوى في حال الاشتباه الأمران. ولذلك استحببنا أن نجعل الثانية من صلاتي الجمع مع تأخير الأولى، ليبقى بمنزلة الجامع بين الصلاتين. وأيضًا فلما كانت الظهر والمغرب يُحذَر فعلُهما قبل الوقت بكلِّ حال [ص 45] ولا يُحذَر التأخيرُ في جميع الأوقات؛ والعصر والعشاء بعكس ذلك فيهما= كان ما بعُد عن المحذور أولى بالمراعاة.
وكلام أحمد يدل على هذا التعليل لأنه قال
(3)
: في يوم الغيم يؤخِّر
(1)
في «الأوسط» (2/ 381)، وأسنده ابن أبي شيبة (6345).
(2)
انظر: «المغني» (2/ 38 - 39).
(3)
في رواية أبي طالب وقد مرَّ آنفًا.
الظهرَ حتى لا يشك أنها قد حانت، ويعجِّل العصر. والمغربُ يؤخِّرها حتَّى يعلم أنه سواد الليل، ويعجِّل العشاء.
وقد جاءت الأحاديث باستحباب تعجيل العصر مع الغيم خشية الفوات، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وهذا يدلُّ على أن الذي يُحذَر من تفويت العصر في الغيم لا يخاف مثلُه في الظهر، وعلى أن العصر هي التي تعجَّل مع الغيم، إذ لا مفسدة في تعجيلها في مثل هذه الحال، بخلاف الظهر. وعلى هذا فلا فرق بين المصلِّي وحده أو في جماعة مجتمعين أو مفترقين
(1)
. وعلى هذا المنصوص، فإنه يستحَبُّ تأخيرُ المغرب وتعجيلُ العشاء مع الغيم أيضًا؛ لما تقدَّم من الأثر والمعنى. وعلى الرواية الأولى لا يستحب.
وفرَّق جماعة من أصحابنا
(2)
، فاستحبُّوا تأخيرَ الظهر مع الغيم، ولم يستحبُّوا تأخير المغرب إذا عُلِم دخولُ وقتها، أو غلب على الظن، لأنَّ السنَّة التبكير فيها، ولأنَّ وقت العشاء قريب منها فلا يشُقُّ انتظارها، ولأن الخروج بعد الغروب قد يشُقُّ؛ ولأنَّ العشاء: السنَّةُ التأخير فيها.
والصحيح: المنصوص، لما تقدَّم. وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يؤخِّر المغرب ويعجِّل العشاء في مواضع تُذكَر إن شاء الله في باب الجمع. ولا تعريج مع السنَّة على رأي أحد. والعشاء وإن كانت السنَّة فيها التأخير، لكن
(1)
في هامش الأصل: لعله: «أو مفرقين» .
(2)
انظر: «الإنصاف» (3/ 140). وفيه: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني والأثرم.
إذا أُخِّرت المغرب فإنه ينبغي أن لا يؤخَّر العشاء، بل يقارب بينهما كما في حال الجمع.
فصل
وأمَّا العصر، فالسنَّة تعجيلها بكلِّ حال في المعروف من نصوصه في عامَّة جواباته، وهو مذهبه الذي لا خلاف فيه بين أصحابه. وقد روى عنه صالح
(1)
: آخر وقت العصر ما لم تَغيَّر الشمس. وقال: يؤخِّر الصلاةَ أحبُّ إليَّ؛ آخِرُ وقت العصر عندي ما لم تصفرَّ الشمسُ
(2)
. فجعل القاضي وابنه هذه روايةً ثانيةً بتصريحه بأنَّ آخر الوقت أحبُّ إليه
(3)
.
والأشبه ــ والله أعلم ــ أنه إنما قصَد أنَّ القول بجواز تأخير العصر أحبُّ إليَّ من قول من لا يجوِّز تأخيرها إلى الاصفرار؛ فإنَّ استحباب تأخير العصر بعيدٌ جدًّا من مذهبه. وله مثل هذا الكلام كثيرًا
(4)
، يقول:«هذا أحبُّ إليَّ» ، وليس غرضه الفعل، وإنما غرضه حكم الفعل. والأصل في ذلك ما تقدَّم من الأمر الكلِّي.
وأيضًا ما روى أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم[ص 46] يصلِّي العصر،
(1)
في «مسائله» (1/ 154).
(2)
كذا لفظ الرواية في الأصل، وفي «الفروع» (1/ 428) و «المبدع» (1/ 301). ولفظها في «مسائل صالح» (3/ 52): «تعجيل العصر أحبُّ إليَّ
…
»، عكس ما نقله المصنف.
(3)
انظر: «التمام» لابن أبي يعلى (1/ 139).
(4)
في المطبوع: «كثيرًا ما» زاد «ما» دون تنبيه.
والشمسُ مرتفعة حيَّة، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيها والشمس مرتفعة. أخرجوه
(1)
.
وفي رواية: وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه. رواه أحمد والبخاري
(2)
.
وعن أنس قال: صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العصرَ، فأتاه رجل من بني سَلِمة، فقال: إنّا نريد أن ننحر جزورًا لنا، وإنَّا نحبُّ أن تحضرها. قال:«نعم» . فانطلَق وانطلقنا معه، فوجدنا الجزور لم تُنحَر، فنُحِرت، ثم قُطِّعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس. رواه مسلم، والدارقطني
(3)
وزاد: كنَّا نصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصرَ، فيسير الراكب ستة أميال قبل أن تغيب الشمس.
وعن رافع بن خَديج قال: كنا نصلِّي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ننحر الجَزور، فتُقسَم عشرَ قِسَم، ثم تُطبَخ
(4)
، فنأكل لحمًا نضيجًا قبل مغيب الشمس. متفق عليه
(5)
.
وعن أبي مسعود الأنصاري عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلِّي العصرَ،
(1)
أخرجه أحمد (12644)، والبخاري (551)، ومسلم (621)، وأبو داود (404)، والنسائي (507)، وابن ماجه (682).
(2)
أحمد (12644)، والبخاري (550).
(3)
مسلم (624)، والدارقطني (1/ 255).
(4)
في الأصل والمطبوع: «فيقسم
…
يطبخ»، تصحيف.
(5)
البخاري (2485) ومسلم (625).
والشمسُ بيضاء مرتفعة، يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحُليفة ستة أميال قبل غروب الشمس. رواه الدارقطني
(1)
.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي العصرَ، والشمسُ طالعةٌ في حُجْرتي، لم يظهر الفيءُ بعدُ. متفق عليه
(2)
. وقال البخاري
(3)
: وقال أبو أسامة: «من قعر حجرتها» . ولو كان يؤخِّرها لكانت الشمس قد مالت حتى خرجت من الحجرة، وظهر فيها الفيء، لأنها ليست كبيرة
(4)
.
ولأنَّ الله سبحانه أمر بالمحافظة عليها خصوصًا، وكذلك أمرَ رسولُه بذلك. وكمالُ المحافظة: أن تُصَلَّى في أول الوقت، ولا تُعرَّض
(5)
للفَوات ودخول وقت الكراهة.
وكذلك وكَّد التبكيرَ بها مع الغيم، كما قد نصَّ عليه أحمد. فروي عن بريدة قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال:«بكِّروا بالصلاة في اليوم الغَيم، فإنَّ من فاتته صلاة العصر حبِط عملُه» رواه أحمد وابن ماجه
(6)
.
(1)
«السنن» (1/ 252).
