الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن أبي موسى
(1)
: اختلف قوله في المسافر: هل يصلِّي ركعتي الفجر على الظهر أم لا؟ على روايتين، أظهرهما أن ذلك جائز. قال: وله أن يوتر
(2)
على الراحلة قولًا واحدًا.
ووجه الفرق أنه لم يُنقَل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلِّيهما إلا بالأرض
(3)
، ولأنه يتوكَّد فعلُهما في السفر، ويُفعلان تبعًا للفرض؛ فينزل لهما بالنزول له، ويفعلان معه على وجه الأرض. وبهذا يظهر الفرق بينهما وبين سائر التطوعات، لأنها إما أن لا تتوكَّد في السفر كسنَّة الظهر والمغرب أو تُفعَل منفردة كالوتر.
والصحيح: التسوية بين الجميع لعموم المعنى لذلك، فإنها من جملة التطوع، ويجوز أن يصلِّيهما قاعدًا، فكذلك على الراحلة.
مسألة
(4)
: (فإن كان قريبًا منها لزمته الصلاة إلى عينها. وإن كان بعيدًا فإلى جهتها)
.
وجملة ذلك أن الناس في القبلة على قسمين:
أحدهما: من يمكنه استقبال عين الكعبة. وذلك على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بحيث يراها مثل أن يكون داخل المسجد أو خارجًا
(1)
في «الإرشاد» (ص 86).
(2)
في مطبوعة «الإرشاد» : «أن يؤمَّ» ، وهو تحريف.
(3)
أخرجه مسلم (681)، من حديث أبي قتادة.
(4)
«المستوعب» (1/ 168)، «المغني» (2/ 100 - 102)، «الشرح الكبير» (3/ 330 - 336)، «الفروع» (2/ 121 - 125).
عنه وهو ينظرها، فعليه أن يستقبلها بجميع بدنه حتَّى لا يخرج شيء منه عنها. وإن خرج شيء منه عنها لم تصح صلاته. نصَّ عليه.
الثاني: أن يعلم ذلك، لكونه من أهل البلد وقد نشأ فيه، سواء كان بينه وبينها حوائل حادثة أو لم يكن، فإنه من طال مقامه بمكان من مكة علِم أين تكون القبلة منه.
الثالث: أن يخبره بذلك ثقة من أهل البلد، لكونه غريبًا، أو بينه وبينها حائل وعلى الحائل من يخبره بذلك، فإنَّ الإخبار بالأخبار كالإخبار بدخول الوقت عن علم، فإنَّ هذا الخبر لا يدخله الخطأ، وجواز الكذب من الثقة غير ملتفت إليه في مثل هذا.
قال أصحابنا: وحكمُ من كان بمدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حكمُ من كان بمكة، لأنَّ قبلته متيقَّنة الصحة، لأنه لا يُقَرُّ [ص 201] على الخطأ.
القسم الثاني: البعيد، فهذا فرضه الاستدلال والاجتهاد، لكن هل الواجب عليه طلب العين أو طلب الجهة؟ على روايتين:
إحداهما: أن فرضه طلبُ العين، فمتى غلب على ظنِّه أنه مستقبل العين أجزأه ذلك، وإن تبيَّن له أنه أخطأها فيما بعد ذلك، أو انحرف عنها انحرافًا يسيرًا.
وهذا اختيار أبي الخطاب
(1)
، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج: 26]، وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
(1)
في «الهداية» (ص 80).
الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]. وقد روى ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل البيتَ، ثم خرج، فركع ركعتين في قِبَل الكعبة، وقال:«هذه القبلة» متفق عليه
(1)
وفي حديث آخر أنه عدَّ الكبائر، وذكر منها استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا
(2)
.
وإذا كان نفس الكعبة هي القبلة، فيجب عليه أن يستدِلَّ على قبلته بحسب الإمكان. ولا يكفيه مجرَّدُ التوجُّه إلى جهتها، لأنَّ المستقبِل لجهتها قد لا يكون مستقبِلًا لها، ولأنه مخاطَب باستقبال الكعبة، فوجب عليه أن يقصِد عينَها حسب الطاقة كالقريب. وذلك لأنهما لا يفترقان في فرض استقبال الكعبة، وإنما يفترقان في أنَّ ذلك متيقِّن للصواب على التحديد، وهذا مجتهد في الإصابة على التقريب.
