الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سالكوها، كطريق الأبيات اليسيرة. وبكلِّ حال فيجوز أن يصلَّى في الطرقات: التي يكثر لها الجمع، كالجُمَع والأعياد والجنائز؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك
(1)
.
الفصل السادس
في عُلو هذه الأمكنة وسطوحها
قال كثير من أصحابنا، منهم القاضي وأكثر أصحابه كالآمدي [ص 168] وابن عقيل وغيرهم: لا فرق في الحمام والحُشِّ وأعطان الإبل بين سُفْلِها وعُلْوِها، لأنَّ الاسم يتناول الجميع، والحكم معلَّق بالاسم
(2)
. قال الآمدي وابن عقيل: عُلْوُ المجزرة كسُفْلِها. ولم يذكره القاضي في المواضع المنهيِّ عنها، ولم يعدَّها ولا في المنهيِّ عنه عُلْوَ المزبلة.
ومن أصحابنا طائفة طردوا الحكمَ في عُلْوِ جميع المواضع المنهيِّ عنها على طريقة هؤلاء، لأنهم منعوا من الصلاة في عُلْوِ الأتُّون مع تعليله بأنه مزبلة. قالوا: ويدخل في كلِّ موضع منها ما يدخل فيه مطلقُ البيع والهبة من حقوق، من سفله وعلوه، اعتبارًا بما يقع عليها الاسم عند الاطلاق. ولأنَّ الحكم تعبُّد، فيناط بما يدخل في الاسم.
والفرق بين علو المزبلة وغيرها ــ على ما ذكره الأولون ــ: أنَّ عُلْوَ المزبلة لا يسمَّى مزبلةً، لأنَّ المزبلة: المكانُ المُعَدُّ لوضع الزبالة في الطريق ونحوه. ومعلوم أنَّ عُلْوَ تلك البقعة لا يسمَّى مزبلة، بخلاف الأعطان
والحشوش والمجازر فإنها أبنية تُبنَى لشيء يُقصَد سترهُ، ويُجعَل سقفُه تابعًا لقراره، فيتناوله الاسم.
وأمَّا أبو الخطاب
(1)
، فلم يمنع من هذه السطوح إلا من سطح الحُشِّ والحمَّام خاصَّةً. وهذا أجود مما قبله، لأنَّ الحُشَّ والحمَّام اسم لبناء على هيئة مخصوصة، لا تُتَّخَذ إلا لِما بني له، حتَّى لو أُريد لاتخاذه لغير ذلك لَغُيِّر عن صورته، فكان الاسم متناولًا لجميعه، وهو كان
(2)
قد أُعِدِّ
(3)
لشيء واحد، بخلاف العطَن فإنه اسم لما تقيم فيه الإبل وتأوي إليه، لا يختص ببناء دون بناء، حتَّى لو اتُّخِذَ عطنُها مُراحًا للغنم جازت الصلاة فيه، مع أنَّ صورته باقية. وعُلْوُ العطَن ليس متَّخذًا للإبل ولا مبنيًّا لذلك بناءً يخُصُّه، فلا يلحق به.
وكذلك المجزرة والمزبلة، إنما
(4)
تصير مجزرة ومزبلةً بالفعل فيها، لا بنفس بنائها. فليس العُلْو تابعًا للسُّفْل في الفعل، ولا في البناء المختصِّ بذلك.
ومن أصحابنا من قال بجواز الصلاة على عُلْوِ جميع هذه المواضع. وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا؛ لأنَّ ما فوق سقف الحُشِّ والحمّام قد لا يدخل في النهي لفظًا ولا معنًى؛ لأنَّ الاسم قد لا يتناوله. فإنه لو حلف: لا
(1)
في «الهداية» (ص 79).
(2)
«كان» ساقط من المطبوع.
(3)
في الأصل والمطبوع: «عد» . والظاهر أن الهمزة سقطت في النسخ.
(4)
لم يظهر حرف الميم في الصورة. وقراءة المطبوع: «أنها» .
يدخل حُشًّا ولا حمَّاما لم يحنَث بصعود على سطح حُشِّ أو حمام، بخلاف من حلف لا يدخل دارًا، لأن الحُشَّ والحمّام ونحوهما أسماء لأماكن معدَّة لأمور معلومة، وظهورُها ليست من ذلك في شيء. وكونُها مظِنَّة النجاسة أو مظِنَّة الشياطين لا يتعدَّى إلى ظهورها. والهواء تبعٌ للقرار في الملك [ص 169] ونحوه. أمَّا أنَّه يتبعه في كلِّ شيء، فليس كذلك، فإنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ هواء المزبلة ليس مزبلة، وهواء الحُشِّ الذي فوق سطحه ليس حُشًّا.
فأمَّا إن كان العُلو قد اتُّخذ لشيء آخر بحيث لا يتبع السُّفلَ في الاسم، فإنه تصح الصلاة فيه. قال أحمد في رواية أبي داود: إذا بنى رجلٌ مسجدًا، فأراد غيرُه هدمه وبناءه، فأبى عليه الأول، فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم. إذا أحبُّوا هدمَه وبناه. وإذا أرادوا أن يرفعوا المسجد، ويعمل في أسفله سقاية، فمنعهم من ذلك مشايخ ضَعفى، وقالوا: لا نقدر نصعد. فإنه يرفع، ويجعل سقاية. لا أعلم بذلك بأسًا. وينظر إلى قول أكثرهم
(1)
. فقد نصَّ على بناء المسجد على ظهر السقاية.
[و]
(2)
قال في رواية حنبل: لا ينتفع بسطح المسجد، فإن جُعل السطح مسجدًا انتفع بأسفله، وإن جُعل أسفله مسجدًا لا ينتفع بسطحه. وكذلك قال القاضي وغيره.
فإن كانت المساجد مغلقةً
(3)
على حوانيت أو سِقايات فالصلاة فيها جائزة؛ لأنَّ ما تحتها ليس بطريق. وقال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب
(1)
«مسائل أبي داود» (ص 69).
(2)
زيادة مني.
(3)
كذا في الأصل والمطبوع، ومقتضى السياق:«مبنيَّة» أو نحوها.
- رحمه الله
(1)
: إن كان المسجد سابقًا، وجُعِل تحته
(2)
طريقٌ أو عطَنٌ أو غيرُهما من مواضع النهي، أو كان في غير مقبرة، فحدثت المقبرة حوله= لم يمنع بغير خلاف، لأنه لم يتبع ما حدث بعده. وهذا يقتضي أنه جعل من صور الخلاف ما إذا أُحدِث المسجدُ على عطَن ونحوه من أمكنة النهي.
والذي صرَّح به الأصحاب هو ما ذكرناه، وهو منصوص أحمد. والفقه فيه ظاهر، فإنَّ العُلْو إذا اتُّخِذ لشيء آخر غير ما اتُّخِذ السُّفل له لم يكن أحدهما بأن يُجعل تابعًا للآخر بأولى من العكس. وإنما يُجعل تابعًا له عند الإطلاق. ألا ترى أنه لو قال: بعتُك هذا الحُشَّ وفوقه مسكن أو مسجد لم يدخل في مطلق البيع، بخلاف ما لو كان ظهره خاليًا. ولأنَّ الهواء إنما يتبع القرارَ في العقود عند الإطلاق، فإذا قُيِّد العقدُ بأن قيل: بعتُك التحتاني فقط، لم يدخل. واتخاذُ العلو لأمرٍ آخرَ غيرِ ما اتَّخذ له السفل بمنزلة إخراجه عن كونه تابعًا له في القول، وتقييدٌ له بصيغة توجب الانفراد. ولو حلف: لا يدخل حُشًّا أو عطَنَ إبل أو مزبلةً أو حمَّامًا، فدخل مسجدًا مبنيًّا على ظهور هذه الأشياء لم يجُز أن يقال: إنه يحنث في يمينه.
فصل
وأمَّا عُلْوُ المقبرة، فإن كان قد بني على المقابر بناءً منهيًّا
(3)
عنه كالمسجد، أو بناءً في المقبرة المسبَّلة، كانت الصلاةُ عليه صلاةً في موضع
(1)
في «المغني» (2/ 475).
(2)
في المطبوع: «تحت» ، خطأ.
(3)
في المطبوع: «منهي» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
محرَّم. أما البناء [ص 170] في المقبرة المسبَّلة، فإنَّ الصلاة عليه صلاةٌ على مكان مغصوب. والصلاة في علو المسجد صلاة في مسجد في القبور. وأيضًا فإنَّ الصلاة على ظهر البناء المذكور اتخاذٌ للقبور مساجد، ودخول في لعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الكتاب عليه، فانهم لما اتخذوا الأبنية على قبور أنبيائهم وصالحيهم لُعِنوا على ذلك، سواء صلَّوا في قرار المبنى أو علوه.
وان كان الميت قد دُفن في دارٍ، وأعلاها باقٍ على الإعداد للسكنى، فعلى ما ذكره أصحابنا تجوز الصلاة فيه، لأنَّ ذلك ليس من المقبرة أصلًا ولا تبعًا، إلا أن نقول بإلحاق العلو بالسفل مطلقًا، على الوجه الذي تقدَّم في علو العطَن والحُشَّ إذا كان مسجدًا.