صححه الحاكم (1/ 192)، وأصله في «الصحيحين» دون هذه الزيادة، وقد اختلف هل هي من حديث أبي مسعود أو مدرجة؟ انظر:«الفصل للوصل» للخطيب البغدادي (2/ 653 - 656)، «فتح الباري» لابن رجب (3/ 9 - 13)، «الإعلام» لمغلطاي (3/ 225 - 228).
(2)
البخاري (546) ومسلم (611).
(3)
برقم (544).
(4)
في الأصل: «كثيرة» ، تصحيف.
(5)
في الأصل والمطبوع: «يصلي
…
ولا يعرض».
(6)
أحمد (23055)، وابن ماجه (694)، من طرق عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة به.
حديث معلول، اضطرب الأوزاعي في إسناده ووهم في متنه، قال ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 127):«خالف (الأوزاعي) هشامًا في ذلك؛ فإن هشامًا قال في روايته: إن أبا المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن رسول الله قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» ، فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتبكير بصلاة العصر هو بريدة، وهو الصحيح. واللفظ الذي رواه الأوزاعي لو كان محفوظًا لكان دليلًا على تأخير العصر في غير يوم الغيم، ولكنه وهم»، وانظر:«إرواء الغليل» (255).
وروى أحمد والبخاري والنسائي
(1)
من حديث أبي المَليح بن أسامة قال: كنَّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكِّروا بصلاة العصر، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من ترك صلاةَ العصر حبِط عملُه» .
فإن قيل: فقد قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
(2)
[ق: 39]، وإنما يقال «قبل الغروب» لما كان قريبًا منه. وفي تأخيرها توسعة لوقت النفل.
قلنا: [ص 47] الصلاة المفعولة في أول الوقت هي قبل الغروب
(3)
، وهي مرادة من الآية بالسنة الصحيحة وبالإجماع، كصلاة الفجر المؤدَّاة في أول وقتها هي قبل الطلوع
(4)
. وقربُها من غروب الشمس ليس فيه فضيلة
(1)
أحمد (22957)، والبخاري (553)، والنسائي (474).
(2)
في الأصل: «فسبِّح» .
(3)
غيَّره في المطبوع إلى «الطلوع» دون تنبيه.
(4)
في الأصل: «الغروب» ، وفي حاشيته:«كذا» . وصوابه من المطبوع.
لوجهين.
أحدهما: أن تأخيرها إلى حين الاصفرار لا يجوز مع أنه أقرب إلى غروبها.
الثاني: أن الأمر بالتسبيح قبل الغروب، وكلَّما بعُد عن الغروب كان أتمَّ تقديمًا على الغروب وأقرب إلى تحقيق القبلية.
وأمَّا اتساعُ وقت النفل، فيعارضه خشيةُ التفويت وما فيه من المخاطرة بالفرض. ثم ما حصل له بالصلاة في أول الوقت أحبُّ إليه من جميع النوافل؛ فإن حدود الفرائض المسنونة وتكميل أدائها أولى بالرعاية من أصل النوافل. ولهذا كان إدراك تكبيرة الافتتاح مع الإمام أولى من الاشتغال عنها بالسنن الرواتب. وفي تعجيلها اتساع وقت ذكر الله المشروع آخر النهار. ثم إنَّا لا نسلِّم أن توسيع وقت النافلة مقصود، بل إذا كان مقصود الشارع في ترك النافلة بعد العصر كان مقصودًا مع سعة وقت الترك، وكان ذلك أحبَّ إلى الله تعالى.
فصل
وأما المغرب، فالسنَّة فيها التعجيل، وهذا مما أجمعت عليه الأمَّة. وقد روى سلَمة بن الأكوع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي المغربَ إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. رواه الجماعة إلا النسائي
(1)
.
وعن رافع بن خَديج قال: كنا نصلِّي المغربَ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فينصرف
(1)
أحمد (16532)، والبخاري (561)، ومسلم (636)، وأبو داود (417)، والترمذي (164)، وابن ماجه (688).
أحدُنا وإنه لَيُبصِرُ مواقعَ نَبْلِه. متفق عليه
(1)
.
وقد تقدَّم القول في كراهة المداومة على تأخيرها. وروي أن عمر بن عبد العزيز أخَّر المغربَ ليلةً حتى رأى نجمَين، فأعتَق رقبتَين
(2)
.
فأمَّا ليلة الغَيم، فقد تقدَّم أنَّ أنَصَّ الروايتين
(3)
عنه وأصحَّهما عند أكثر أصحابنا استحبابُ تأخيرها، كما تقدَّم في تأخير الظهر. فأمَّا تأخيرها في غير ذلك، فلا يستحَبُّ مطلقًا.
واستثنى أبو الخطاب
(4)
وطائفة معه تأخيرَها ليلةَ جمعٍ للمحرِم، فإن السنَّة أن يؤخِّر المغرب حتى يصلِّيها مع العشاء بالمزدلفة في المناسك عند بعض أهل العلم، حتَّى لم يجوِّزوا أن يصلِّي بغير المزدلفة. لكن هذا في الحقيقة تأخير الصلاة عن وقتها، ونحن إنما نتكلَّم في تأخيرها إلى آخر الوقت. فأما التأخير عن الوقت فهو الجمع بين الصلاتين، وفي استحبابه حيث يجوز خلافٌ وتفصيلٌ [ص 48] يُذكرَ إن شاء الله تعالى في موضعه
(5)
.
ولمن استثناها أن يقول: المستحَبُّ أن يؤخِّر ليصلِّي بمزدلفة، سواء
(1)
البخاري (559) ومسلم (637).
(2)
لم أقف عليه، وذكره بمثله ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 163)، والقصة مشهورة عن عمر بن الخطاب، أخرجها ابن المبارك في «الزهد» (187)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 335).
(3)
في المطبوع: «نص الروايتين» . والصواب ما أثبت من الأصل.
(4)
في «الهداية» (ص 72).
(5)
في المطبوع: «في موضعه إن شاء الله تعالى» ، لم يتنبه على علامة التقديم والتأخير في الأصل.
جمع بينها وبين العشاء، أو لم يجمع؛ حتَّى لو فرضنا أنه سار سيرَ البريد حتى وافى جمعًا قبل مغيب الشفق، فإنَّ السنَّة أن يؤخِّر المغربَ ليصلِّيها فيها ولو كان قبل مغيب الشفق. ولمن لم يستثنها أن يقول: هذه الصورة نادرة، والحكم مبنيٌّ على الغالب. وبالجملة، فلا خلاف في المعنى؛ وكلُّهم قد ذكروها في المناسك.
فصل
وأمَّا العشاء، فإنَّ الأفضل تأخيرها من غير خلاف في المذهب، إلا أن يشقَّ التأخير على المصلِّين، إلا ليلةَ الغيم إذا أُخِّرت المغربُ كما تقدَّم. وذلك لما روى ابن عباس قال: أعتَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةً بالعشاء حتَّى رقد الناس واستيقظوا، ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر، فقال: الصلاة. فخرج نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم أن يصلُّوها هكذا» متفق عليه
(1)
.
وقال أبو بَرْزة: كان يستحِبُّ أن يؤخِّر العشاءَ التي تدعونها «العَتَمة» . متفق عليه
(2)
. وفي لفظ: كان يؤخِّر العشاء إلى ثلث الليل. رواه أحمد ومسلم
(3)
.
وقال جابر بن سمُرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخِّر العشاء الآخرة. رواه أحمد ومسلم والنسائي
(4)
.
