الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من تكلُّف هذا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين فيهما [ضعف]
(1)
(2)
.
مسألة
(3)
: (وإن خفيت القبلة في الحضر سأل واستدلَّ بمحاريب المسلمين، فإن أخطأ فعليه الإعادة. وإن خفيت في السفر اجتهد وصلَّى، ولا إعادة عليه وإن أخطأ)
.
أما الاستدلال بمحاريب المسلمين، فلأن أهل الخبرة والعلم بجهة الكعبة نصبوها على ذلك، وليس فيها خطأ. وإن فُرِض فهو شيء يسير لا يجب مراعاته، مع قولنا باستقبال الجهة. وإذا قلنا: يجب استقبال العين، فإنه يعفى عن الخطأ اليسير مع الجهل.
وكذلك إذا أخبره مخبر ثقة بجهة القبلة عن عِلم، فإنه يقبَل خبرَه. وذلك لأنَّ الإخبار عن جهة القبلة ونصب المحراب إليها ليس هو من باب
(1)
زيادة مقترحة.
(2)
أخرجه البيهقي (2/ 9)، من طريق عمر بن حفص المكي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس به.
قال البيهقي: «تفرد به عمر بن حفص المكي، وهو ضعيف لا يحتج به، وروي بإسناد آخر ضعيف، عن عبد الله بن حبشى كذلك مرفوعًا، ولا يحتج بمثله» ، وكذا ضعفه ابن حجر في «التلخيص» (1/ 383).
(3)
«المستوعب» (1/ 168 - 170)، «المغني» (2/ 102 - 107، 114)، «الشرح الكبير» (3/ 334 - 345)، «الفروع» (2/ 125 - 127).
الاجتهاد، حتى يكون الرجوع إلى المخبر والباني
(1)
فيه الرجوع إلى تقليد مجتهد، وإنما هو من باب الإخبار عن الأمور المعلومة، لأنَّ أهل الأمصار يعلمون الجهات، ولا يخفى ذلك على أحد إصحاءَ السماء، ويعلمون أيضًا مكة من جهاتهم. فصار ذلك كالعلمِ بدخول الوقت، والعلمِ بطلوع الشمس من بعض الجهات. والراجعُ إلى المخبِر بذلك كالراجع إلى المخبِر بدخول الوقت عن علم، وبطلوع الشمس من جهة من الجهات.
فإن أخطأ في الحضر [ص 204] بأن تبيَّن خطأ المخبر، أو كذبُه، أو فسادُ بناء المحراب، أو غير ذلك؛ فعليه الإعادة في المشهور من المذهب. وقد نصَّ عليه أحمد
(2)
فيمن هو في مدينةٍ، فتحرَّى، فصلَّى لغير القبلة: يعيد، لأنَّ عليه أن يسأل.
وقال القاضي في «خلافه» : ظاهر كلام أحمد: حكمُ المكي وحكمُ غيره سواء في أنه لا يجب عليه الإعادة، فإنه قال في رواية صالح
(3)
: «قد تحرَّى» . فجعل العلَّة في الإجزاء وجودَ التحرِّي. وهذا موجود في المكي وغيره. وإذا كان هذا في المكي، ففي المقيم بسائر الأمصار أولى.
ووجه المشهور: أنه كان قادرًا على اليقين، فلم يُعذَر بالجهل وإن جاز له العمل بغالب الظن، كمن أفطر بخبر إنسان عند غروب الشمس ثم تبيَّن أنها طالعة، أو صلَّى بخبره عن دخول الوقت ثم تبيَّن أنه لم يدخل. ولقد كان القياس يقتضي أنه لا يجوز له العمل بدليل تدخله الشبهة ولو على بعد،
(1)
في الأصل والمطبوع: «والثاني» ، تصحيف.
(2)
في «مسائل أبي داود» (ص 68).
(3)
«مسائل صالح» (ص 68 - 69).