وإن لم يبق مُعَدًّا للسكنى ونحوها، فهو كما لو دُفن في أرض مملوكة، ثم بُني عليه بناء لم يُعَدَّ للسكنى. فعلى ما دلَّ عليه كلام أحمد وأكثر أصحابه، لا يصلَّى فيه لأنَّ هذا البناء منهيٌّ عنه، وهو تابع للقرار في الاسم، فيقال هذه التربة وهذه المقبرة للعلو والسفل. ولأنَّ الصلاة في علو هذا المكان بالنسبة للمِّيت كالصلاة في أسفله. ولأنَّ حكمة النهي عن الصلاة عند القبر هو ما فيه من التشبُّهِ بعبادة الأوثان، والتعظيمِ المفضي إلى اتخاذ القبور أوثانًا؛ وهذه الحكمة موجودة بالصلاة في قرار الأبنية وعلوها، سواء قصد المصلِّي ذلك، أو تشبَّه بمن يقصد ذلك؛ وخيف أن يكون ذلك ذريعة إلى ذلك. ومن أجاز هذا البناء من أصحابنا ولم يجعل العلو تابعًا للقرار، فإنه يلزمه أن يجوِّز الصلاة فيه.
فصل
وأمَّا عُلْوُ الطريق مثل السوابيط
(1)
والأجنحة، سواء كانت مساجد أو مساكن، فالمشهور عنه: أنه لا يصلَّى على المساجد المحدَثة على الطرقات والأنهار التي تجري فيها السفن. وقال في رواية عبد الله وجعفر بن محمد: أكره الصلاة على نهر وعلى ساباط
(2)
. وقد ذكر أحمد ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعلَّل ذلك في غير موضع بأنه لا يجوز إحداثه، وأنه في حكم الغصب. وكذلك علَّله القاضي وكثير من أصحابه وغيرهم. ولهذا خصُّوا هذا بالساباط المحدث. قالوا: فإن كان الطريق محدثًا بعد ما بنى المسجد، مثل أن بنى على ملكه مسجدًا، فأُحدِث تحته بعد ذلك طريق يمرُّ الناس فيه، فلا كراهة فيه؛ لأنَّ أحمد إنما كره الصلاة على اتخاذه. هذا لفظ القاضي. قال: وقد تتوجَّه الكراهة أيضًا. وهذا الوجه هو مقتضى ما ذكره الآمدي وابن عقيل، فإنهما عمَّما المنعَ، وعلَّلا ذلك بأن الهواء تابع للقرار بدليل أن سطح المسجد يتبعه في أحكامه. وكذلك سطح الدار، فعلى هذا كلُّ طريق لا يصلَّى فيه [ص 171] لا يصلَّى في سقفه. وأما حكاية هذا عن القاضي فلا يصحّ.
والأول هو المذهب المنصوص، لأنَّ السَّاباط والجناح المبنيَّ على الطريق ليس داخلًا في اسم الطريق. وإنما الذي يتبع الطريق الهواء الذي بُني فيه، بخلاف سائر السقوف فإنها قد تتبع ما تحتها في الاسم، كما تقدَّم. وإذا
(1)
في المطبوع: «السوابط» ، والمثبت من الأصل، وهو جمع «ساباط» ، وقد تقدَّم تفسيره.
(2)
انظر: «مسائل عبد الله» (ص 66).
لم يكن البناء تابعًا فالهواء أيضًا ليس بطريق، وإنما هو من حقوق الطريق. ولا يلزم أن يكون حكم حقِّه كحكم نفسه في كلِّ شيء. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّل النهي عن الصلاة في الجوادِّ بأنها مأوى الحيَّات والسِّباع، وهذا مفقود في العلو. ولأنَّ الصلاة على يَمنة الطريق ويَسرته تجوز لكونها ليست من الجوادِّ والمحجَّة، فالعلو أبعَد عن الجادَّة والمحجَّة من ميمنتها وميسرتها. ولو كان غصبُ الميمنة والميسرة لا يجوز، ولو صلَّى فيها وهو غاصب لها لم تصحَّ صلاته.
ولأنَّ العُلْوَ إنما يتبع القرارَ في حكمه إذا لم يميَّز عن السُّفل، بل يُجعَل سقفًا له فقط. فأمَّا إذا أُعِدَّ لشيء غير ما أُعِدَّ له السُّفل لم يكن طريقًا البتَّة كالمسكن والمسجد المبنيِّ على ظهر السِّقاية ونحوها، فإنه ليس بسقاية. ولأنَّ الصلاة في السفينة [و]
(1)
على الراحلة تجوز في الجملة مع مسيرها في الطريق، فالصلاةُ على سقف الطريق أولى أن لا يكون صلاةً في الطريق، وأولى بالجواز.
قال بعض أصحابنا: ولأنه لو كان [علَّةُ]
(2)
المنع في علو الطريق كونه تبعًا له لجازت الصلاة في الساباط على النهر، لأنه موضع للصلاة في الجملة، بدليل ما لو جمد ماؤه أو كان في سفينة. وهذا ضعيف، لأنه إذا جمد لم يبق طريقًا للسفن، فإن مرَّ الناس فيه واتخذوه طريقًا لم تجُز الصلاة فيه. وأما الصلاة في السفينة، فهي كالصلاة على الراحلة، تجوز مع مسيرها في الطريق. فثبت أنَّ علَّة المنع أنه بناءٌ في هواء الطريق، وهذا غير جائز؛ لما
(1)
زيادة من حاشية الناسخ.
(2)
زيادة منِّي.
سنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه؛ فيكون كما لو بنى جناحًا أو ساباطًا في ملك غيره، فإنه يكون غاصبًا بذلك، وتكون الصلاة فيه صلاةً في مكان مغصوب.
فعلى هذا إن كان الساباط جائزًا مثل الساباط المبنيِّ على درب غير نافذ بإذن أهله، فإنه جائز بلا تردد. وكذلك إن كان الساباط لا يضرُّ بالمارَّة، وقد أذن فيه الإمام، فإنه جائز فيما ذكره أصحابنا. وإن كان بدون إذن الامام لم يجز في المشهور. وحكي رواية أخرى بالجواز. فأما ما يضرُّ بالمارَّة فإنه ممنوع رواية واحدة.
وأما المسجد المبني في الطريق، فإن كان يضيِّق الطريق لم يجُز، لأنه غصبٌ للطريق. وإن كان الطريق واسعًا بحيث لا يضرُّ المارَّة بناؤه فيه، فعنه: يجوز. [ص 172] وعنه: لا يجوز.
وعنه: إنما يجوز بإذن الإمام خاصَّةً. فإذا جاز إحداثه في جانب الطريق، فإحداثه في هوائه إذا لم يكن فيه ضرر أولى بالجواز. ولهذا لا يجوز لأحد أن يبني في جانب الطريق الواسع لنفسه بناءً، وإن جاز أن يبني فيه مسجدًا للناس. وقد يجوز أن يبني لنفسه ساباطًا إذا أذن فيه الإمام.
وقد روى محمد بن ماهان السِّمسار
(1)
عن أحمد أنه تجوز الصلاة في الساباط المحدَث على الطريق، دون الساباط المحدَث على النهر. فعلَّله بعضُ أصحابنا بأن الطريق محلٌّ للصلاة في الجملة إذا اتصلت الصفوف في
(1)
النيسابوري المتوفى سنة 284، له مسائل حسان عن الإمام أحمد. ترجمته في «طبقات الحنابلة» (2/ 361).
الجُمَع والأعياد، بخلاف النهر الكبير. ويحتمل أن تكون علَّته أنَّ في اتخاذ الساباط على الطريق منفعةً لأبناء السبيل، لأنه يسترهم من الحرِّ والمطر والثلج، بخلاف الساباط على النهر فإنه لا منفعة فيه لأحد.
فصل
وأما الصلاة إلى هذه المواضع، فقد نصَّ أحمد في مواضع على كراهة الصلاة إلى المقبرة والحُشِّ والحمام. قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا تصلَّى فيه الفريضة. وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخَّص أن يصلَّى فيه على الجنائز، ولا يصلَّى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثَد عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تصلُّوا إلى القبور»
(1)
وقال: إسناده جيد.
وقال في رواية الميموني، وقد سئل عن الصلاة إلى المقابر والحُشِّ: نكرهه
(2)
.
وقال في رواية أبي طالب، وقد سئل عن الصلاة إلى
(3)
المقبرة والحمام والحُشِّ، فكرهه
(4)
، وقال: لا يعجبني أن يكون في القبلة قبر ولا حُشٌّ ولا حمام، وإن كان يجزئه ولكن لا ينبغي.
قال أبو بكر في «الشافي» : يتوجَّه في الإعادة قولان:
أحدهما: لا يعيد، بل يُكَره. وهذا هو المنصوص في رواية أبي طالب، وهو اختيار القاضي.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في المطبوع: «فكرهه» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(3)
في الأصل والمطبوع: «في» ومقتضى السياق ما أثبت.
(4)
في المطبوع: «وكرهه» ، والمثبت من الأصل. وقد يكون صوابه أيضًا:«نكرهه» .
والثاني: يعيد لموضع النهي. قال أبو بكر: وبه أقول
(1)
. قال ابن عقيل: نصَّ أحمد على حُشٍّ في قبلة مسجد، لا تصح الصلاة فيه. وكذلك قال ابن حامد: لا تصح الصلاة إلى
(2)
المقبرة والحُشِّ. ولم يذكر الحمام. وقال كثير من أصحابنا منهم الآمدي: لا تجوز الصلاة إلى القبر. وصرَّح جماعة منهم بأن التحريم والإبطال مختصٌّ بالقبر، وإنما كُرهت الصلاة إلى هذه الأشياء لما تقدَّم عن أبي مرثَد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تصلُّوا إلى القبور»
(3)
. وكذلك حديث عمر وغيره في النهي عن الصلاة إلى القبر
(4)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يكره الصلاة في [ص 173] مسجدٍ قُبالتُه نَتْنٌ أو قذَر. رواه البخاري في «تاريخه»
(5)
.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: تُكرهَ الصلاة إلى حُشٍّ. رواه سعيد
(6)
.
وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون ثلاثة أبيات أن يكون قبلة: الحمَّام، والحُشُّ، والقبر. رواه حرب
(7)
.
(1)
انظر: «المغني» (2/ 473).
(2)
في الأصل والمطبوع: «في» ، ومقتضى السياق ما أثبت. انظر:«المقنع مع الشرح الكبير» (3/ 310) و «المبدع» (1/ 350).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
«التاريخ الكبير» (4/ 1/139) وفيه: «قبلته» .
(6)
تقدم تخريجه.
(7)
تقدم تخريجه.
وذهبت طائفة من أصحابنا إلى جواز الصلاة إلى هذه المواضع مطلقًا من غير كراهة. وهو قول ضعيف جدًّا لا يليق بالمذهب.
ومنهم من لم يكره ذلك إلا في القبر خاصّةً، لأن النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صحَّ في الصلاة إلى القبور كما تقدَّم، ولأنها هي التي يخاف أن تُتخذ أوثانًا، فالصلاة إليها شبيهة بالصلاة بين يدي صنم، وذلك أعظم من الصلاة بينها. ولهذا كانوا يكرهون من الصلاة إلى القبر ما لا يكرهونه من الصلاة إلى المقبرة. وهذا
(1)
حجة من رأى التحريم والإبطال مختصًّا بالصلاة إلى القبر، وإن كره الصلاة إلى تلك الأشياء. وهو قول قويٌّ جدًّا، وقد قاله كثير من أصحابنا.
ووجه الكراهة في الجميع ما تقدَّم عن الصحابة والتابعين من غير خلافٍ علمناه بينهم. ولأنَّ القبور قد اتُّخذت أوثانًا، وعُبِدت، فالصلاةُ إليها تشبه
(2)
الصلاة إلى الأوثان. وذلك حرام وإن لم يقصده المرء. ولهذا لو سجد إلى صنم بين يديه لم يجُز ذلك.
والحُشُّ والحمَّامُ موضعُ الشياطين ومستقرُّهم. وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالدنوِّ إلى السُّترة خشيةَ أن يقطع الشيطان على المصلِّي صلاته
(3)
، وقال:«تفلَّتَ عليَّ البارحةَ شيطانٌ، فأراد أن يقطع عليَّ صلاتي»
(4)
وقال: «الكلب
(1)
في المطبوع: «هذه» ، والمثبت من الأصل.
(2)
في الأصل والمطبوع: «بالصلاة إليها يشبه» ، وأشار كاتب النسخة في هامشه إلى الصواب.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
الأسود يقطع الصلاة»
(1)
ووجَّه ذلك بأنه شيطان. فتبيَّن
(2)
بذلك أنَّ مرورَ الشيطان بين يدي المصلِّي يقدح في صلاته، فالصلاة إلى مستقرِّه ومكانه مظِنّة مروره بين يدي المصلِّي. ولأنَّ الصلاة إلى الشيء استقبال له، وتوجُّه إليه، وجعلٌ له قبلةً؛ فإنَّ ما يستقبله المصلِّي قبلةٌ له، كما أنَّ البيت قبلة له. يبيِّن هذا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن النُّخامة في القبلة
(3)
. والاستقبالُ داخل في حدود الصلاة. ولهذا أُمِرنا أن نستقبل في صلاتنا أشرفَ البقاع وأحبَّها إلى الله، وهو بيته العتيق. فينبغي للمصلِّي أن يتجنَّب استقبال الأمكنة الخبيثة والمواضع الرديئة. ألا ترى أنَّا نُهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، فكيف إذا كان البول والغائط والشياطين ومواضع ذلك في القبلة وقت الصلاة؟
قال القاضي: ولأنَّ القبر والحُشَّ مدفن النجاسة، وقد بينَّا كراهة الصلاة إلى النجاسة.
قال: [ص 174] ويكره الصلاة إلى قوم من أهل الذمة. نصَّ عليه في رواية عبد الله
(4)
في ملَّاحين مَجوس يكونون بين يدي القوم في السفينة وهم يصلُّون
(5)
: ينحُّونهم
(6)
ويصلُّون. وقال في رواية أبي طالب: هو نجس،
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
في المطبوع: «وتبين» ، والمثبت من الأصل.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
لم أجدها في «مسائله» .
(5)
«وهم يصلُّون» ساقط من المطبوع، ولعله حذف لإصلاح العبارة.
(6)
قراءة المطبوع: «بنجوفهم» ، وفسَّر في التعليق معنى منجاف السفينة. ولعله تصحيف ما أثبت.
وكرهه. قال: وإنما كره ذلك لأن من الناس من يقول: إنهم أنجاس. وقد كُره للانسان أن يصلِّي مستقبلًا لنجاسة، لأنَّ قبلته جهة رحمته. ولهذا منع القاضي أن يستقبل القبلة بغائط أو بول، فأولى أن يكره للمصلِّي ذلك.
وقال غير القاضي: لا تُكرَه
(1)
الصلاة إلى شيء من النجاسات.
ولا فرق عند عامَّة أصحابنا بين أن يكون الحُشُّ في ظاهر جدار المسجد أو في باطنه. واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلِّي وبين الحشِّ ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يُكرَه، كما لو كان بينه وبين المارِّ حائل.
والأول هو المأثور عن السلف، وهو المنصوص، حتَّى قال في رواية أبي طالب في رجل حفَر كنيفًا إلى قبلة المسجد: يُهدَم. وقال في رواية المرُّوذي في كنيف خلف قبلة المسجد: لا يصلَّى إليه. وقيل له: إنَّ الدار لأيتام، والحائط لهم، ترى أن يضرب على الحائط ساج أو شيء؟ قال: إن كان وصيًّا غيَّر الكنيفَ أو حوَّلَه. وإن كانوا
(2)
صغارًا لم يرخّص لهم أن يضربوا عليه الساج. وقال: يعجبني أن يكون بينهما أذرع. فقيل له: يضيق المسجد. فقال: وإن ضاق. قال القاضي: فقد نصَّ على إزالة الحُشِّ من ظهر القبلة، وبيَّن أنه إذا جُعل بينه وبين المسجد حائل بالساج لا يزيل الكراهة حتى يفصل بين الحُشِّ وبين قبلة المسجد. قال ابن حامد وغيره: ومتى كان بين الحُشِّ وبين حائط المسجد حائط آخر جازت الصلاة إليه.
فأما المقبرة إذا كانت قُدَّامَ حائط المسجد، فقال الآمدي وغيره: لا تجوز الصلاة إلى المسجد الذي قبلته إلى المقبرة، حتَّى يكون بين حائطه
(1)
في المطبوع: «لا نكره» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(2)
في الأصل: «كان» .
وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم أن هذا منصوص أحمد لقوله المتقدِّم في رواية الأثرم.
وقال القاضي: إذا لم يكن ــ يعني المصلِّي ــ في أرض المقبرة، بل كانت المقبرة أمامه، فقال شيخنا: إن كان بينه وبينها حاجز جازت الصلاة، لأنه ليس يصلِّي فيها ولا إليها. وإن لم يكن بينه وبينها حاجز لم تجُز الصلاة، كما لو كان في أرضها. فإن كان بينه وبين هذه الأشياء عدَّة أذرع لم تكره الصلاة، على ما نصَّ عليه في رواية المرُّوذي.
فصل
وأما الصلاة في سائر المواضع المنهي عنها، فقال القاضي: تكره الصلاة إليها، كما تكره إلى هذه المواضع. فتكره الصلاة إلى الطريق [ص 175] وأعطان الإبل والمجزرة، لأنَّ النصَّ على واحد منها تنبيهٌ على غيرها، ولأنَّها مظانُّ النجاسات.
وقال كثير من أصحابنا: لا تكره الصلاة إلى بقية المواضع. وهذا هو المنصوص عن أحمد في بعضها. قال في رواية ابن هانئ ــ وقد سئل عن الصلاة إلى شطِّ النهر، والطريقُ أمامه ــ: أرجو أن لا يكون به بأس، ولكن طريق مكة يعجبني أن يتنحَّى عنه
(1)
. ونحو ذلك نقل المرُّوذي. وذلك لأنَّ الأثر لم يرِد بذلك، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان تُنصَب له العنزةُ، فيصلِّي إليها، والناس يمرُّون بين يديه
(2)
. وقال: «إذا صلَّى أحدكم فليجعل بين يديه مثل
آخرة الرَّحل، ثم لا يضرُّه ما مرَّ أمامه»
(1)
. ولم يفرِّق بين الطريق وغيرها، مع العِلم بأنَّ المرور أكثر ما يكون في الطرقات.
وهذه المسائل وما يشبهها تُناسِب بابَ القبلة والسُّترة، وإنما هذا استطراد.
فصل
وأما الصلاة في الكعبة، فالنفلُ فيها أخفُّ من الفرض. فإذا صلَّى النافلة في جوف الكعبة صحَّت صلاته. هذا هو المعروف والمشهور عن أحمد وأصحابه.
وحُكي عنه رواية أنه لا يصحُّ النفل فيها. وحكي عنه أنه يصحُّ ولا يستحَبُّ، لما سيأتي في الفرض.
ووجه المذهب: ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أحِبُّ أن أدخل البيت، فأصلِّي
(2)
فيه. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأدخلني الحِجْرَ، فقال:«صَلِّي في الحِجْر إذا أردتِ دخولَ البيت، فإنما هو قطعة من البيت» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه
(3)
، وصححه الترمذي.
وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي كنتُ رأيتُ قرنَي الكبش حين دخلتُ البيتَ، فنسيتُ أن آمرك أن تخمِّرهما، فخَمِّرهما،
(1)
أخرجه مسلم (499) من حديث طلحة بن عبيد الله.
(2)
في المطبوع: «وأصلي» ، والمثبت من الأصل.
(3)
أحمد (24616)، وأبو داود (2028)، والترمذي (876)، والنسائي (2912).
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن خزيمة (3018).
فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يُلهي المصلِّي» رواه أحمد وأبو داود
(1)
.
وعن سالم عن أبيه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم. فلما فتحوا كنتُ أول من ولَج، فلقيتُ بلالًا، فسألته: هل صلَّى فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم بين العمودين اليمانيين. متفق عليه
(2)
.
وفي رواية للبخاري
(3)
عن ابن عمر: أنه كان إذا دخل الكعبة جعل الباب قِبلَ ظهره، ومشى، حتَّى إذا كان بينه وبين الجدار الذي قِبلَ وجهه قريبًا من ثلاثة أذرع صلَّى؛ يتوخَّى المكان الذي أخبره بلال أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى فيه.
وفي رواية لأحمد والبخاري
(4)
أنه قال لبلال: هل صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلتَ. ثم خرج [ص 176] فصلَّى في وجه الكعبة ركعتين.
وفي رواية متفق عليها
(5)
: قال: جعل عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمِدة. ثم صلَّى.
(1)
أحمد (16637، 23221)، وأبو داود (2030).
(2)
البخاري (1598) ومسلم (1329).
(3)
برقم (506).
(4)
أحمد (23907) والبخاري (397).
(5)
البخاري (505) ومسلم (1329).
وفي رواية متفق عليها
(1)
: ونسيتُ أن أسأله كم صلَّى؟ وهي أصح، فلعلَّ ابن عمر فيما بعد علِمَ أنه صلَّى ركعتين.
وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة؟ قال: صلَّى ركعتين. رواه أبو داود
(2)
.
وعن ابن عمر وأبي جعفر عن أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في الكعبة. رواه أحمد
(3)
.
وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في البيت ركعتين، وُجاهَك حين
(4)
تدخل، بين الساريتين. رواه أحمد
(5)
.
(1)
البخاري (2988) ومسلم (1329).
(2)
أبو داود (2026)، وأحمد (15553).
في إسناده يزيد بن أبي زياد متكلم فيه، كما في «الميزان» (4/ 423)، وبذلك أعله النووي في «شرح مسلم» (9/ 84)، وابن القطان في «بيان الوهم» (4/ 288).
وصححه بشواهده الألباني في «صحيح أبي داود: الكتاب الأم» (6/ 265).
(3)
برقم (21759)، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي، عن أبي جعفر الباقر، عن أسامة به.
إسناده ضعيف، للانقطاع بين الباقر وأسامة، انظر:«جامع التحصيل» (266)، وقال ابن كثير في «جامع المسانيد» (1/ 235):«منقطع أو معضل» ، وبنحوه ابن حجر في «إتحاف المهرة» (1/ 293).
(4)
في المطبوع: «حيث» ، تصحيف.
(5)
برقم (15387)، من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عثمان بن طلحة به.
إسناده ضعيف، للانقطاع بين عروة وعثمان، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 212):«مرسل، لا يتابع عليه حماد» ، وكذا أعله البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 328).
فقد أمَر صلى الله عليه وسلم عائشة بالصلاة في البيت
(1)
، وصلَّى هو في البيت
(2)
، وأمر بصَون البيت عما يُلهي المصلِّي فيه
(3)
. فعُلِم أنَّ الصلاة فيه جائزة، وأنه موضع للصلاة. وقوله في الحديث الماضي:«وظهر بيت الله الحرام»
(4)
دليل على أنَّ
(5)
باطنه ليس من مواضع النهي.
فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لما دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم البيتَ دعا في نواحيه كلِّها، ولم يصلِّ حتى خرج منه. متفق عليه
(6)
. وفي رواية عن ابن عباس عن أسامة نحو ذلك، رواه أحمد ومسلم
(7)
.
قيل: أمَّا دخولُ النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ والصلاةُ فيها، فقد ثبت على وجه لا يمكن دفعه، وكان ذلك عامَ الفتح. قال ابن عمر: أقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وهو مُردِف أسامة على القصواء، ومعه بلال وعثمان. وذكر الحديث. أخرجاه
(8)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في المطبوع: «أنه» .
(6)
البخاري (398) ومسلم (1331).
(7)
أحمد (21754) ومسلم (1330).
(8)
سبق تخريجه.
وأما حديث ابن عباس، فربما ظنَّ أنه كان في حجَّة الوداع، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يصلِّ فيها؛ إلا أنه قد روي فيه عن ابن عباس ما يدل على أنه أراد دخوله عامَ الفتح أيضًا.
فإن لم يكن حديث ابن عمر وحديث ابن عباس في وقتين متغايرين وإلا
(1)
فحديث ابن عمر هو الصواب، لأنه مثبِت عن بلال شيئًا شاهدَه وعاينه، والمثبت أولى من النافي؛ ولأن ابن عباس لم يدخل معهم، بل كان إذ ذاك صغيرًا له نحو عشر سنين، وإنما روى الحديث عن أسامة، وقد روى غيره عن أسامة خلافه. فإن لم يكونا واقعتين، فلعل أسامة كان مشغولًا بدعاء وابتهال حين دخول البيت في بعض نواحيه، فلم ير النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي، لاسيَّما والباب موجَف عليهم. ثم لعله بعد ذلك أخبره أسامة [ص 177] أو عثمان أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى فيه.
فصل
ولا بدَّ أن يكون بين يديه شيء من الكعبة في حال قيامه وركوعه وسجوده. فلو سجد على منتهى السطح أو على عتبة الباب لم تصح صلاته، لأنه لم يستقبل شيئًا من القبلة، بل هو مصلٍّ إلى غير الكعبة. فإن كان الذي بين يديه ليس بشاخص، مثل أن يصلِّي إلي الباب وهو مفتوح وليست له عتبة شاخصة، أو يصلِّي على السطح ولا سترة أمامه، لم تصح صلاته في المنصوص من الوجهين.
(1)
وقعت «وإلا» هنا في غير موقعها، والصواب حذفها. وقد تكرر نحو هذا التركيب في كتب المصنف وتلميذه ابن القيم. انظر ما علَّقت في كتاب «الداء والدواء» (ص 209).
قال في رواية الأثرم: إذا صلَّى فوق الكعبة فلا تجوز صلاته. وقال في رواية ابن الحارث: لا يصلِّي فوق بيت الله الحرام. وقال في رواية الأثرم: أما فوق الكعبة فلم يختلفوا أنه لا يجوز. واحتجَّ بالحديث «لا قبلة له» . وهذا اختيار الآمدي وابن عقيل، وحكي ذلك عن القاضي وعامة أصحابنا.
وفي الثاني: تصح. وهو اختيار جماعة من المتأخرين، وهو الذي ذكره القاضي في «المجرَّد» ، فإنه قال: تجوز الصلاة النافلة فيها إذا توجَّه إلى غير الباب، وإن توجَّه إلى الباب وهو مغلق أو مردود أجزأه. وإن كان مفتوحًا وكان بين يديه من عرصة البيت جاز، وإن لم يكن لم يجُز. قال: وإن انهدم البيت وبقيت العرصة، ولم يبق هناك منها شيء شاخص عن وجه الأرض، وصلَّى بناحية العرصة متوجِّهًا إليها= أجزأه. وإن وقف على العرصة لم تجزئه الفريضة. وإن كانت نافلةً، ولم يكن بين يديه شيء منها، كأن
(1)
وقف آخرها متوجهًا إلى غيرها، لم تُجزئه. وإن وقف على العرصة وبين يديه منها ما يتوجَّه إليه وسجد أجزأه.
قال: ولا تجوز الفريضة على ظهر الكعبة. وتجوز صلاة النافلة إذا كان بين يديه شيء منها. فإن لم يكن بين يديه شيء منها كأن
(2)
وقف على السطح بحيث لا يكون بين يديه شيء من أرض السطح لم يُجزئه، إلا أن يكون بين يديه شيء منصوب بناء أو خشبة مسمَّرة. فإن كان فوقه لبِن أو آجُرٌّ معبَّأ بعضه على بعض، أو خشبة معروضة غير مسمَّرة= لم تُجْزِئه؛ لأنه ليس من البيت، بدليل أنه لا يتبعه في البيع. وكذلك لو كان حبل ممدود.
(1)
في الأصل: «كأنه» ، والمثبت من المطبوع.
(2)
انظر التعليق السابق.
فهذا يبيِّن أن القاضي إنما اشترط البناء الشاخص في موضع لم يكن بين يديه شيء من العرصة، وأنَّ المشروط عنده أحد أمرين: شيء من أرض السطح أو البناء؛ كما أنه في الصلاة إلى الباب اعتبر أحد أمرين: إمَّا كون الباب سترةً له، أو كون شيء من العرصة بين يديه. وهذا إيضاح وتبيين؛ لأنه يلزم من كون الباب والسترة بين يديه أن يكون بين يديه شيء [ص 178] من العرصة.