(1)
البخاري (571) ومسلم (642).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أحمد (19800)، ومسلم (647).
(4)
أحمد (20829) ـ من زوائد عبد الله ـ، ومسلم (643)، والنسائي (533).
وعن ابن عمر قال: مكثنا ليلةً ننتظر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلثُ الليل أو بعده، فقال حين خرج:«إنكم لتنتظرون صلاةً ما ينتظرها أهلُ دين غيركم. ولولا أن تثقل على أمتي لَصلَّيتُ بهم هذه الساعة» ثم أمر المؤذِّنَ، فأقام الصلاة، وصلَّى. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي
(1)
.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم أن يؤخِّروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح
(2)
.
ولأن في تأخيرها فوائد، علِمنا منها: أن تصلَّى في جوف الليل وتقرَّب
(3)
من آخره. وهو الوقت الذي ينزل الله فيه إلى سماء الدنيا، فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
وقد روى عبد الله بن مسعود قال: أخَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال:«أمَا، إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكُر الله هذه الساعة غيركم» [ص 49] فأنزلت هذه الآيات: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} حتى بلغ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 - 115] رواه أحمد والترمذي
(4)
.
(1)
أحمد (5613)، ومسلم (1010)، وأبو داود (420)، والنسائي (537).
(2)
أحمد (7342)، وابن ماجه (690)، والترمذي (167)، والنسائي (534).
(3)
في الأصل والمطبوع: «ويقرب» .
(4)
أحمد (3760)، والنسائي في «الكبرى» (6/ 313)، ولم أجده عند الترمذي، واقتصر المزي في «التحفة» (7/ 25) على النسائي.
وصححه ابن حبان (1530)، وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 312):«رجال أحمد ثقات، ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود، وهو مختلف في الاحتجاج به» .
ولذلك استُحِبَّ تأخيرُ الوتر إلى آخره. قال سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78] ومعلوم أنه إذا اشتدَّت الظلمة وبعُد عن النهار كان هذا المعنى
(1)
أبلغ. وإنما لم يُشرَع ــ والله أعلم ــ تأخيرُها إلى النصف الثاني لأنه مضاف إلى اليوم الذي يليه، فالتأخيرُ إليه تأخيرٌ إلى ما
(2)
يقرب منه النهار. ولأنَّ فيه تغريرًا بها، إذ كانت السنَّة أن يصلِّيَ قبل النوم لئلا يستمرَّ النوم إلى الفجر؛ ولأنَّ الجمعَ بين استحباب تأخيرها إلى النصف الثاني وبين كراهة النوم قبلها متعذِّر
(3)
، فإنه يقتضي سهر أكثر الليل، وذلك مفضٍ إلى غلبة النعاس وتفويت مقصود الصلاة.
ومنها: أنه إذا انتظرها فإنَّ العبد في صلاة، ما دامت الصلاة تحبسه. وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:«إنكم لَتنتظرون صلاةً ما ينتظرها أهلُ دين غيرَكم» ، فإن أهل الكتاب ليست لهم صلاة في جوف الليل، وإنما يصلُّون قبل طلوع الشمس وبعد زوالها وبعد غروبها. وهذا المعنى لا يحتاج إليه في غيرها، فإنه يقدر أن يصلِّيها في أول الوقت، ويجلس ينتظر التي بعدها، فإنَّ انتظار الصلاة قبل وقتها ــ لاسيَّما بعد صلاة أخرى ــ يستحَبُّ، بخلاف العشاء فإنه لا صلاة بعدها تُنتَظر.
(1)
يعني: غسق الليل.
(2)
في المطبوع: «تأخير لما» خلافًا للأصل دون إشارة.
(3)
في الأصل: «معتذر» ، وأشير إلى الصواب في حاشيته.
ومنها: أنه إذا أخَّرها ختَم عملَه بالصلاة، ونام عليها، ولم يتحدَّث بعدها. فختَم عمله بخير، وأمِن من كراهة السمر بعدها.
ومنها: أن الأصوات تكون قد هدأت، والعيون قد رقدت. وذلك أقرب إلى نزول السكينة، واجتماع الهمِّ على الصلاة، والخشوع فيها، وبُعدها عن الشواغل وما يلهي المصلِّي.
ومنها: أن يبعُد العهدُ بأعمال النهار وحركاته، والأفكار والوساوس الحاصلة بسبب ذلك.
ويستحَبُّ تأخيرها بكلِّ حال، في إحدى الروايتين، على ظاهر الحديث المتقدِّم عن أبي برزة وجابر بن سمرة. ولأنَّ قوله في حديث ابن عباس وأبي هريرة:«لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتُهم أن يؤخِّروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه»
(1)
إنما نفى به أمرَ الإيجاب، فإنَّ المشقَّةَ
(2)
إنما تحصل بالإيجاب دون الاستحباب، وهو يقتضي قوة استحباب التأخير، إذ كان المقتضي للوجوب قائمًا لولا وجودُ المانع. وسواء شقَّ عليهم التأخير [ص 50] أو لم يشُقَّ، فإنَّ ذلك لا يمنع الاستحباب، كما في قوله عليه السلام:«لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسواك عندَ كلِّ صلاة» ، وقوله:«لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالوضوء عند كلِّ صلاة»
(3)
.
والرواية الثانية: أنَّ المستحَب التأخير الذي لا يشُقُّ على المأمومين
(1)
تقدم تخريجهما.
(2)
في الأصل والمطبوع: «السنّة» ، تحريف.
(3)
تقدم تخريجه.
غالبًا. فإن أخَّرها تأخيرا يشقُّ عليهم غالبًا كُرِه؛ لما روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأخَّرتُ صلاةَ العشاء إلى ثلث الليل» رواه أحمد. والترمذي وقال: حديث حسن صحيح
(1)
.
وكذلك في حديث ابن عمر: «لولا أن تثقُلَ على أمتي لصلَّيتُ بهم هذه الساعة»
(2)
، وقوله في حديث أبي سعيد:«لولا سَقَمُ السقيم، وضعفُ الضعيف، وحاجةُ ذي الحاجة= لأخَّرتُ هذه الصلاةَ إلى شطر الليل» ، وقد تقدَّم. وكذلك قولُه في حديث عائشة:«إنه لَوقتُها، لولا أن أشقَّ على أمتي»
(3)
؛ فإنَّ هذه الأحاديث تدل على أنَّ وجودَ المشقة على المأمومين يمنع استحبابَ التأخير وشرعَه.
وعلى هذا بنيت قاعدة الصلاة، فإنَّ الإمام يُكرَه أن يطوِّل على المأمومين تطويلًا يفتِنهم به، وإن كان التطويل عبادة محضة. فالتأخيرُ الذي يفتِنهم، ويفوِّتهم الصلاةَ جماعةً، أو يُوجِب أن يصلُّوها متكرِّهين
(4)
متضجِّرين= أولى أن يُكرَه. وما في التأخير من الفضيلة إنما يُقصَد لو لم يفُتْ ما هو أفضل منه. وإنَّ أفضلَ منه لكثرةُ الجماعة، وتحصيلُ الجماعة للمصلِّين، ونشاطُ القلوب للصلاة، وتحبيبُ الله إلى عباده.
ولأنَّ المشقة قسمان:
(1)
أحمد (17032)، والترمذي (23).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (638).
(4)
في الأصل والمطبوع: «مكترهين» .
