الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون شهادةُ امرأتين كشهادة رجل واحد
(1)
. فعُلِم أنَّ الضلالَ الذي هو النسيان، ونقصَ العقل الذي هو عدم الضبط، ينجبر بانضمام المثل إلى المثل، لاسيَّما إذا كان المحدِّث جازمًا بما حدَّثه، وليس الحديث مما يُتوهَّم دخولُ الغفلة فيه، ولم يعارضه ما يخالفه، ولا قامت أمارة على عدم حفظه؛ بل قامت الشواهد على صحته إمَّا بنصوص أخرى أو بقياس.
وقول الترمذي: «ليس إسناده بذلك القوي» لأجل ما تُكُلِّم في حفظ زيد بن جَبيرة. وقد تقدم القول في مثل هذا، وذكرنا أنَّ الكلام في الحديث تعليلًا وتضعيفًا شيء، وأنَّ العمل به والاحتجاج به شيء آخر؛ وأنَّ أهل الحديث يريدون بالضعيف كثيرًا ما لم يكن قويًّا صحيحًا، وإن كانت الحجَّة تُوجب العملَ به. وعبارتُه إنما تدلُّ على أنه ليس بتامِّ القوة. وهذا صحيح، لكن إذا انجبر هذا الضعيف بالطريق الأخرى صار بمنزلة القوي. هذا كلُّه إن كان بين الليث وبين نافع فيه العمري
(2)
. وإن كان قد سمعه منه، فالليث حجة إمام.
الفصل الثالث
في الصلاة في المواضع المنهيِّ عن الصلاة فيها
وفيها روايتان:
إحداهما، وهي ظاهر المذهب: أنها لا تصح ولا تجوز.
والثانية: أنها تُكرَه، وتُستحَبُّ الإعادة. ومن أصحابنا من يحكي هذه
(1)
تقدم تخريجه في كتاب الطهارة.
(2)
في الأصل: «ولا العمري» ، والمثبت من المطبوع.
الرواية بالتحريم مع الصحة. ولفظ أحمد فيها هو «الكراهة»
(1)
، وقد يريد بها تارةً التحريم، وتارةً التنزيه. ولذلك اختلفوا في كراهيته المطلقة على وجهين مشهورين.
ومن أصحابنا من يقول: الروايتان في الجاهل بالنهي، كما سيأتي. أمَّا إن علم بالنهي لم تصحَّ صلاته روايةً واحدةً. والصحيح: أنَّ في العالم بالنهي خلافًا عنه، وقد جاء ذلك صريحًا عنه.
فإن قلنا: تصح؛ فلعموم الأحاديث [ص 150] الصحيحة بأنَّ الأرض كلَّها مسجدٌ كما تقدَّم. ولو كان ذلك يختلف لَبيَّنه، لأنَّ تاخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ويُحمَل النهيُ عن هذه المواضع على الكراهة جمعًا بينهما. ولأنَّ علّةَ النهي في بعضها كونُها مظنَّة النجاسة، وفي بعضها كونها محلًّا للشياطين، وأنَّ بها ما يشغل قلبَ المصلِّي ويُخاف أن يفسد عليه صلاته. وذلك أكثر ما يوجب الكراهة. ولأنه موضع طاهر لا يحرم المقام فيه، فأشبهَ الإصطبلات.
والأول أصحُّ؛ لأنَّ قوله: «الأرض كلُّها مسجد إلا المقبرة والحمَّام» إخراجٌ لها عن أن تكون مسجدًا، والصلاة لا تصح إلا في مسجدٍ، أعني: فيما جعله الله لنا مسجدًا. وهذا خطابُ وَضْعٍ وإخبارٍ، فيه أنَّ المقبرة والحمَّام لم يُجعَلا مسجدًا ومحلًّا للسجود، كما بيَّن أنَّ محلَّ السجود هو الأرض الطيبة، فإذا لم تكن مسجدًا كان السجود واقعًا فيها في غير موضعه، فلا يكون معتدًّا به، كما لو وقع في غير وقته، أو إلى غير جهته، أو في أرض خبيثة. وهذا الكلام من أبلغ ما يدل على الاشتراط، فإنه قد يُتَوهَّم أنَّ العبادة تصحّ مع
(1)
انظر: «مسائل عبد الله» (ص 67) و «صالح» (1/ 462).
التحريم إذا كان الخطابُ خطابَ أمر وتكليف. أمَّا إذا وقعت في المكان أو في الزمان الذي بيَّن أنه ليس محلًّا لها ولا ظرفًا، فإنها لا تصح إجماعًا.
وأيضًا فإنَّ نهيه عن صلاة المقبرة وأعطان الإبل والحمام مرّةً بعد مرّة أوكد شيء في التحريم والفساد، لاسيَّما وهو نهي يختصُّ الصلاةَ بمعنًى في مكانها، فإنَّ الرجل إذا صلَّى في مكان نهاه الله ورسوله أن يصلِّي فيه نهيًا يختصُّ الصلاة لم يفعل ما أمره الله به، فيبقى في عهدة الأمر، بل قد عصى الله ورسوله، وتعدَّى حدوده.
وأيضًا لعنته صلى الله عليه وسلم من يتخذ القبور مساجد، ووصيته بذلك في آخر عمره، وهو يعالج سكرات الموت، بعد أن نهى عن ذلك قبل موته بخمس، وبيانه أن فاعلي ذلك شرارُ الخلق من هذه الأمة ومن الأمم قبلها= بيانٌ عظيمٌ لقبح هذا العمل، ودلالةٌ على أنه من الكبائر وأنه مقارب للكفر، بل ربما كان كفرًا صريحًا.