ووجه ذلك أنَّ الواجب استقبال هوائها دون بنائها، بدليل المصلِّي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية، فإنه إنما يستقبل الهواء لا البناء، بدليل ما لو انتقضت الكعبة ــ والعياذ بالله ــ فإنه يكفيه استقبال العرصة والهواء. فعلى هذا إذا صلَّى في الحِجْر وهو مستدبر البناء أو مستقبل الممرِّ، وقلنا: إن استقبال الحِجْر جائز، فيجب أن يجزئه. وفيه قبح.
والأول أصحُّ؛ لما تقدَّم من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها» . وعَدَّ منها «فوق ظهر بيت الله» . وفي لفظ: «ظاهر بيت الله»
(1)
.
وعن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن الصلاة على ظهر الكعبة
(2)
. ذكره القاضي.
فلو لم تجب الصلاة إلى شيء شاخص مرتفع لم يكن بين ظاهر بيت الله وباطنه فرق. بل هذا نصٌّ في منع الصلاة فوق ظهر بيت الله.
ولا يجوز أن يحمل على ما إذا سجد على منتهى الكعبة؛ لأن الحديث
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
لم أقف عليه.
عامٌّ في جميع المواضع التي فوق الظهر عمومًا مقصودًا، وهذه الصورة نادرة لا يجوز أن تُقصَد وحدها من مثل هذا العموم، من
(1)
غير قرينة يبين بها مراد المتكلم، فإنَّ هذا لو وقع كان تلبيسًا. ثم إن هذه الصورة أمرها ظاهر لا يخفى على أحد، فلا تكاد تُقصَد بالبيان. ثم إن مثل هذه الصورة تقع في الصلاة في جوف الكعبة إذا استقبل البابَ مفتوحًا. ثم إنَّ
(2)
جميع المواضع التي ذكر أنه لا تجوز الصلاة فيها من المقبرة والحُشِّ والحمام لا يصلَّى في شيء منها. كذلك ظهر الكعبة يجب أن لا يصلَّى في شيء منه، وهذا ظاهر لمن تأمَّله.
وأيضًا فإن هذا إجماع عن السلف، كما حكاه أحمد رضي الله عنه، وكما سيأتي تقريره.
وأيضًا فقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «هذه القبلة»
(3)
، وفي حديث آخر:«استحلالُ الكعبة البيت الحرام قبلتِكم أحياءً وأمواتًا»
(4)
دليل على أنَّ القبلة هو الشيء المبنيُّ هناك الذي يشار إليه، ويمكن استحلاله، وتسمَّى كعبة وبيتًا.
(1)
في الأصل والمطبوع: «مع» .
(2)
في المطبوع: «أنه» ، والمثبت من الأصل.
(3)
في حديث ابن عباس، وقد سبق تخريجه، وسيأتي مرة أخرى.
(4)
أخرجه أبو داود (2875)، من طريق عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه به.
إسناده ضعيف، قال البخاري:«عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، في حديثه نظر» ، أسنده العقيلي في «الضعفاء» (3/ 516)، ثم أخرج هذا الحديث في ترجمته، وقال الحاكم (4/ 288):«قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان» ، قال الذهبي معقبًا:«قلت: لجهالته، ووثقه ابن حبان» .
وأيضًا فإنَّ الله سبحانه قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وقال:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، فبيَّن أن الطواف والركوع والسجود إنما هو متعلِّق بالبيت، والبيت أو الكعبة لا يكون اسمًا إلا للبناء. فأمَّا العرصة والهواء فليس هو بيتًا ولا كعبة.
وأيضًا فلو كان استقبال هواء العرصة [و]
(1)
الطواف به كافيًا لم يجب بناء البيت، ولم يُحتَج إليه. فلما أمر الله إبراهيمَ خليله ببناء بيته وبدعاء الناس إلى حجِّه حينئذ، وكان من أشراط الساعة خراب هذه البنية= عُلِمَ أنَّ دين الله منوط ببِنية [ص 178] تكون هناك، وأن لا يكون وجودها وعدمها سواء، وأنَّ هذه البنية إذا زالت زوالًا لا تعود بعده، فقد اقترب الوعد الحقُّ بما يكون من رفعِ كتاب الله المنزَّل من الصدور والمصاحف، وقبضِ أرواح المؤمنين الذين هم أهل دين الله. وذلك دليل واضح أنه لا دين يقوم لله إلا بوجود البِنية المعظَّمة المكرَّمة المشرَّفة.
وأيضًا فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سنَّ لكلِّ مصلٍّ أن ينصب بين يديه شيئًا يصلِّي إليه، وكرِه الصلاة إلى الهواء المحض، فكيف تكون قبلة الله التي يجب استقبالها هواءً محضًا؟
وأما ما ذكروه من الصلاة على
(2)
أبي قبيس ونحوه، فإنما ذاك لأنَّ بين يدي المصلِّي قبلة شاخصة مرتفعة، وإن لم تكن مسامِتة له، فإنَّ المسامَتة غير مشروطة؛ كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام مع أنَّ المأموم خلفه،
(1)
واو العطف من حاشية الناسخ.
(2)
في الأصل والمطبوع: «إلى» ، تحريف.
فكذلك المصلِّي على أبي قبيس خلف الكعبة ووراءها، وإن كان أعلى منها.
وأمَّا إذا زال بناء الكعبة فنقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئًا يصلِّي إليه، لأنَّ أحمد جعل المصلِّي على ظهر الكعبة لا قبلة له، فعُلِم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص.
وكذلك قال الآمدي: إن صلَّى بإزاء الباب وكان الباب مفتوحًا لم تصح الصلاة، وإن كان مردودًا صحت الصلاة. وإن كان الباب مفتوحًا وبين يديه شيء منصوب كالسُّترة صحَّت الصلاة لأنه يصلِّي إلى جزء من البيت. فإن زال بنيانُ البيت ــ والعياذ بالله ــ وصلَّى وبين يديه شيء صحَّت الصلاة. وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح الصلاة. وإن صلَّى على ظهر الكعبة الفرض لم تصحَّ صلاته. وإن صلَّى النفل وليس بين يديه شيء لم تصح صلاته. فإن كان بين يديه شيء صحَّت صلاته.
وهذا من كلامه يدل على أنَّ البناء لو أزيل لم تصحَّ الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء. وإنما يعني به ــ والله أعلم ــ شيئًا شاخصًا، كما قيَّده فيما إذا صلَّى إلى الباب. وكذلك قوله في الصلاة على الظهر، إذ لا يجوز أن يفرَّق بين الصلاة على الظهر والصلاة على الباب؛ ولأنه علَّل ذلك بأنه إذا صلَّى إلى سترة فقد صلَّى إلى جزء من البيت. فعُلِم أنَّ مجرَّد العرصة غير كاف.
ويدل على [ذلك]
(1)
ما ذكره الأزرقي في «أخبار مكة»
(2)
عن ابن جريج قال: سمعتُ غير واحد من أهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير حين
(1)
زيادة من حاشية الناسخ.
(2)
(1/ 206).
هدم الكعبة وبناها، وذكر الحديث إلى أن قال: فما ترجَّلت الشمس حتى ألصقها كلَّها بالأرض من جوانبها جميعًا. وكان هدمُها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين. ولم يقرَب ابن عباس رضي الله عنه مكةَ حين هُدمت الكعبة [ص 180] حتَّى فُرِغ منها. وأرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة. انصِبْ لهم حول الكعبة الخشبَ، واجعل عليها الستورَ حتى يطوف الناس من ورائها، ويصلُّوا
(1)
إليها. ففعل ذلك ابن الزبير رضي الله عنهما وذكر الحديث.
وقد رواه مسلم في «صحيحه»
(2)
عن عطاء في قصة ابن الزبير لما هدم البيت وأعاده على قواعد إبراهيم قال: فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدةً، فستَّر
(3)
عليها الستور، حتَّى ارتفع بناؤه.
وهذا من ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم دليل على أن القبلة التي يطاف بها ويصلَّى إليها لا بد أن تكون شيئًا منصوبًا شاخصًا، وأن العرصة ليست قبلة. ولم يُنقل أنَّ أحدًا من السلف خالف ذلك ولا أنكره.
نعم، لو فُرِض أنه قد تعذَّر نصبُ شيء من الأشياء موضعَها بأن يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان
(4)
، فهنا ينبغي أن يكتفى حينئذ باستقبال العرصة، كما يكفي المصلِّيَ أن يخُطَّ خطًّا إذا لم يجد سترة،
(1)
في الأصل والمطبوع: «ويصلُّون» . ولعل الألف بعد الواو تحرفت إلى النون. وفي «أخبار مكة» كما أثبت.
(2)
برقم (1333).
(3)
في الأصل والمطبوع: «يستر» ، وهو تصحيف ما أثبت من «الصحيح» .
(4)
كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (1591) ومسلم (2909).
فإنَّ قواعد إبراهيم كالخطِّ، ولأنه فرضٌ قد عجز عنه، فيسقط بالتعذُّر كغيره من الفروض.
ولا يلزم من الاكتفاء بالعرصة عند [تعذّر]
(1)
استقبال البناء الاكتفاءُ بها عند القدرة على استقبال البناء، لأن فرض استقبال القبلة يسقط بالعجز كالخائف والمحبوس بين حائطين وغيرهما. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم»
(2)
. ولا يمتنع الصلاة في شيء من الأوقات ولا الطوافُ بالبيت لعدم البناء أصلًا إذا تعذَّر في تلك الساعة الطواف والصلاة إلى بناء، كما لا يمتنع الصلاة لتعذُّر شيء من شروطها وأركانها.
وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أنَّ البناء إذا زال صحَّت الصلاة إلى هواء البيت، مع قولهم: إنه لا يصلي على ظهر الكعبة. ومن قال هذا يفرِّق بأنه إذا زال لم يبق هناك شيء شاخص مستقبَل، بخلاف ما إذا كان هناك قبلة تُستقبَل. ولا يلزم من سقوط استقبال الشيء الشاخص إذا كان معدومًا سقوطُ استقباله إذا كان موجودًا، كما فرَّقنا نحن بين حال إمكان نصب شيء، وحال تعذُّر ذلك؛ وكما يفرَّق في سائر الشرائط بين حال الوجود والعدم، والقدرة والعجز.
فإذا قلنا: لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنه يكفي شخوصه، ولو أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب. قاله ابن عقيل.
وقال أبو الحسن [ص 181] الآمدي: لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان مفتوحًا، لكن إن كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحَّت الصلاة.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
سبق تخريجه.
فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها، بل لا بدَّ أن يكون مثل مؤخرة الرَّحل لأنها السترة التي قدَّر بها الشارع القبلة المستحبة، فلأن تُقدَّر بها القبلة الواجبة أولى.
ثم إن كانت السترة فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمَّرة ونحو ذلك، مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك، جازت الصلاة إليه؛ لأنه جزء من البيت. وإن كان هناك لَبِن أو آجُرٌّ بقي
(1)
بعضه فوق بعض، أو خشبة معروضة غير مسمَّرة أو حبل ونحو ذلك، لم يكن قبلةً، فيما ذكره أصحابنا؛ لأنه ليس من البيت.
ويتوجَّه أن يكتفى في ذلك بما يكون سترة لأنه شيء شاخص في هواء البيت، فأشبه بناءَه، فإن ذلك قبلة سواء اتصل بالعرصة أو لم يتصل بها. ولأن البيت كان رَضْمًا
(2)
من الحجارة غير مبنيٍّ، مع كون الطواف به كان مشروعًا. ولأنَّ حديث ابن عباس وابن الزبير فيه دليل على الاكتفاء بكلِّ ما يكون قبلة وسترة، فإنَّ الخشب والسُّتور المعلَّقة عليها لا تتبع في مطلق البيع.
فصل
فأمَّا استقبالُ الحِجْر، فقال ابن عقيل في «الواضح»
(3)
: لا يستقبل هواءه ولا يعتدُّ بالصلاة إليه، بخلاف هواء الكعبة في العلو إذا صعد على أبي
(1)
كذا في الأصل والمطبوع، ولعل الصواب:«نُضِّد» أو «عُبِّي» ، وقد سبق قريبًا قوله:«آجرٌّ معبأ بعضه على بعض» .
(2)
الرَّضْم والرَّضَم: صخور عظام يوضع بعضها فوق بعض في الأبنية.
(3)
(4/ 226).
قبيس. ولو هُدِمت العمارة جاز استقبال هوائها بخلاف الحِجْر. قال: وخروج الحِجر عن خصيصة القبلة في الصلاة كخصيصة القرآن المنسوخ تلاوةً، فحكمه ثابت، ولا تجوز الصلاة به
(1)
.
وذلك لأنَّ الحِجر بخروجه عن الكعبة في البناء لم يبق قبلةً، لأنَّ القبلة ما بني للاستقبال، والحِجْر ليس كذلك وإن كان من البيت. ولأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام، وإنما وردت أحاديث بأنه كان من البيت، فعُمِل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف به، دون الاكتفاء بالصلاة إليه احتياطًا للعبادتين.
وقال القاضي في «خلافه» : يجزئه التوجُّه إليه في الصلاة، وتصح صلاته كما لو توجَّه إلى حائط الكعبة. وهذا أقيَس بالمذهب لأنه من البيت بالسنَّة الثابتة المستفيضة، وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لمَّا نقضه ابن الزبير.
والحِجْر كلُّه ليس من البيت، وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرُع وشيء. فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة. ولا بد أن يستقبل شيئًا شاخصًا منه، فإن استقبل ما ليس بشاخص مثل أن يصلِّي إلى الممرِّ أو إلى ناحية الشام، فإنَّ الجدار الشامي من الحِجْر ليس مبنيًّا في الكعبة؛ فعلى الوجهين المتقدِّمين.
[ص 182] فصل
وأما صلاة الفرض في الكعبة حيث تصحُّ صلاة النافلة، ففيها روايتان.
(1)
قارن النقل بما ورد في كتاب «الواضح» المطبوع.
إحداهما: أنها كصلاة النافلة على ما تقدَّم من الأحاديث، لأنَّ الفرض والنفل مستويان في جميع الشرائط والأركان إلا ما استثني من ذلك، مثلَ القيام والصلاة على الراحلة في السفر حيث توجَّهت به ونحو ذلك؛ فالتفريقُ بينهما في غير ذلك يحتاج إلى دليل. ولأنَّ الاستقبال الواجب في الفرض واجب في النفل على المقيم، ولو لم يكن المصلِّي في البيت مستقبلًا للقبلة لما صحَّ فيها النفل. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:«صلِّي في الحِجْر إذا أردتِ دخولَ البيت» ولم يفرِّق. وقال للسَّادِن: «إنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يُلهي المصلِّي»
(1)
ولم يفرِّق.
والرواية الثانية، وهي المشهور نصًّا ومذهبًا: أنَّ الفرض لا يصح في الكعبة، لأنَّ الله سبحانه قال:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، أي نحوَه وتلقاءَه بإجماع أهل العلم، لأنَّ «الشَّطْر» له معنيان، هذا أحدهما. والآخر بمعنى النصف، وذلك المعنى ليس مرادًا، فتعيَّن الأول. وإذا كان الله قد فرض تولية الوجه نحو الكعبة، وذلك هو الصلاة إليها، فالمصلِّي فيها ليس بمصلٍّ إليها، لأنه لا يقال لمن صلَّى في دار أو حانوت: إنه مصلٍّ اليه. وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما أُمِر الناسُ أن يصلُّوا إلى الكعبة، ولم يؤمروا أن يصلُّوا فيها
(2)
.
ولأنَّ التوجُّه إليها إنما يكون باستقبالها كلِّها، أي استقبالِ جميع ما
(1)
سبق تخريج الحديثين.
(2)
لم أقف عليه بلفظه، وأخرجه بمعناه عبد الرزاق في «المصنف» (5/ 78 - 79) من عدة أوجه.
يحاذيه منها. فإذا استقبل بعضَها فليس بمولٍّ وجهه إلى الكعبة، بل إلى بعض ما يسمَّى كعبة.
ولأنه إذا استقبل البعضَ واستدبر البعضَ فليس وصفُه باستقبالها بأولى من وصفه باستدبارها. بل استدبارُ بعضها ينافي الاستقبال المطلق. ولهذا قال ابن عباس: لا تجعل شيئًا من البيت خلفك. ذكره أحمد
(1)
.
يبيِّن هذا أنَّ الله سبحانه أمر بالطواف به، كما أمر بالصلاة إليه؛ وأخرجهما
(2)
مخرجًا واحدًا في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وقال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، كما قال تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. ثم الطواف فيه لا يجوز، فكذلك الصلاة فيه. ولمَّا وجب على الطائف أن يطوف به كلِّه وجب على المصلِّي أن يستقبله كلَّه. واستقبالُ جميعه يحصل بأن تكون القبلة كلُّها أمامه وإن خرج بعضها عن مسامتة بدنه ومحاذاته، فإنَّ المطابقة ليس من معنى الاستقبال في شيء؛ إذ لو كانت من معناه ما صحَّ أن يستقبل الجسم الكبير للصغير ولا الصغير [ص 183] للكبير. نعم، لو خرج هو على مسامتتها ببعضه لم يكن مستقبلًا لها. فعلى هذا لا يصلِّي الفرضَ في الحِجْر. نصَّ عليه، فقال: لا يصلِّي في الحِجْر، الحِجرُ من البيت
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (9059)، والحميدي (2/ 305).
(2)
يعني الطواف والصلاة. وفي الأصل: «وأخرجها» . وفي المطبوع: «وإخراجها» . والصواب ما أثبت.
(3)
انظر: «الإنصاف» (3/ 331).
فأمَّا [نذر]
(1)
الصلاة، فإن نذَر الصلاةَ في الكعبة جاز، كما لو نذر الصلاة على الراحلة.
وأمَّا إن نذر الصلاةَ مطلقًا اعتبر فيها شروط الفريضة، لأن النذر المطلق يُحذَى فيه حذوَ الفرائض. فإذا نذره بصفة جائزة في الشرع قبل النذر يعتدُّ بها، كما لو نذَر أن يهدي هديًا لم يجزئه إلا ما يجزئ في الهدايا الواجبة. ولو نذر أن يهدي دراهم أو دجاجة ونحو ذلك صحَّ نذره. وقد روى أصحابنا أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله إنِّي نذرتُ أن أصلِّي في البيت، فقال:«صَلِّي في الحِجْر، فإنه من البيت»
(2)
.
وهل المانع استدبارُ بعضه فقط، أو استقبال جميعه شرط أيضًا؟ على وجهين:
أحدهما: أنَّ المانع استدبار بعضه. وقد أومأ إليه في رواية ابن القاسم، وقد سئل عن الصلاة المكتوبة في الكعبة، فقال: في نفسي منه شيء. وحكي عن ابن عباس أنه كان ينكره
(3)
.
ولأنه يجعل بعضَ البيت خلفَه. والتطوع أسهل. والصلاة فوقه أشدُّ من الصلاة فيه. وفي بعض كتب أصحابنا هذه الرواية: الصلاةُ فوقه أسهل من الصلاة فيه، وأظنه غلطًا في الكتاب. فعلى هذا إذا وقف على عتبة الباب، أو
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
لم أقف عليه، وقد تقدم ذكر كراهة ابن عباس الصلاة في الكعبة مطلقًا، انظر:«المصنف» لعبد الرزاق (5/ 78 - 79).