أحدهما: في خاصَّة الإنسان، فله أن يحتمل هو المشقة لتحصل فضيلة التأخير. وهذه المشقة هي المانعة من الإيجاب.
والثاني: يتعدَّى إلى المأمومين، وليس للإمام أن يحمل الناس مشقةً لم تجب عليهم، وهذه هي المانعة من استحباب التأخير. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي الظهر بالهاجرة، والعصرَ والشمسُ نقيَّةٌ، والمغربَ إذا وجبت، والعشاءَ أحيانًا وأحيانًا: إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم قد أبطؤوا أخَّر؛ والصبحَ كان يصلِّيها بغلس. متفق عليه
(1)
.
وروى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في «مغازيه»
(2)
عن عبد الرحمن بن غَنْم قال: حدَّثنا معاذ بن جبل قال: لمَّا بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: «أظهِرْ كبيرَ الإسلام وصغيرَه، وليكن من أكثرها الصلاة، فإنَّها رأس [ص 51] الأمر بعد الإقرار بالدين. إذا كان الشتاء فصَلِّ صلاةَ الفجر في أول الفجر، ثم أطِل القراءةَ على قدر ما يطيق الناس، ولا تُمِلَّهم وتُكرِّه إليهم أمر الله. ثم عجِّل الصلاة الأولى قبل أن تميل الشمس. وصلِّ
(1)
البخاري (560) ومسلم (646).
(2)
ومن طريقه أخرجه الخطيب البغدادي في «الموضح لأوهام الجمع والتفريق» (2/ 396).
إسناده هالك، فيه محمد بن سعيد المصلوب كذاب، كما في «الميزان» (3/ 561).
وأخرجه مختصرًا أبو الشيخ في «أخلاق النبي» (1/ 451) ـ ومن طريقه البغوي في «شرح السنة» (2/ 198 - 199) ـ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 249)، وفيه الجراح بن المنهال متهم بالكذب، كما في «المجروحين» لابن حبان (1/ 213)، وانظر:«السلسلة الضعيفة» (955).
العصر والمغرب في فصل الشتاء على ميقات واحد: العصرَ والشمسُ بيضاءُ مرتفعةٌ، والمغربَ حين
(1)
تغيب الشمس وتوارى بالحجاب. وصلِّ العشاء، فأعتِمْ بها، فإنَّ الليل طويل. فإذا كان الصيف فأسفِرْ بالصبح، فإنَّ الليل قصير وإن الناس ينامون، فأمهِلْهم حتى يدركوها. وصلِّ الظهر بعد أن ينقص
(2)
الظل وتَحرَّك الرياحُ، فإن الناس يقيلون، فأمهِلْهم حتَّى يدركوها. وصلِّ العَتَمةَ، فلا تُعتِم بها، ولا تُصلِّها حتى يغيب الشفق».
ويستحب التأخير إلى نصف الليل، إذا قلنا: يمتدُّ الوقت إليه، على إحدى الروايتين؛ لأن في حديث أبي سعيد:«لأخَّرتُ العشاءَ إلى نصف الليل» . وقيل: إنما يستحَبّ إلى الثلث على الروايتين، لأنَّ ما بعد ذلك مختلَف في كونه وقتًا، فلم يستحَبَّ التأخيرَ إليه، وإن قلنا: إنه وقتٌ؛ خروجًا من الخلاف.
فصل
وأمَّا الفجر، فإنَّ التغليس بها أفضل. قال الإمام أحمد: التغليس في الفجر مذهبي. وكان يأمر به ويصلِّي بأصحابه بغلَس إن لم يكن في التغليس مشقة على المأمومين. ثم إن كان المأمومون يغلِّسون، أو أمكن أن يُعوَّدوا التغليسَ من غير مشقة، أو كان الوقت لا يشقُّ فيه التغليس عليهم ولا على غيرهم، أو ليس هناك جماعة تنتظر كالقوم المجتمعين، وكالصلاة في المساجد المبنية على الطرقات التي ليست لها جماعة راتبة، ونحو ذلك=
(1)
في حاشية الأصل: «بالأصل: حتى» .
(2)
في الأصل: «ينقض» وفي المطبوع: «ينقضي» .
فلا يختلف المذهبُ أنه هو الأفضل، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الفجر متلفِّعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من التغليس. رواه الجماعة
(1)
.
وللبخاري
(2)
قال: كان يصلِّي الصبح بغلَس، فينصرف نساءُ المؤمنات، لا يُعرَفن من الغلَس، ولا يعرف
(3)
بعضُهن بعضًا.
وقد تقدَّم قولُ جابر: كان يصلي الفجر بغلس؛ وقولُ أبي برزة: كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة.
وقال سهل بن سعد: كنت أتسحَّر مع أهلي، ثم يكون بي سرعةٌ أن أُدرِك صلاةَ الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري
(4)
.
وقال زيد بن ثابت: تسحَّرنا مع رسول الله [ص 52]صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة. قلت
(5)
: كم قدرُ ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية. رواه الجماعة إلا أبا داود
(6)
.
(1)
أحمد (24096)، والبخاري (372)، ومسلم (645)، وأبو داود (423)، والترمذي (153)، والنسائي (546)، وابن ماجه (669).
(2)
برقم (872).
(3)
في «الصحيح» : «أو لا يعرف» .
(4)
برقم (577).
(5)
القائل: أنس بن مالك.
(6)
أحمد (21585)، والبخاري (575)، ومسلم (1097)، والترمذي (703)، والنسائي (2155)، وابن ماجه (1694).
وعن أبي مسعود الأنصاري: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الصبح مرةً بغلس، ثم صلى مرةً أخرى، فأسفر بها. ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات. لم يعُد إلى أن يُسفِر. رواه أبو داود
(1)
.
ولأنَّ التغليسَ بها عملُ الخلفاء الراشدين وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. جاء ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين
(2)
. وما نُقِل عن بعضهم من الإسفار، فلعله كان لعارض.
ولأنَّ التغليس صلاة في أول الوقت فهو أفضل، كما تقدَّم. وفيه من الفوائد ما ذكرناه في تأخير العشاء وغير ذلك من قربها من صلا ة الليل، وبُعدها عن حركات النهار، وانتشار الأصوات، وافتتاح يومه بأداء الفرض، إلّا
(3)
انتظار الصلاة فإنه يخلفه هنا جلوسُ المصلِّي في مصلَّاه حتى تطلع الشمس. ولأن ذلك أدعى إلى الاستيقاظ، واتساع ذكر الله المشروع أولَ النهار. ولأنَّ الجهر بقراءتها يُلحِقها في صلوات الليل، فكلَّما كانت الظلمة أشدَّ كان وقتها إلى الليل أقرب، وإن كانت من صلوات النهار، كما نصَّ عليه الإمام أحمد
(4)
.
ولأنَّ إطالة القراءة فيها من السنن المؤكدة، وهذا إنما يتمُّ بالتغليس.
(1)
برقم (394).
وصححه ابن خزيمة (352)، وابن حبان (1449)، وتقدم الكلام على الإدراج الحاصل في لفظ الحديث.
(2)
انظر الآثار المتقدمة في: «المصنف» لعبد الرزاق (1/ 568 - 573)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (3/ 124 - 126)، و «الأوسط» لابن المنذر (2/ 375 - 377).
(3)
في الأصل والمطبوع: «إلى» والصواب ما أثبت.
(4)
تقدَّم في أول المسألة.