مع الاقتدار على الاستيقان. وإنما جاز لأنَّ احتمال الخطأ في ذلك نادر جدًّا لا يكاد يقع، فجُعِل كالمعدوم. فإذا تبيَّن خطأ الدليل لزمته الإعادة
(1)
في الوقت إلى إخبار المخبر الواحد إذا أمكنه العلم، وهذا الباب مثله. فعلى ذلك الوجه لا يرجع إلى إخبار واحدٍ بالجهة مع قدرته على اليقين؛ لكن العلم هنا بالجهة لا يمكن بالعيان لمن لم يسافر إلى مكة ويعلم أين هي من بلده، وإنما يمكن بالسماع المتواتر، وهو مثل العيان. ولذلك جاز الرجوع إلى المحاريب.
فصل
وأمَّا إذا خفيت في السفر، فإنه يجتهد بالاستدلال عليها بالأدلَّة المنصوبة، ولا إعادة عليه، وإن تبيَّن له الخطأ فيما بعد. قال أبو بكر: لا يختلف قول أبي عبد الله رحمه الله في ذلك. وكذلك إن صلَّى بتقليدِ من فرضُه ذلك، ثم تبيَّن أنه أخطأ، فلا إعادة عليه.
وذكر الإمام أبو بكر الدِّينوري
(2)
صاحب أبي الخطَّاب أن بعض المتأخرين قال: يجب عند الاشتباه أن يصلِّي أربع صلوات إلى الجهات الأربع
(3)
، وزعم أنه رواية عن أحمد. قال الدِّينوري: وهو قياس المذهب،
(1)
لعل بعده سقطًا في الأصل، وهو:«كمن رجع» أو نحوه.
(2)
أحمد بن محمد بن أحمد الدينوري البغدادي، أحد أئمة المذهب. توفي سنة 532. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 428).
(3)
ذكر ابن رجب هذه المسألة من غرائب الدينوري. انظر: «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 431). وانظر: «الانتصار» لأبي الخطاب (1/ 463) و «الإنصاف» (3/ 339).
كما إذا كان معه ثياب طاهرة ونجسة. قال الدِّينوري: وهذا صحيح فإنه قادر على أداء فرضه بيقين، من غير ضرر يلحقه في بدنه وماله، فيلزمه ذلك؛ كما لو نسي صلاةً من يوم لا يعلم عينها. وذلك لأنه اشتبه الواجب بغيره، فوجب فعلُ ما يتيقَّن به فعلُ الواجب؛ كما لو نسي صلاةً من يوم لا يعلم عينها، وكما لو اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة، [ص 205] أو اشتبه الموضع الطاهر من ثوبه بالنجس.
وهذا قول شاذّ مسبوق الإجماع على خلافه. والصواب: المنصوص
(1)
، لأن الله سبحانه قال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. وهذه الآية تدل على جواز استقبال جميع الجهات، نُسِخ ذلك في حقِّ العالم القادر في صلاة الفرض، فيبقى في حقِّ الجاهل بالقبلة، والعاجز عن استقبالها لخوف، ونحوه في حقِّ المتنفِّل في السفر لم يُنسَخ. وهذا لأنَّ الأصل جواز استقبال الوجه إلى جميع الجهات، لكن إذا لم يكن بدٌّ من الصلاة إلى واحدة منها عيَّن الله سبحانه لنا استقبال أحبِّ الوجوه إليه، وأوجبَ ذلك. فإذا تعذَّر ذلك بالجهل وبالعجز سقط هذا الوجوب حينئذ، لأنَّ الإيجاب حينئذ محال.
وأيضًا ما روي عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في ليلة مظلمة، فلم يدر أين القبلة، فصلَّى كلُّ رجل منَّا على حياله. فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} رواه ابن ماجه والترمذي
(2)
وقال: حديث
(1)
في الأصل والمطبوع: «والمنصوص» ، والظاهر أن الواو مقحمة.
(2)
ابن ماجه (1020)، والترمذي (345)، من طريق أشعث بن سعيد السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه به.
أعله الترمذي بتفرد أشعث كما ذكر الشارح، وفيه أيضًا عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف، كما في «الميزان» (2/ 353)، وضعفه ابن الجوزي في «التحقيق» (1/ 316)، وابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 358).
حسن. ليس إسناده بذلك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمَّان، وأشعث يضعَّف في الحديث.
قلت: وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده
(1)
عن أشعث بن سعيد وعمر بن قيس عن عاصم بن عبيد الله. وهو يقوِّي رواية أشعث، ويزيل تفرُّدَه به.