ولأنَّ المسافر يلزمه حينَ اشتباهِ الجهات تحرِّي جهة الكعبة، فكذلك العالِمُ بجهة الكعبة يلزمه تحرِّي جهة سَمت الكعبة حسب الطاقة، وإن كان على وجه التقريب والتخمين.
وعلى هذه الرواية، متى تيامن أو تياسر عن صَوب اجتهاده لم تصحَّ صلاته، لأنه يغلب على ظنِّه أنه منحرف عن قبلته، فأشبه القريبَ، بخلاف ما إذا توسَّط الجهةَ وتحرَّى نفسَ البيت.
والرواية الثانية: ما ذكره الشيخ رحمه الله أنَّ فرضه إصابة الجهة. فلو تيامن أو تياسر شيئًا يسيرًا ولم يخرج عن الجهة جاز. وأكثر الروايات عن أحمد
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
تدل على هذا. ولهذا أنكر وجوب الاستدلال بالجَدْي، وقال: إنما الحديث «ما بين المشرق والمغرب»
(1)
.
وهذا اختيار الخِرَقي وجماهير أصحابنا
(2)
، لأنَّ الله سبحانه قال:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. والمسجد الحرام: اسمٌ للحرم كلِّه. وشطرَه: نحوَه واتجاهه. فعُلِمَ أنَّ الواجب تولية الوجه إلى نحو الحرم، والنحو هو الجهة بعينها. ثم قال بعد ذلك:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]. والوجهة: الجهة. [ص 202] فعُلِم أنَّ الواجب تولِّي جهة المسجد الحرام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» رواه ابن ماجه، والترمذي
(3)
وقال: حديث صحيح. وروي
(1)
انظر: «مسائل أبي داود» (ص 67) و «المغني» (2/ 101) و «مجموع الفتاوى» (22/ 213).
(2)
«مختصر الخرقي» (ص 19)، «المستوعب» (1/ 167 - 168)، «الفروع» (2/ 124).
(3)
ابن ماجه (1011)، والترمذي (342)، من طريق أبي معشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
قال الترمذي: «حديث أبي هريرة قد روي عنه من غير وجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، واسمه نجيح مولى بني هاشم، قال محمد: لا أروي عنه شيئًا، وقد روى عنه الناس» ، وعده النسائي في «الصغرى» (2243) من مناكيره، وكذا ابن عدي في «الكامل» (5/ 188).
وأخرجه الترمذي (344) من طريق عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، ونقل عن البخاري أنه قال فيه:«أقوى من حديث أبي معشر وأصح» .
وأعل أحمد سائر طرقه، وقال:«ليس له إسناد» ، وقد فسّره أبو داود بقوله:«ليس له إسناد؛ لحال عثمان الأخنسي؛ لأن في حديثه نكارة» «مسائل أحمد» (300).
انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 9)، «فتح الباري» لابن رجب (2/ 289 - 291).
ذلك من حديث أبي قلابة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وروي أيضًا مسندًا من حديث ابن عمر
(2)
وغيره
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها؛ ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» . وهذا بيان لأنَّ ما سوى التشريق والتغريب استقبال للقبلة أو استدبار لها. وهذا خطاب لأهل المدينة ومن كان على سَمْتهم وقريبًا من سمتهم: أهلَ الشام والعراق واليمن ونحوهم، دون من كانت
(1)
علقه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 9).
(2)
أخرجه الدارقطني (1/ 270، 271)، والحاكم (1/ 323)، من طريقين عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر يرفعه.