ولعل الذين أسفروا بها من الصحابة إنما أسفروا بالخروج منها لإطالة القراءة. فقد روى حرب والخلال وغيرهما أنَّ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه صلَّى صلاة الفجر، فقرأ سورة البقرة، فقالوا: كادت الشمس تطلع. فقال: لو طلعَتْ لم تجدنا غافلين
(1)
. وفي رواية: سورة آل عمران
(2)
. وكذلك روى السائب بن يزيد قال: صلَّيتُ خلفَ عمر الصبحَ. فلما انصرفوا استشرفوا الشمسَ، فقال: لو طلعَتْ لم تجدنا غافلين
(3)
.
فإن قيل: فقد روى رافع بن خَدِيج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسفِروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» رواه الخمسة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
(4)
. وقال عبد الله بن مسعود: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاةً لغير ميقاتها إلا صلاتَين: جمعَ بين المغرب والعشاء بجَمْعٍ، وصلَّى الفجرَ يومئذ قبل [ص 53] ميقاتها رواه الجماعة
(5)
. وفي رواية لمسلم
(6)
: «بغلَس» .
(1)
«مسائل حرب» بتحقيق السريع (1/ 395) وأخرجه عبد الرزاق (2711)، وابن أبي شيبة (3565).
(2)
أخرجها الطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 181).
(3)
أخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 180).
(4)
أحمد (15819)، وأبو داود (424)، والترمذي (154)، والنسائي (548)، وابن ماجه (672).
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (1490).
(5)
أحمد (3637)، والبخاري (1682)، ومسلم (1289)، وأبو داود (1934)، والنسائي (608)، ولم أقف عليه عند الترمذي وابن ماجه، ولم يعزه إليهما المزي في «التحفة» (7/ 83).
(6)
برقم (1289).
وهذا يقتضي أن عادته كانت الإسفار في غير هذا الموضع، إذ المراد به: قبلَ وقتها الذي كانت عادته أن يصلِّيها فيه. فإنه لم يصلِّها يومئذ حتى برَق الفجرُ، كما في حديث جابر. وهي قبل ذلك لا تجوز إجماعًا.
قلنا: قال الإمام أحمد: الإسفار عندي أن يتيقَّن الفجرَ
(1)
. ولم يرَ الإسفارَ التنوير. يقال للمرأة: أسفرت عن وجهها. وقال أيضًا: إسفار الفجر: طلوعه
(2)
.
وهذا لأنه يقال: أسفر الفجر: أضاء. وأسفر وجهُه حسنًا: أي أشرَق. وسفَرت المرأة: كشفت عن وجهها. ومَسافِرُ الوجه
(3)
: ما يظهر. ومنه: السَّفَر، والسِّفْر، والسَّفير. فهذه المادة حيث تصرَّفت، فإنما معناها: البيان والظهور
(4)
. ومعلوم أنه إذا طلع الفجر فقد حصل البيان والظهور. قال الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. ويقال: أبيَن من فلَق الصبح، ومن فرَق الصبح.
ومعنى الحديث على هذا: تأخيرُها حتى يتيقَّن الفجر بحيث لا يكون فيه شكٌّ لأحد، وإن جاز فعلُها أولَ ما يبزغ به
(5)
، بحيث قد يحصل معه شكٌّ لبعض الناس، لاسيَّما من يقول: إنه يجوز فعلُها إذا غلب على الظن دخولُ الوقت. وإنما ذُكِر هذا في الفجر لأنَّ طلوع الفجر مظِنَّةُ الاشتباه، لاسيَّما إذا
(1)
انظر نحوه في «مسائل الكوسج» (2/ 434).
(2)
«مسائل صالح» (3/ 51).
(3)
في المطبوع: «سافر الوجه» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(4)
انظر نحوه في «الصواعق المرسلة» (1/ 330 - 331).
(5)
كذا «به» في الأصل والمطبوع، وكأنها مقحمة.
اشتبه ضوءه بضوء القمر في ليالي القمر. وكثيرًا ما قد صُلِّي الفجر، ثم تبيَّن لهم أنَّ الفجر لم يطُلع. وقد وقع ذلك لعدد من الصحابة وغيرهم
(1)
، بخلاف زوال الشمس وغروبها.
ولهذا ــ والله أعلم ــ مدَّ الله الأكلَ بالليل إلى أن يتبيَّن الفجر، وقال:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فجعل وقتَ الفجر منوطًا بتبيُّنه وظهوِره، وهو الإسفار الذي أمر
(2)
النبي صلى الله عليه وسلم به على هذا التفسير. ولم يقل: ثم أتِمُّوا الصيام حتى يتبيَّن لكم الليلُ، لأنَّ دخول الليل لا شبهة فيه. فإذا أُخِّرت حتى يظهر ضوء الفجر ويتبيَّن كان أبعد عن الشبهة. ولعله بهذا
(3)
أيضًا أن يتسحَّر الناس حتى يتبيَّن لهم الفجر، وأن لا يكفُّوا عن الطعام إذا اشتبه عليهم الحال. وقد جاء ذلك مأثورًا عن الصحابة في قضايا متعددة، فكأنّ المؤذِّن والمصلِّي
(4)
إذا لم يتبيَّن طلوعُ الفجر منع الناس ذلك
(5)
.
وقد قيل: إنَّ أولئك القوم لما أُمِروا بتعجيل الصلوات احتمل أنهم كانوا يصلُّونها ما بين الفجر الأول والثاني؛ طلبًا للأجر في تعجيلها، ورغبةً في الثواب. فقيل لهم: صلُّوها بعد الفجر الثاني، فإنه أعظم [ص 54] للأجر، وإن كانت لا تجوز قبل الوقت، لكن لما قصدوا الخير
(6)
ونوره فإنَّ الله يأجرهم
(1)
روي ذلك عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري، وسيأتي تخريجه.
(2)
في الأصل والمطبوع: «أقر» ، تصحيف.
(3)
كذا في الأصل والمطبوع، ولعل «بهذا» تحريف «قصد» .
(4)
كذا في الأصل والمطبوع، وكأنَّ لفظ «والمصلي» مقحم.
(5)
في المطبوع غيَّر «منع» إلى «أعاد» دون إشارة، وقال:«هكذا في المخطوط» !
(6)
في الأصل: «يصفوا الحبر» . ولعل الصواب ما أثبت. وفي المطبوع: «لم يصفوا الفجر» زاد «لم» دون إشارة.
على نيَّاتهم
(1)
، لكن الأجر على ما يسقط
(2)
من الفرض أعظم. وكثيرًا ما يفضَّل
(3)
الواجب على المحرَّم كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية [الجمعة: 9] وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلى قوله: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، وقوله:{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وهذا كثير.
وكذلك حديث ابن مسعود، فإن عادته صلى الله عليه وسلم كانت تأخير الصلاة عن طلوع الفجر قليلًا بحيث يتمكَّن الناس من الطهارة والسعي إلى المسجد ونحو ذلك. وهذا القدر لا يُخِلُّ بالتقديم المستحَبِّ عندنا. فلما
(4)
كان يوم مزدلفة صلَّاها حين برَق الفجرُ.
وقد قيل: «أسفِرُوا بالفجر» أراد به إطالةَ القراءة فيها حتى يُسفر الفجر، فإن إطالتها أعظم للأجر، فإنه يستحَبُّ من إطالة القراءة فيها ما لا يستحَبُّ في سائر الصلوات، فيكون الإسفار بفعلِها والخروجِ منها، لا بنفس الابتداء فيها، كما كان الخلفاء الراشدون يفعلون.