وقد روي هذا المتن من حديث جابر من حديث محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العَرْزمي عن عطاء عن جابر قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فأصابنا غيم، فتحيَّرنا، فاختلفنا في القبلة، فصلَّى كلُّ رجل منَّا على حدة، وجعل أحدنا يخُطُّ بين يديه لنعلم أمكنتنا. فذكرنا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرنا بالإعادة، وقال:«قد أجزأت صلاتكم» رواه الدارقطني وغيره
(2)
، وقال: هما ضعيفان.
ورواه الباغندي والحسن بن علي المعمري وغيرهما
(3)
عن أحمد بن
(1)
(2/ 462).
(2)
(1/ 271)، وأخرجه الحاكم (1/ 324)، من طريق محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر به.
ضعفه الدارقطني بابن سالم، والبيهقي في «المعرفة» (2/ 316)، وابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 358).
(3)
عزاه إليهما البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 12) بعد أن أخرجه (2/ 11)، وكذلك أخرجه الدارقطني (1/ 271).
قال البيهقي: «لا نعلم لهذا الحديث إسنادًا صحيحًا قويًّا» ، وقال ابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 359):«علته الانقطاع فيما بين أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري، وأبيه، والجهل بحال أحمد المذكور» .
عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدتُ في كتاب أبي: ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّةً كنتُ فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منَّا: القبلة هاهنا قِبَل الشمال، فصلَّوا، وخطُّوا خطًّا. وقال بعضنا: القبلة هاهنا قِبَل الجنوب، وخطُّوا خطًّا. فلما [ص 206] أصبحنا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فقدِمنا من سفرنا، فأتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك، فسكت. وأنزل الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . وهو إسناد مقارب.
وتعدّد
(1)
هذه الطرق مما يغلب على القلب أنَّ الحديث له أصل، وهو محفوظ؛ فإنَّ المحدِّث إذا كان إنما يُخاف عليه من سوء حفظه، لا من جهة التهمة بالكذب، فإذا عضده محدِّث آخر أو محدِّثان من جنسه قويت روايته، حتى يكاد أحيانًا يُعلَم أنه قد حفظ ذلك الحديث، لا سيما إذا جاء به محدِّث آخر عن صحابي آخر؛ فإنَّ تطرُّقَ سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة بعيد لا يُلتفَت إليه، إلا أن يعارض حديثَهم ما هو أصحُّ منه.
وقد روى أصحاب التفسير
(2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج نفر
(1)
في الأصل: «وبعد» ، وفي المطبوع:«وبعض» ، ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 394)، من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وضعفه ابن كثير.
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضَّباب، وحضرت الصلاة، فتحرَّوا القبلة، وصلَّوا. فمنهم من صلَّى قِبلَ المشرق، ومنهم من صلَّى قِبلَ المغرب، فلما ذهب الضَّباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا. فلمَّا قدِموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية. فهذا وإن لم يكن مما يُحتَجُّ به منفردًا، فإنه يشُدُّ تلك الروايات ويقوِّيها.
وقد استدلَّ أحمد بهذه الآية وتأوَّلها على ذلك. قال: إذا تحرَّى
(1)
القبلة، ثم صلَّى، فعلِمَ بعدما صلَّى أنه صلَّى لغير القبلة مضت. فتأول
(2)
بعض قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأينما تُولُّوا فثَمَّ وجهُ الله.
وقال في موضع آخر في الرجل يصلِّي لغير القبلة: لا يعيد، فأينما تولُّوا فثَمَّ وجه الله.
وهذا دليل على أن الصحابة تأوَّلوها على حال التحرِّي كما ذكرنا. ويشبه ــ والله أعلم ــ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم تلك الليلة، وإنما كان قد سرَّاهم سريَّةً، فلما أصبحوا لقُوه، وقد قفلوا من وجههم
(3)
ذاك. هكذا تدل عليه الروايات.
(1)
في الأصل: «تحرَّوا» ، والمثبت من المطبوع.