قال البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 9): «تفرد بالأول ابن مجبر، وتفرد بالثاني يعقوب بن يوسف الخلال، والمشهور رواية الجماعة: حماد بن سلمة وزائدة بن قدامة ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر من قوله» ، وقال ابن رجب في «فتح الباري» (2/ 291):«رفعه غير صحيح عند الدارقطني وغيره من الحفاظ، وأما الحاكم فصححه، وقال: على شرطهما، وليس كما قال. وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، وابن المجبر مختلف في أمره، وقال أبو زرعة: هو وهم، والحديث حديث ابن عمر موقوف» .
انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 473)، «العلل» للدارقطني (2/ 31).
(3)
كحديث المطلب بن حنطب، وسيورده الشارح.
[قبلته]
(1)
إلى الركن الأسود أو الركن الغربي وما يقرب منهما من أهل المشرق والمغرب، الذين مساكنهم بين شام الأرض ويمنها على مسامتة مكة وما يقارب ذلك.
ولأن ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم. قال عمر: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلُّه إلا عند البيت. رواه أبو حفص
(2)
. وذكره أحمد، وقال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، إلا عند البيت فهذا لا يكون. ثم لأنه يأتمُّ بالبيت كيف دار. وإن صلَّى قريبًا من الركن، فزال عن الركن قليلًا ترك القبلة، فمكة غير البلدان. وفي رواية: إذا توجَّهت قِبلَ البيت
(3)
.
وروى الأثرم عن عمر
(4)
وعلي وابن عباس
(5)
أنهم قالوا: ما بين المشرق والمغرب قبلة. وعن عثمان أنه قال: كيف يخطئ الرجل الصلاة، وما بين المشرق والمغرب قبلة، ما لم يتحرَّ المشرق عمدًا
(6)
.
وروى أبو حفص عن ابن عمر قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة لأهل المشرق
(7)
. يعني به: أهل العراق ونحوهم.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
وأخرجه عبد الرزاق (3633)، وابن أبي شيبة (7509).
(3)
أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 9).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
أخرجه والذي قبله ابن أبي شيبة (7513، 7514).
(6)
أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (17/ 59).
(7)
أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة (7512).
وروى أبو حفص
(1)
عن المطَّلب بن حَنْطَب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا وجَّهتَ وجهَك نحو البيت الحرام» . يعني ــ والله أعلم ــ إذا وجَّهتَ وجهَك قِبلَه وتُجاهَه. وذلك يحصل باستقبال جهته، كما في قوله تعالى:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أي نحوَه وتلقاءَه. وأراد أن يبيِّن صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من قصد جهتها.
وأيضًا فإنهم أجمعوا على صحة صلاة الصفِّ المستطيل الزائد طوله على سَمْتِ الكعبة مع استقامته، بل على صحة صلاة أهل البلد الذي فيه مساجد كثيرة تصلِّي كلُّها إلى جهة واحدة، مع أنها يمتنع أن تكون [ص 203] قبلتها على خطٍّ مستقيم، وهي كلُّها على سَمْتِ عين الكعبة.
فإن قيل: مع البعد تحصل المواجهة والمحاذاة لكلِّ واحد مع كثرة المحاذين وطول صفِّهم، لأنَّ المحاذي مع البعد وإن احتاج إلى تقوُّس وانحناء، فهو مع البعد شيء يسير لا يضبط مثله.
قلنا: لو كان المفروض محاذاة نفس العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة، وأن لا يُتعمَّد تركُه، كما في القريب. فمتى سُلِّم جوازُ تعمُّدِ تركه فلا يُعنى باستقبال جهة الكعبة إلا ذلك، فيرتفع الخلاف.
وهذا المعنى هو الفارق بين القريب والبعيد، فإنَّ البعد إذا طال يكون المستقبِل للجهة والعين متقاربين جدًّا، حتَّى لا يكاد يميَّز بينهما. ومثل هذا يعفى عنه، كما عفونا عن سائر الشرائط مما يشقُّ مراعاته، مثل يسير النجاسة، ويسير العورة، والتقدُّم اليسير بالنية، وشبه ذلك؛ فإنَّ الدين أيسر
(1)
أورده ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 61)، بإسناد أحمد من رواية صالح، وقال:«حديث مرسل» .