على منتهى السطح بحيث لا يكون خلفه شيء، أو وقف خارجًا منه وسجد على بعضه كالحِجْر والشاذَرْوان
(1)
ونحو ذلك= صحَّت صلاته.
والوجه الثاني: لا بد أن يستقبل جميعَه، فلا تصح صلاته في هذه الصور. وهذا أقيس، كالطواف فإنَّ الطواف به لا فيه، وكذلك الصلاة إليه لا فيه.
وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في البيت، فإنها كانت تطوعًا. ولذلك أغلق عليه البابَ هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة
(2)
. وإنما كان يصلِّي المكتوبة بالمسلمين كلِّهم في الجماعة العامَّة. ولأنَّ ذلك الوقت لم يكن وقت مكتوبة، لأنه دخل مكةَ ضحًى، وفي تلك الساعة دخل البيتَ، ثم صلَّى بالمسلمين صلاة الظهر في المسجد. ولا يجب إلحاقُ الفرض به، لأنه صلى الله عليه وسلم صلَّى داخل البيت ركعتين، ثم خرج، فصلَّى إلى البيت ركعتين، ثم قال:«هذه القبلة»
(3)
، فيشبه ــ والله أعلم ــ أن يكون ذكرهُ لهذا الكلام في عقب الصلاة خارجَ البيت بيانًا لأنَّ القبلة المأمور باستقبالها هي البِنية كلُّها، لئلا يتوهَّم متوهِّم أنَّ استقبال بعضها كافٍ في الفرض، لأجل أنه صلَّى التطوع في البيت، وإلّا فقد علِم الناس كلُّهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة، فلا بدَّ أن يكون لهذا الكلام [ص 184] فائدةٌ وعلمُ شيء قد يخفى ويقع في محلِّ الشبهة.
(1)
وهو من جدار البيت الحرام ما تُرك من عرض الأساس خارجًا، ويسمَّى تأزيرًا لأنه كالإزار للبيت.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
وابن عباس روى هذا الحديث، وفهِم منه هذا المعنى، وهو أعلم بما سمِع، لكن لم يبلغه حديثُ بلال أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى داخل الكعبة، فحمل الحديثَ على العموم في المكتوبة والتطوع. فالواجب أن يوضع حديثُ ابن عباس موضعَه، وحديثُ ابن عمر موضعَه، ويُعمَل بكلا الحديثين.
يبيِّن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما صلَّى داخله أغلق عليه البابَ، وكانت الفرائض كلُّها إنما يصلِّيها خارجَ البيت. ولو كانت المكتوبة جائزة في البيت لكان يمكنه أن يصلِّي المكتوبة بالناس في الحِجْر تحصيلًا لفضيلة أداء الفرض في الكعبة. فلما لم يفعل شيئًا من ذلك دلَّ على أنَّ ذلك خاصٌّ بالتطوع.
وهذا لأنَّ الشارع يوسع في تجويزه على أحوال شتَّى لا تجوز في المكتوبة، خصوصًا في أمر القبلة، فإنه جوَّز التطوعَ للمسافر السائر إلى أيِّ جهة توجَّه لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، لئلا يكون الاستقبال مانعًا له من الصلاة. فكذلك من دخل بيتَ ربِّه وأحبَّ الصلاة لربِّه فيه لا يمكنه ذلك مع الاستقبال التام، فعُفي له عن كمال الاستقبال إذا أتى بالممكن منه تحصيلًا لمقصود الزيارة وتحية البيت، إذ كان هذا المقصود لا يمكنه فعلُه إلا في البيت، وكان فرضُ كمال الاستقبال لا يمكن معه تحيَّةُ البيت والصلاةُ فيه لله، وذلك أمر مطلوب كما قلنا في صلاة المسافر سواء. فأما الفرض فلا اختصاص له بمكان دون مكان، فكانت المحافظة على كمال الاستقبال الذي هو شرط أولى من فعله في نفس البيت، ولا حاجة إلى فعله في البيت، فلم يسقط فرضُ الاستقبال بحال. ولهذا مضت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّة خلفائه الراشدين بذلك. ألا ترى أن الفرض لو كان مشروعًا في البيت لكان ينبغي أن يقف الامام في
الحِجْر، ليحصل فضلُ الصلاة فيه والصلاة إليه؛ فإنَّ ذلك أكمل ــ لو كان ممكنًا ــ من الصلاة إليه فقط، ومعلوم أنَّ هذا خلاف سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّة المسلمين أجمعين.
فصل
قال أكثر أصحابنا: لا تُكرَه الصلاة في الكنيسة والبِيعة النظيفة.
وذكر ابن عقيل فيهما روايتين: إحداهما كذلك
(1)
. والثانية: تكره. واختارها لأنَّ فيه تعظيمًا لها وتكثيرًا لجمعهم؛ ولأنهم ربما كرهوا دخولنا إليها فيكون غصبًا، ولأنها مواضع الكفر ومحلُّ الشياطين، فكُرِهت الصلاة فيها، كما كُرهت في المكان الذي حضرهم فيه الشيطان.
[ص 185] ووجه الأول: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلَّى في كنيسة بالشام. رواه حرب
(2)
.
وعن ابن عباس أنه لم يكن يرى بأسًا بالصلاة في البِيَع إذا استقبل القبلة
(3)
.
(1)
ومثله في «مسائل الكوسج» (2/ 634). وانظر: «الفروع» (8/ 372).
(2)
لم أقف عليه من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه ابن أبي شيبة (4904) بمثله عن عمر بن عبد العزيز.
وقد أخرج عبدالرزاق (1/ 411)، والبخاري في «باب الصلاة في البيعة» تعليقًا، عن عمر بن الخطاب أنه قال:«إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور» ، وأخرج ابن أبي شيبة (4896) عن بكر بن عبد الله، قال:[كُتِب] إلى عمر من نجران: لم يجدوا مكانًا أنظف، ولا أجود من بيعة؟ فكتب:«انضحوها بماء وسدر، وصلوا فيها» .
(3)
أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 194).
وعن أبي موسى أنه صلَّى بحمص في كنيسة تُدعى كنيسةَ يُحَنَّا
(1)
، ثم خطبهم، ثم قال: أيها الناس إنكم في زمانٍ لعامل الله فيه أجر واحد، وإنكم سيكون بعدكم زمانٌ يكون لعامل الله فيه أجران
(2)
.
وعن أبي راشد التنوخي قال: صلَّى المسلمون حين فتح حمص في كنيسة النصارى حتى بنوا المسجد.
رواهن سعيد
(3)
.
ولم يبلغنا عن صحابي خلافُ ذلك مع أنَّ هذه الأقوال والأفعال في مظنة الشهرة. ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «جُعِلت لي الأرض مسجدًا»
(4)
ولم يستثن البِيَع والكنائس فيما استثناه. ولأنَّ الكفار لو استولوا على مساجد الله واتخذوها معابد لدينهم الذي لم يأذن به الله لم تُكرَه الصلاة فيها لذلك.
فأما إن كان فيها صور، فمن أصحابنا من لم يكره الصلاة فيها أيضًا. قال: لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الفتح دخل إلى البيت، فصلَّى فيه، وكانت فيه تماثيل
(5)
. والمذهب الذي نصَّ عليه عامَّة الأصحاب: كراهة الصلاة، بل كراهة الدخول إلى كلِّ موضع فيه تصاوير، فالصلاة فيه أشدُّ كراهةً من دخوله.
(1)
في المطبوع: «حنا» ، والمثبت من الأصل. وفي «حلية الأولياء» (1/ 263):«يُوحَنّا» . وهما واحد. وقد ذكرت الكنيسة في أخبار حمص. انظر «فتوح البلدان» (ص 132).
(2)
أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 194)، وابن أبي شيبة (4906) مختصرًا.
(3)
لم أقف عليه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
فان كانت الصورة قد مُثِّلت في بيوت العبادة، فالصلاة هناك أقبح وأشدّ كراهةً، حتَّى قد قال أحمد
(1)
فيمن صلَّى وفي كُمِّه منديل حرير فيه صور: أكرهه. قال القاضي: لأنَّ التصاوير في الثوب المحرَّم، فكأنه حاملٌ لشيء محرَّم، فجرى مجرى جلوسه في بيتٍ فيه صور، وذلك مكروه.
وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه، ولا ينبغي أن يُشَكَّ فيه، لظهوره في دين الاسلام؛ فإنَّ الذين نُقِل عنهم الرخصة في الصلاة في الكنائس من الصحابة شرَطوا ذلك بأن لا تكون بها تماثيل. وقد ذكرناه عن ابن عباس
(2)
. وذكر ابن المنذر
(3)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لنصرانيٍّ: إنَّا لا ندخل بِيَعَكم من أجل الصور التي فيها.
وعن مِقْسَم قال: كان ابن عباس لا يصلِّي في بيتٍ فيه تماثيل
(4)
.
وعنه عن ابن عباس أنه قال: لا يصلِّي فى كنيسة فيها تماثيل، وإن صار أن يخرج فيصلِّي في المطر
(5)
رواهما سعيد
(6)
.
ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما ذُكرت له الكنيسة التي بأرض الحبشة وما فيها من
(1)
في «مسائل عبد الله» (ص 64).
(2)
لم يسبق ذكره.
(3)
في «الأوسط» (2/ 193) وقد تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (4616).