(2)
الفاء ليست واضحة في الأصل، وكذا وردت العبارة فيه. وقد يكون الصواب: «فتأوَّلَ تأوُّلَ بعض أصحاب
…
».
(3)
في الأصل والمطبوع: «وجوههم» ، ولعل الصواب ما أثبت.
فإن قيل: ففي حديث ابن عمر
(1)
أن هذه الآية نزلت في صلاة التطوع في السفر.
قلنا: لا منافاة بين هذين، فإنَّ الآية الجامعة العامة تنزل في أشياء كثيرة. إمَّا أن يراد به جميع تلك المعاني بإنزال واحد، وإمَّا أن يتعدَّد الإنزال إمَّا بتعدُّد عرضِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل عليه السلام أو غير ذلك. وفي كلِّ مرَّة تنزل في شيء غير الأول، لصلاح لفظها لذلك
(2)
كلِّه؛ على أنَّ قول الصحابة: نزلت الآية في [ص 207] ذلك قد لا يعنُون به سببَ النزول، وإنما يعنُون به أنه أريد ذلك المعنى منها، وقُصِد بها. وهذا كثير في كلامهم.
وأيضًا فإنَّ المصلِّي استقبل غيرَ القبلة جاهلًا بها جهلًا يُعذَر به، فلم تجب عليه الإعادة؛ كأهل قباء فإنهم لما بلغهم الخبر في أثناء الصلاة استداروا إلى جهة الكعبة، ولم يستأنفوا الصلاة إلى الكعبة. ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، مع أنَّ القبلة كانت قد حُوِّلت قبل
(3)
دخولهم في الصلاة. ولا فرق بين عدم العلم بوجوب
(4)
الاستقبال لتجدُّد النسخ وعدم العلم بالجهة الواجبة، إذا كان في كلا الأمرين معذورًا، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها. وهذه الدلالة اعتمدها أحمد رضي الله عنه في غير موضع من مسائله.
وقد ذكر عن عطاء وقتادة أن النجاشي كان يصلِّي إلى بيت المقدس إلى أن مات. وقد مات بعد نسخ القبلة بسنين متعدِّدة. فلما صلَّى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في الأصل: «كذلك» ، والتصحيح من حاشية الناسخ.
(3)
في الأصل والمطبوع: «بعد» ، ولعل الصواب ما أثبت.
(4)
في المطبوع: «بوجود» ، تحريف.
بقي في أنفسُ الناس، لأنه كان يصلِّي إلى غير الكعبة، حتَّى أنزل الله هذه الآية
(1)
.
وهذا ــ والله أعلم ــ لأنه
(2)
قد كان بلغه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى بيت المقدس، فصلَّى إليه. ولهذا لم يصلِّ إلى المشرق الذي هو قبلة النصارى. ثم لم يبلغه خبرُ النسخ لبعد البلاد، فعُذِر بها، كما عُذِر أهل قباء وغيرهم؛ فإنَّ القبلة لما حُوِّلت لم يبلغ الخبر إلى من بمكة من المسلمين، ومن كان بأرض الحبشة من المهاجرين مثل جعفر وأصحابه، ومن كان قد أسلم ممن هو بعيد عن المدينة، إلى مدة طويلة أو قصيرة. ولم يأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم بإعادة ما صلَّاه إلى بيت المقدس قبل علمه بالناسخ. وما ذلك إلا لأنه معذور لعدم العلم، وأنه كان متمسكًا بشريعة، فما
(3)
لم يبلغه نسخها لم يثبت في حقِّه حكمُ النسخ، لأنَّ الله لا يكلِّفه علم الغيب. فكذلك من اجتهد واستفرغ وسعه، أو عميت عليه الأدلَّة، لا يكلفه الله إلا وسعَه.
ولأنَّ القبلة المعيَّنة تسقط بالعجز حالَ المسايفة، وكذلك بالجهل حالَ الاشتباه، لأنَّ كلاهما
(4)
معذور في ذلك. ولأنه فعَل ما أُمِر به كما أُمِر به، فلم تلزمه الإعادة، كالمصلِّي إلى القبلة، وذلك أنَّ السماء إذا أطبقت
(1)
أخرجه ابن جرير (2/ 532) عن قتادة، والمصنف صادر عن «الكشف والبيان» للثعلبي (1/ 263) وقد نقله عن عطاء وقتادة.