ويحتمل أن يكون ذلك خطابًا لمن يتأخَّر [من]
(5)
المأمومين عندهم
(1)
في المطبوع: «صلاتهم» خلافًا للأصل.
(2)
في المطبوع: «الأجر الذي يسقط» ، غيَّر ما في الأصل دون إشارة.
(3)
في الأصل والمطبوع: «يفعل» ، تصحيف. والمقصود أن التفضيل لا يدل على أن المفضول جائز. انظر:«مجموع الفتاوى» (23/ 232).
(4)
الكلمة في المصورة غير واضحة، وفي المطبوع:«فإذا» .
(5)
زيادة من حاشية الأصل.
كزمان الصيف، كما جاء مفسَّرًا في حديث معاذ بن جبل.
فصل
والتغليس أفضل من الإسفار مطلقًا في إحدى الروايتين عنه، لما تقدَّم، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يغلِّس بها دائمًا
(1)
، مع أنه كان يراعي حال المأمومين في العشاء
(2)
، فدلَّ على افتراقهما.
والرواية الثانية: التغليس أفضل، إلا أن يشُقَّ على المأمومين ويكون الإسفار أرفق بهم، فإنه يسفر بحيث يجتمعون فقط. وهذا أبيَن عنه، وأصح عند أكثر أصحابه، لما تقدَّم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن:«إذا كان الشتاء فصَلِّ صلاة الفجر في أول الفجر، ثم أطِل القراءةَ على قدر ما يطيق الناس، ولا تُمِلَّهم وتُكرِّهْ إليهم أمرَ الله. وإذا كان الصيف فأسفِرْ بالصبح، فإن الليل قصير، وإنَّ الناسَ ينامون، فأمهِلْهم حتى يدركوها»
(3)
.
وقال الإمام أحمد: كان عمر إذا اجتمع الناس عجَّل، وإذا لم يجتمعوا أخَّر.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوُ ذلك، فروى أحمد في «المسند»
(4)
عن
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
برقم (6195)، من طريق أبي أحمد الزبيري محمد بن عبد الله، عن أبي شعبة الطحان جار الأعمش، عن أبي الربيع، عن ابن عمر به.
إسناده شديد الضعف، أبو شعبة متروك، وأبو الربيع مجهول، كما قال الدارقطني في «سؤالات البرقاني» (77، 78). وقال ابن رجب في «فتح الباري» (4/ 446): «هذا إسناد ضعيف» .
أبي الربيع قال: قلتُ لابن عمر: إني أصلِّي
(1)
معك، ثم ألتفِتُ، فلا أرى وجه جليسي. ثم أحيانًا تُسفر. قال: كذلك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي. وأُحِبُّ أن أصلِّيها كما رأيتُ رسول الله صلى الله [ص 55] عليه وسلم يصلِّيها. ولعل قوله: «أسفِرُوا بالفجر، فإنه أعظم للأجر»
(2)
عنى به هذا.
ولأنه قد صحَّ عنه في العشاء أنهم كانوا إذا اجتمعوا عجَّل، وإذا أبطؤوا أخَّر
(3)
. فعُلِمَ أنه كان يراعي حالهم، وأنه إنما كان يغلِّس بها لأن أصحابه كانوا يغلِّسون، ولا يشقُّ عليهم التغليس.
ولأنَّ استحبابَ تأخير العشاء آكدُ من تقديم الفجر
(4)
، فإنه لم تختلف الأحاديث فيه، ولا اختلف الناس فيه إلا اختلافًا شاذًّا، ومع ذلك استحببنا تقديمَها إذا شقَّ على المأمومين، فكذلك الفجر. لكنَّ مشقة التأخير في العشاء أكثر من مشقة التغليس بالفجر، إلا أنَّ هذا لا يمنع رعاية المشقَّة عند حصولها.
ولأنَّ التغليس بالفجر مع إسفار الجيران يفوِّت فضيلتين:
إحداهما: كثرة الجمع. وهي مطلوبة، لما روى أبيُّ بن كعب رضي الله
(1)
في المطبوع: «صلَّيت» . غيَّر ما ورد في الأصل لما قرأ بعده سهوًا: «التفَتُّ» .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
في المطبوع: «تأخير تقديم الفجر» .
تعالى عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثُر فهو أحبُّ إلى الله» رواه أحمد وأبو داود
(1)
.
والثانية: تحصيل الجماعة للمصلي. فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاها صدقة، فقال:«ألا رجلٌ يتصدَّق على هذا، فيصلِّي معه»
(2)
.
ولأنَّ في ذلك تفويتًا للجماعة عليهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أمر الإمامَ بالتخفيف خشيةَ التنفير
(3)
، وإن كان طول القنوت مستحبًّا في نفسه. ولذلك كان يخفِّف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي، لِما يعلم من وجَل أمِّه به
(4)
. وكان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمَع وقعَ قدم
(5)
. ولأنه يستحَبُّ
(1)
أحمد (21265)، وأبو داود (554)، والنسائي (843)، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي بصير، عن أبي بن كعب به.
صححه ابن حبان (2056)، وابن الملقن في «البدر المنير» (4/ 385).
ووقع في سنده اختلاف، كما في «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 148)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 477)، و «المستدرك» للحاكم (1/ 375).
(2)
أخرجه أحمد (11019)، وأبو داود (574)، من طريق سليمان الأسود، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري به.
صححه ابن حبان (2398، 2399)، والحاكم (1/ 328).
ووقع في سنده اختلاف، كما في «العلل» للدارقطني (11/ 347).
(3)
انظر حديث أبي مسعود الأنصاري في البخاري (90) ومسلم (466).
(4)
كما في حديث أبي قتادة في البخاري (707) وحديث أنس في البخاري (708) ومسلم (470).
(5)
أخرجه أحمد (19146)، وأبو داود (802)، من طريق محمد بن جحادة، عن رجل، عن عبد الله بن أبي أوفى بلفظ:«كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم» .
وسنده ضعيف للرجل المبهم فيه، وقد ضعفه النووي في «الخلاصة» (2/ 689)، وابن الملقن في «البدر المنير» (4/ 410).
انتظار الداخل في الركوع. كلُّ ذلك رعاية لحال المأمومين.
ولأنَّ التأخير إذا كان لمصلحة راجحة مثل الصلاة بوضوء، والصلاة جماعةً، أو أن يكون امتثالًا لأمر أبيه أو سيِّده أو شبه ذلك= كان أفضلَ من التقديم. وهي هنا كذلك، لما تقدَّم.
فإن قيل: فما الفرق بين الفجر والعشاء وسائر الصلوات؟
قلنا: الفجر والعشاء يكون النوم في بعض أوقاتهما، فيشقُّ فعلهما في وقت النوم. وأما غيرهما من الصلوات فإنَّ جميع أوقاتها سواء، فكان التقديم متعيِّنًا، بل ربما كان في الصلاة آخرَ الوقت أو وسطَه مشقّةٌ عليهم حتى لا ينضبط. فأمَّا هنا فإنَّ الإسفار وقت منضبط؛ حتى لو كان جماعة في مكان قد تهيّأ بعضهم لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب، وبعضُهم لم يتهيَّأ، استحببنا التأخيرَ بحيث يتهيأ الجميع طردًا للقاعدة.