(5)
لفظه في «مسند ابن الجعد» (2353): «فإن كان فيها تماثيل خرج، فصلَّى في المطر» .
(6)
أخرجه ابن الجعد (342)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 193).
التصاوير قال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك التصاوير. أولئك شِرار الخلق عند الله»
(1)
. وكلُّ واحد من اتخاذ القبور مساجد ومن التصاوير فيها محرَّم، فالصلاةُ فيها تُشبِه الصلاة في المسجد على القبر.
ولأنه بعث عليًّا رضي الله عنه على أن لا يدع تمثالًا إلا طمَسه، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّاه
(2)
. فإذا كان [ص 186] طمسُها واجبًا لأنها بمنزلة الأوثان، فالصلاةُ في المكان الذي فيه الصور كالصلاة في بيوت الأوثان، فهل يقول أحد: إنَّ هذا جائز بلا كراهة من غير ضرورة؟
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة»
(3)
، فكيف لا تُكرَه الصلاة في مكان تمتنع
(4)
الملائكةُ من الدخول إليه دائمًا؟ ولأنَّ الصور قد تُعبد من دون الله، وفيها مضاهاةٌ لخلق الله؛ فالصلاةُ عندها تشبُّه بمن يعبدها ويعظِّمها، لاسيَّما إن كانت الصورة في جهة القبلة، فإنَّ السجود إلى جهتها يشبه السجود لغير الله.
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فهو حجَّة أيضًا قويَّة، لما رُوي عن ابن عباس قال: دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم البيتَ، فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: «أمَّا هم فقد سمعوا أنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة. هذا إبراهيم
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
في المطبوع: «تمنع» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
مصوَّر، فما له يستقسم؟»
(1)
وفي رواية
(2)
: لمَّا رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمرَ بها، فمُحيت. ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال:«قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قطُّ»
(3)
وفي رواية
(4)
: لمَّا قدم أبى أن يدخل البيت، وفيه الآلهة، فأمَر بها، فأخرِجَتْ. وأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قاتلهم الله، واللهِ قد علموا أنهما لم يستقسما بها قطُّ» فدخل البيتَ، فكبَّر في نواحيه، ولم يصلِّ. رواه البخاري
(5)
.
فهذا نصٌّ في أنه امتنع من الدخول حتى مُحِيت الصور، فكيف يقال: إنه صلى الله عليه وسلم صلَّى في الكعبة، والتماثيلُ فيها؟
وقد روى الأزرقيُّ
(6)
أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل البيتَ أرسل الفضل بن عباس، فجاء بماء زمزم. ثم أمرَ بثوبٍ، فبُلَّ بالماء، وأمَر بطمس تلك الصور، فطُمِسَتْ. وروي من غير وجه أنه لم يدخل حتى مُحِيت الصور. ثم لو قُدِّر أنه قد دخل قبل الطمس، فإنه لم يدخل حتى طُمِست أو شُرِع في طمسها كما يدلُّ عليه ظاهر بعض الروايات. ولو كان قد صلَّى بعد الأمر بطمسها، فهو قد شرع في إزالة المنكر، فلا يشبه هذا من صلَّى في موضعٍ الصورُ فيه
(1)
أخرجه البخاري (3351) وقد سبق.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
البخاري (3352).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
برقم (1601).
(6)
في «أخبار مكة» (1/ 165). وقوله: «فبُلَّ بالماء» ساقط من النصِّ المطبوع لكتاب الأزرقي.
مستقِرَّة. ولهذا جاز للرجل أن يحضر الوليمة التي فيها منكر إذا قصد أن ينكِر، وإن كان الحضور قبل الإنكار.
فصل
ولا يصلَّى في مواضع الخسف. نصَّ عليه في رواية عبد الله
(1)
، واحتجَّ بما رواه بإسناده عن حُجْر بن عَنْبَس الحضرمي قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب إلى النَّهروان حتَّى إذا كنَّا ببابل حضرت صلاة العصر، فقلت: الصلاة! فسكت، مرّتين. فلمَّا خرج منها صلَّى، ثم قال: ما كنت أصلِّي بأرض خُسِف بها، ثلاث مرَّات
(2)
.
وروى أبو داود في «سننه»
(3)
عن عمَّار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أنَّ عليًّا رضي الله عنه مرَّ ببابل وهو يسيرُ، فجاءه المؤذِّن يؤذِّن
(4)
بصلاة العصر. فلمَّا [ص 187] برز منها أمر المؤذنَ، فأقام الصلاة. فلما فرغ قال: إنَّ حبيبي
(5)
نهاني أن أصلِّي في المقبرة، ونهاني أن أصلِّي في أرض بابل فإنها ملعونة.
ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدخول إلى مساكن الذين ظلموا أنفسهم،
(1)
(ص 68).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7638).
(3)
برقم (490). إسناده ضعيف، أبو صالح الغفاري لم يسمع من علي، كما في «تغليق التعليق» (2/ 232)، وقال البيهقي في «معرفة السنن» (3/ 402):«إسناده غير قوي» ، وكذا ضعفه ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 530).
(4)
يحتمل قراءة «يؤذنه» كما في «سنن البيهقي» (4364).
(5)
تحرَّف في الأصل إلى «جبريل» .
وسنَّ إن اجتزنا بها الإسراعَ. فروى ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما مرَّ بالحِجْر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثلُ الذي أصابهم» ثم قنَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه، وأسرع السيرَ حتَّى أجاز الوادي. متفق عليه
(1)
.
وقد قيل: إنه صلى الله عليه وسلم أسرع السيرَ بوادي محسِّر صبيحة مزدلفة، وسنَّ للحجيج الإسراع فيه؛ لأنه المكان الذي نزل على أهل الفيل فيه العذابُ، وحسَر فيلُهم فيه، أي انقطع عن الحركة إلى جهة مكة. ويقال: إنه يُخسَف بقوم فيه.
فإذا كان المكثُ في مواضع
(2)
العذاب والدخول إليها لغير حاجة منهيًّا
(3)
عنه، فالصلاةُ بها أولى. ولا يقال: فقد استثنى ما إذ كان الرجل باكيًا، لأنَّ هذا الاستثناء من نفس الدخول فقط. فأما المكث بها والمقام والصلاة، فلم يأذن فيه، بدليل حديث علي، ولأنَّ مواضع السخط والعذاب قد اكتسبت السخط بما نزل ساكنيها، وصارت الأرض ملعونة، كما صارت مساجدُ الأنبياء مثل مسجد إبراهيم ومحمد وسليمان صلى الله عليهم مكرَّمةً لأجل مَن عبد الله فيها، وأسَّسها على التقوى. فعلى هذا، كلُّ بقعة نزل عليها عذابٌ لا يصلَّى فيها، مثل أرض الحِجْر وأرض بابل المذكورة، ومثل مسجد الضِّرار لقوله تعالى:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108].
فإن صلَّى فهل تصحُّ صلاته؟ فعلى ما ذكره طائفة من أصحابنا تصحُّ،
(1)
البخاري (1419، 4702) ومسلم (2980).
(2)
في المطبوع: «مواقع» ، والمثبت من الأصل.
(3)
في الأصل: «منهي» ، وتصحيحه من حاشية الناسخ.
لأنهم جعلوا هذا من القسم الذي تُكرَه الصلاة فيه ولا تَحرُم، لأنَّ أحمد كرِه ذلك
(1)
؛ ولأنهم لم يستثنوه من الأمكنة التي تجوز
(2)
الصلاة فيها.
ولأصحابنا في الكراهة المطلقة من أبي عبد الله وجهان
(3)
، أحدهما: أنه محمول على التحريم. وهذا أشبه بكلامه، وأقيس بمذهبه، لأنه قد قال في الصلاة في مواضع نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنها: يعيد الصلاة
(4)
. وكذلك عقد القاضي والشريف أبو جعفر وغيرهما الباب في ذلك
(5)
بأنَّ كلَّ بقعة نُهي عن الصلاة فيها مطلقًا لم تصحَّ الصلاة فيها كالأرض النجسة.
وهذا ظاهر، فإنَّ الواجب إلحاق هذا بمواضع النهي، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، كما نهى عن الصلاة في المقبرة، ونهى الله نبيَّه أن يقوم في مسجد الضِّرار، ونهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى مساكن المعذَّبين عمومًا. فإذا كان الله نهى عن الصلاة في الأماكن الملعونة خصوصًا، ونهى [نبيُّه]
(6)
عن الدخول إليها
(1)
في «مسائل عبد الله» (ص 68): «سمعت أبي سُئل عن أرض الخسف يصلَّى فيها، فكره ذلك» .
(2)
في الأصل وفي المطبوع: «لا يجوز» ، والظاهر أن «لا» مقحمة.
(3)
انظر: «المسودة» (ص 530) و «الفروع مع التصحيح» (1/ 45).
(4)
انظر: «مسائل عبد الله» (ص 67).
(5)
في الأصل: «عند القاضي
…
ذلك». وعلَّق الناسخ على «أبو جعفر» بأن صوابه: «أبي جعفر» . ثم علَّق على «الباب» بقوله: «لعله: في ذلك الباب» . أما محقق المطبوع، فأثبت في المتن: «عند
…
أبي جعفر وغيرهما طرد الباب في ذلك». فغيَّر «أبو جعفر» وزاد كلمة «طرد» دون إشارة إلى ما فعل. والظاهر أن «عند» تصحيف «عقد» كما أثبت، والعبارة بعدها سليمة.
(6)
زيادة يقتضيها قوله فيما بعد: «خلفاؤه» .