(2)
في المطبوع: «بأنه» ، والمثبت من الأصل.
(3)
في المطبوع: «فلمَّا» ، وما ورد في الأصل صواب. و «ما» مصدرية ظرفية.
(4)
كذا في الأصل والمطبوع. وانظر ما علقت في كتاب الطهارة.
بالغيوم، وهو في صحراء من الأرض، قد عميت عليه سُبلُ الأدلَّة، وانحسمت مسالك الاجتهاد، فمن المحال أن يؤمر باستقبال جهة الكعبة.
ولأنَّ الطهارة أبلغ من الاستقبال، ولو اجتهد في طلب الماء ثم تبيَّن أنه كان مدفونًا تحت الأرض التي هو عليها [ص 208] لم تجب عليه الإعادة، حيث لم يقصِّر في الطلب؛ فالمجتهد في القبلة أولى. ولهذا حيث أوجبنا الإعادة على من أخلَّ ببعض الشرائط ناسيًا أو جاهلًا، أوجبناها لأنه في مظنَّة التقصير.
فصل
وأمَّا دلائل القبلة، فقد جرَّد الناس التصنيف فيها من أهل الفقه والحساب، فإنها تختلف باختلاف البلاد. فأهلُ كلِّ ناحية يخالفُ
(1)
وجهُ استدلالهم وجهَ استدلال الناحية الأخرى. والاشتباه له سببان:
أحدهما: أن لا يعرفَ
(2)
الجهات لغيم السماء ونحو ذلك، ولو علِم الجهات لعَلِم أين مكة منه، لعلمه بأنها يمانيّ بلده أو شاميّ بلده ونحو ذلك. وهذا هو الاشتباه الذي يعرض كثيرًا، فمتى قدَر هذا على معرفة جهة القبلة فقط
(3)
، أجزأته صلاته وإن قلنا: إنَّ الفرض تحرِّي عينها مع القدرة؛ لأنه عاجز عن ذلك في هذه الحالة.
(1)
في الأصل: «تخالف» .
(2)
في الأصل والمطبوع: «تعرف» .
(3)
في المطبوع: «فقد» خلافًا للأصل.
الثاني: أن يعلم الجهات، لكن لا يدري أين مكة منه. فهذا لا يكاد يشتبه عليه جهة القبلة، وإنما يشتبه عليه عينها. وصلاته أيضًا مجزئة إلى الجهة إذا لم يمكنه أكثر من ذلك قولًا واحدًا. وقد يقع هذا كثيرًا لمن قرب من مكة، وهو سائر، لا يعرف الأرض إذا وقع في طرقات مشيه.
والأدلَّة العامَّة ثلاثة أصناف: سمائية وهوائية وأرضية، كلٌّ منها مبنيٌّ على مقدّمتين:
إحداهما: أن تعلم
(1)
النسبةَ التي بين مكان الصلاة التي تريد
(2)
معرفة قبلته وبين الكعبة إن قصدتَ الاستدلال على العين، أو بينه وبين جهة الكعبة إن قصدتَ الاستدلال على الجهة.
والثانية: أن تعلم النسبة التي بين الدليل وبين الكعبة
(3)
أو جهتها.
فإذا علمتَ هاتين المقدِّمتين علمتَ النسبة التي يجب أن يكون المصلي إلى ذلك الدليل
(4)
.
مثال ذلك: إذا أردتَ الاستدلال على قبلة أهل الشام والعراق وما بينهما من الجزيرة، فقد علمتَ أنَّ جهة الكعبة من هؤلاء الجهة اليمانية. وأما العين فإنَّ أهل الشام يستقبلون ما بين الركن الشامي والميزاب، وأهل العراق يستقبلون ما بين الركن الشامي والباب، وأهل نجران ونحوهم يستقبلون
(1)
في الأصل والمطبوع: «يعلم» . وكذا في أول المقدمة الثانية.
(2)
في الأصل والمطبوع: «يريد» .
(3)
في الأصل والمطبوع: «أو بين الكعبة» ، والصواب ما أثبت.
(4)
كذا وردت العبارة في الأصل والمطبوع.