[ص 56] وبين الفجر والعشاء فرق، وهو أنَّ العشاء، المستحَبُّ فيها التأخير. وإنما تقدَّم إذا شقَّ على المصلِّين تأخيرها، والغالب حصول المشقة بذلك. والفجر، المستحَبُّ فيها التقديم، وإنما يؤخَّر إذا شقَّ على المأمومين تقديمُها، وليس الغالب حصول المشقة بذلك. وفرقٌ بين الاستحباب الناشئ من نفس الوقت، والاستحباب الناشئ من مصلحة المصلِّين، والله أعلم.
فصل
تجب الصلاة بأول الوقت إذا كان من أهل الوجوب حينئذ، ويستقرُّ الوجوب بذلك في الذمة عند أكثر أصحابنا، وهو المنصوص عنه. وقال ابن بطة وابن أبي موسى: لا يستقرُّ الوجوب حتى يمكنه الأداء
(1)
، وهو قياس إحدى الروايتين في الزكاة والحج والصوم. وصورة ذلك أن تزول الشمس على امرأة طاهر فتحيض، أو على عاقل فيُجَنُّ. وإن كان بعد التمكن من فعل الصلاة وجب القضاء قولًا واحدًا، وكذلك إن كان قبل التمكن من الفعل
(2)
، على المشهور. وعلى القول الآخر: لا يجب، لأنَّ هذا لم يقدر على الصلاة، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.
ووجه الأول: أنَّ دخول الوقت سبب للوجوب، فوجب أن يتعلَّق به ويستقرَّ كسائر الأسباب. والمُكنةُ
(3)
إنما تُعتبَر في لزوم الأداء، لا في نفس الوجوب في الذمة، بدليل ما لو دخل الوقت على نائم، ولم يستيقظ حتى خرج الوقت، فإنه يجب عليه القضاء، وإن لم يمكنه الأداء في الوقت.
ثم القضاء إنما يجب إذا أمكن. وإذا لم يمكن فلا شيء عليه. وقد روى حرب
(4)
بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال للنساء: لا تنَمْنَ عن العتَمة مخافة أن تحِضْنَ.
(1)
انظر: «الإرشاد» (ص 50) و «المبدع» (1/ 312) و «الإنصاف» (3/ 177).
(2)
في الأصل والمطبوع: «القضاء» ، ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
غيَّرها في المطبوع إلى «التمكن» ، وترك الفعل «تعتبر» على حاله.
(4)
«مسائل حرب» بتحقيق السريع (1/ 319).
فأما المسلم إذا ارتدَّ بعد دخول الوقت، فمن أصحابنا من يُلحقه بالعاقل إذا جُنَّ، ومنهم من لا يُلحِقه به. وحقيقة المذهب: أنَّا إن قلنا: لا يجب عليه قضاءُ ما تركه قبل الردَّة، فلا قضاء عليه بحال. وإن أوجبنا عليه قضاءَ ما تركه في الردَّة وقبلها، فليس من هؤلاء. وإن قلنا بالمشهور: أنه يقضي ما تركه قبلُ، دون ما تركه فيها، وكانت الردَّة بعد التمكُّن من الفعل= لزمه القضاءُ، لاستقرار الوجوب في الذمة. وإن كانت قبل التمكُّن، فكذلك أيضًا على المشهور. ففي ظاهر المذهب يجب القضاء على المرتدِّ بكلِّ حال.
وتجب الصلاة أيضًا بإدراك آخر جزء من الوقت. فإذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء في آخر جزء من وقت صلاةٍ، ولو أنه بقدر [ص 57] تكبيرة، فعليهما فعلُها أداءً إن أمكن، وإلَّا فقضاءً من غير خلاف في المذهب، لأنهما أدركا بعضَ الوقت على وجهٍ يصحُّ بناءُ ما بعده عليه، فأشبَه من أمكنه فعلُ الجميع في الوقت. وكذلك إن بلغ الصبُّي وعقَل المجنونُ، وقلنا: لا صلاة عليهما.
وإن كان الإدراك في وقت الثانية من المجموعتين وجبت الأولى أيضًا، لما ذكره الإمام أحمد وغيره عن عبد الرحمن بن عوف
(1)
وعبد الله بن عباس
(2)
رضي الله عنهما قالا: إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس صلَّت الظهرَ والعصرَ، وإذا رأت الطهر قبل أن يطلع الفجر صلَّت المغرب والعشاء.
وروى حرب
(3)
عن أبي هريرة قال: إذا طهرت قبل أن يطلع الفجر صلَّت المغرب والعشاء.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (7282)، وابن المنذر في «الأوسط» (824).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7284)، وابن المنذر في «الأوسط» (825).
(3)
«مسائل حرب» بتحقيق السريع (1/ 321).
وهذا لأنَّ مواقيت الصلاة خمسة في حال الاختيار، وثلاثة في حال العذر والضرورة، بدليل قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] وقوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، وأنَّ السنَّة مضت بذلك في حال العذر حتى جاز أن يصلِّي الظهر والعصر ما بين الزوال إلى غروب الشمس، ويصلِّي المغرب والعشاء ما بين الغروب إلى طلوع الفجر. وهو الجمع بين الصلاتين إذا أخَّر الأولى بنية الجمع، ثم حدث له عذر أخَّرهما بسببه إلى وقت الضرورة. وهذا وقت ضرورة، فلذلك كان مدركًا للأولى بما أدرك به الثانية.
وإن كان الإدراك في وقت الأولى بأن تحيض المرأة في وقت الظهر أو المغرب أو يُجَنَّ الرجل، فهل يجب عليهما قضاء العصر والعشاء؟ على روايتين:
إحداهما: يجب القضاء، لأن وقتهما واحد.
والثانية: لا يجب. وهي المنصورة عند أصحابنا، لأن وقت الأولى إنما يكون وقتًا للثانية إذا فعل الأولى، فتكون الثانية تابعةً لها؛ بخلاف وقت الثانية فإنه يكون وقتًا للأولى، فعَلَها أو لم يفعلها.
فصل
ومن لم يصلِّ المكتوبة حتى خرج وقتها، وهو من أهل فرضها، لزمه القضاء على الفور؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من نسي صلاةً فَلْيُصلِّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» متفق عليه
(1)
. وفي رواية لمسلم
(2)
(3)
: «من نسي صلاةً [ص 58] أو نام عنها، فكفَّارتها أن يصلِّيها إذا ذكرها» وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوُه رواه مسلم وغيره
(4)
.
وعن أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في النوم تفريط، فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكرها» رواه الجماعة إلا البخاري
(5)
. فأوجب صلى الله عليه وسلم القضاء على الفور مع التأخير لعذر، فمع التأخير لغير عذر أولى.
فإن قيل: تخصيص الحكم بالناسي دليل على أن العامد بخلافه. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ للصلاة وقتًا كوقت الحج
(6)
. وهذا يدل على
(1)
البخاري (597) ومسلم (684).
(2)
برقم (684/ 316).
(3)
لمسلم أيضًا (684/ 315).
(4)
أخرجه مسلم (680)، وأبو داود (435)، والنسائي (619)، وابن ماجه (697).
(5)
أحمد (22631)، ومسلم (681)، وأبو داود (441)، والترمذي (177)، والنسائي (615)، وابن ماجه (698).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (2034، 3747)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 386)، والطبراني في «الكبير» (9/ 275).
أن لا تُفعَل في غير الوقت.
قلنا: إنما خصَّ النائم والناسي إذ لا إثم عليهما في التأخير إلى حين الذكر والانتباه بخلاف العامد، فكان تأخيرها عن وقتها من الكبائر. ومعنى قول ابن مسعود أنه لا يحِلُّ له أن يؤخِّرها عن وقتها، ولا يُقبَل منه إذا أخَّرها، كما قال الصدِّيق رضي الله عنه: إنَّ لله حقًّا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقَّا بالنهار لا يقبله بالليل
(1)
. وذلك أن الله تعالى أوجب عليه أن يصلِّي، وأن يفعَل ذلك في الوقت. فالإخلالُ بالوقت لا يوجب الإخلالَ بأصل الفعل، بل يأتي بالصلاة، ويبقى التأخيرُ في ذمَّته؛ إمَّا أن يعذِّبه الله، أو يتوب عليه، أو يغفر له. ولم يُرِد أن الصلاة كالحجِّ من كلِّ وجه، فإنَّ الحجَّ لا يُفعَل في غير وقته، سواء أُخِّر لعذر أو لغير عذر؛ والصلاة بخلاف ذلك.
ومثل هذا ما روي أنَّ من أفطر يومًا من رمضان لم يقضِ عنه صيامُ الدهر كلِّه وإن
(2)
صامه
(3)
. يعني: من أجل تفويت عين ذلك اليوم، مع أنَّ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (38211)، وأبو داود في «الزهد» (53)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 35).
(2)
في الأصل: «إن» دون الواو، والتصحيح من مصادر التخريج.
(3)
أخرجه أحمد (9705)، والترمذي (723)، وابن ماجه (1672)، من طريق سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن المطوس، عن أبيه المطوس، عن أبي هريرة به.
علقه البخاري بصيغة التمريض (3/ 32)، وقال ابن حجر في «تغليق التعليق» (3/ 171):«فيه اضطراب واختلاف» ، ثم ذكر الاختلاف في إسناده. وضعفه الألباني في «ضعيف أبي داود: الكتاب الأم» (2/ 273). وانظر: «العلل الكبير» للترمذي (116) ، و «العلل» لابن أبي حاتم (3/ 36)، و «العلل» للدارقطني (8/ 266).
القضاء واجب عليه.
ويدل على ذلك أنَّ عمر وابن مسعود وغيرهما من السلف جعلوا تركَ الصلاة كفرًا، وتأخيرَها عن وقتها إثمًا ومعصيةً
(1)
، وفسَّروا بذلك قوله تعالى:{عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] وقوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59]. فلو كان فعلُها بعد الوقت لا يصحُّ بحال، كالوقوف بعرفة بعد وقته، لكان وجود تلك الصلاة كعدمها، وكان المؤخِّر كافرًا كالتارك. وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الأمراء الذين يؤخِّرون الصلاة حتى يخرج وقتها، وأمرَ أن يصلَّى خلفهم
(2)
. ولو كانت الصلاة فاسدة لم تصحَّ الصلاة خلفهم كالمصلِّي بغير وضوء.
ويجوز تأخير القضاء شيئًا يسيرًا لغرض صالح، مثل اختيار بقعة على بقعة، وانتظار جماعة [ص 59] يكثر بهم جمعُ الصلاة. بل يستحَبُّ له إذا نام عنها في موضع أن ينتقل عنه إلى غيره للقضاء. نصَّ عليه
(3)
، واختاره بعض أصحابنا إذا نام عنها في منزل في السفر. وذلك كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر في السفر وقال:«هذا منزل حضَرَنا فيه الشيطانُ»
(4)
؛ لأنَّ الصلاة في مظانِّ الشياطين كالحمام والحُشَّ لا تجوز، فالتي عرض الشيطان فيها، أحسنُ أحوالها أن يستحَبُّ تركُ الصلاة فيها.
ولا يجب عليه القضاء أكثر من مرَّة واحدة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقضِ يومَ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: «المغني» (2/ 347).
(4)
أخرجه مسلم (680).
الخندق
(1)
ويومَ نام عن الفجر أكثر من مرَّة واحدة
(2)
. وقد احتجَّ أحمد على ذلك بما رواه في «المسند»
(3)
بإسناد جيِّد عن عمران بن حصين قال: ثم أمرَ بلالًا، فأذَّن، ثم صلَّى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام، فصلَّينا. فقالوا: يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ فقال: «أينهاكم ربُّكم عن الربا، ويقبله منكم؟» وهذا لأن الواجب في الذمة صلاة واحدة، فلو أمر بصلاتين لكان ربًا.
فإن قيل: ففي حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَا إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقتُ الأخرى. فمن فعَل ذلك فليصلِّها حين ينتبه لها. فإذا كان الغد فليصلِّها عند وقتها» . رواه أحمد ومسلم
(4)
. وفي رواية ابن ماجه
(5)
: «فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكَرها، ولِوقتِها في الغد» .
قلنا: معناه ــ والله أعلم ــ فليصلِّها حاضرةً. وأكد الأمر بالمحافظة لئلا يتوهَّم أن الرخصة لغير المعذور، وليتحفَّظ من تفويت مرة أخرى. وقد رواه
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
برقم (19964).
وصححه ابن حبان (1461، 2650).
(4)
أحمد (22546)، ومسلم (681).
(5)
برقم (698).
وقد أعلّ البخاري هذه اللفظة، انظر:«السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 217)، و «البدر المنير» (3/ 194).
أبو داود
(1)
ولفظه: «من أدرك معكم في غد صلاةً، فليقض معها مثلَها» . وهذا ــ والله أعلم ــ توهُّمٌ من بعض الرواة بما فهم من المعنى. وقد علَّل البخاري هذه الرواية.
فصل
فإن كثرت عليه الفوائت وجب عليه أن يقضيها، بحيث لا يشقُّ عليه في نفسه أو أهله أو ماله، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أمرتُكم بأمر فأتُوا منه ما استطعتم» . فإن خاف في بدنه ضعفًا أو مرضًا أو انقطاعًا عن معيشة، أو تضرُّرَ أهلِه، أو ضياعَ ماله بالمداومة على القضاء= فرَّق القضاءَ بحسب طاقته.
وإذا شكَّ في قدر الفوائت
(2)
، فإن لم يعلم كم وجَب عليه، بأن يقول: لم أُصَلِّ منذ بلغتُ، أو صلَّيتُ
(3)
بعد بلوغي سنةً ــ وهو لا يعلم متى بلغ ــ ثم تركتُ= وجب عليه أن يقضي ما يتيقَّن وجوبَه، إذ الأصل براءة ذمته [ص 60] مما زاد على ذلك. لكن الأحسن أن يحتاط، فيقضي ما يتيقَّن به براءةَ ذمته.
(1)
برقم (438)، من طريق خالد بن سمير، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن أبي قتادة به. أعلّ البخاري وغيره هذه الرواية بالمخالفة، وحملوا فيها على ابن سمير، قال البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 216 - 217):«والذي يدل على ضعف هذه الكلمة وأن الصحيح ما مضى من رواية سليمان بن المغيرة أن عمران بن حصين أحد الركب كما حدث عبد الله بن رباح عنه، وقد صرح فى رواية هذا الحديث بأن لا يجب مع القضاء غيره» . وانظر: «فتح الباري» لابن رجب (3/ 338)، «ضعيف أبي داود: الكتاب الأم» (1/ 151).
(2)
في الأصل: «الفوات» ، والمثبت من حاشيته، وكذا في المطبوع.
(3)
في المطبوع: «أن صلَّيت» ، زاد «أن» .