وأيضًا فإنَّ قوله: «لا تجوز الصلاة فيها» صريحٌ في التحريم، والتحريم يقتضي الفساد خصوصًا هنا، ولذلك لا يصح أن يقال هنا بالتحريم مع الصحة، وإن قلنا به في الدار المغصوبة، لأنَّ النهي هناك ليس عن خصوص الصلاة، وقد يقال: إنه ليس لمعنًى في المنهيِّ عنه. وهنا النهيُ عن نفس الصلاة في المكان المخصوص لمعنًى في نفس المنهيِّ عنه.
وأيضًا فقوله: «لا تجوز»
(1)
دليل على أنه لا تجزئ، لأن العبادة
(2)
الجائزة هي الماضية النافذة، وضدُّها [ص 151] الموقوفة المردودة. وإذا
(1)
في الأصل والمطبوع: «لا يجوز» وبعده «لا يجزئ» .
(2)
في الأصل: «العادة» .
كانت الصلاة موقوفة محبوسة مردودة لم تكن مُجزئة. بل قوله: «لا تجوز» أبلغ من قوله: «لا تجزئ» لأنَّ هذا يعُمُّ الفرض والنفل، وذاك يختصُّ الفرض
(1)
. وأيضًا فإن الصلاة في المكان النجس فاسدة، مع أنه لم ينطق كتاب ولا سنّة بأنها فاسدة ولا أنها غير مجزئة، وإنما فهم المسلمون ذلك من نهي الشارع عن الصلاة فيها، وتخصيص الإباحة بالأرض الطيبة. فهذه المواضع التي سُلِبت اسمَ المسجد، وترادفت أقاويلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة فيها= أولى أن لا تجزئ الصلاة فيها.
فإذا قيل: إنَّ الصلاة على مكانٍ فيه قطرةُ بولٍ أو خمرٍ، أو في بعض مساقط ثوب المصلِّي لا تصح اعتمادًا على قوله:«جُعِلت لي كلُّ أرضٍ طيِّبةٍ مسجدًا وطهورا»
(2)
، واستنباطًا من تخصيصه وتعليله، مع أنه فهمٌ حسنٌ وفقه صحيح= فما هو أبينُ منه وأصرَحُ، من النهي الصريح والاستثناء القاطع، مع كونه أصحَّ وأشهر، وهو عن السلف أظهر وأكثر= أولى
(3)
أن يُعتمَد عليه، فإنَّ هذا كالإجماع من الصحابة.
قال أنس: كنت أصلِّي، وبين يديَّ قبرٌ، وأنا لا أشعر. فناداني عمر: القبرَ القبرَ، فظننتُ أنه يعني القمر، فرفعت رأسي إلى السماء. فقال رجلٌ: إنما يعني القبر. فتنحَّيتُ عنه. رواه سعيد وابن ماجه وغيرهما
(4)
. وذكره
(1)
في الأصل والمطبوع: «النفل» ، ومقتضى السياق ما أثبت.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في المطبوع: «وأولى» ، زاد الواو من غير تنبيه، وهو خطأ. فلفظ «أولى» خبر لما الموصولة في قوله:«فما هو أبين» .
(4)
لم أقف عليه عند ابن ماجه، وقد أخرجه عبد الرزاق (1581)، وابن أبي شيبة (7657).
البخاري في «صحيحه»
(1)
.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تُصلِّ في حمَّام أو عند قبر
(2)
.
وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: لا تصلِّ في أعطان الإبل
(3)
.
وكذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما
(4)
. ذكر ذلك ابن حامد.
وعن ابن عمر
(5)
وابن عباس
(6)
كراهة الصلاة في المقبرة. وهذا أولى أن يكون صحيحًا مما ذكره الخطابي
(7)
عن ابن عمر أنه رخَّص في الصلاة في المقابر. فلعل ذلك ــ إن صحَّ ــ أراد به صلاة الجنازة.
وعن علي رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا قال: من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد رواه عبد الرزاق
(8)
.
(1)
(1/ 93).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7671).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (3902)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 187).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (3904).
(5)
لم أقف عليه، وأخرج عبد الرزاق (1593)، وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 416)، ما يدل على إجازته الصلاة في المقبرة.
(6)
أخرجه عبد الرزاق (1584، 1585).
(7)
تقدم تخريجه.
(8)
برقم (1586).
إسناده ضعيف، فيه الحارث بن عبد الله الأعور ضعيف متكلم فيه، كما في «الميزان» (1/ 435).
وعن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل أنصلِّي في مناخ الإبل؟ قال: لا، ولكن صلِّ في مرابض الغنم. رواه مالك وغيره
(1)
.
وعن عبد الله بن عمرو قال: تُكرَه الصلاة إلى حشٍّ، وفي حمَّام، وفي مقبرة
(2)
.
وقال إبراهيم: كانوا لا يصلون التطوع. فإذا كانوا في جنازة، فإن حضرت صلاة مكتوبة تنحَّوا عن القبور، فصلَّوا. رواهما سعيد
(3)
.
وقد قدَّمنا عن عمر وغيره من الصحابة أنهم نهَوا عن قراءة القرآن في الحمام، فكيف بالصلاة التي لا بَّد فيها من القراءة، والتي يشترط لها ما لا يشترط لمجرَّد القراءة.
وهذه مقالات انتشرت، ولم يُعرَف لها مخالف، إلا ما رُوي عن يزيد ابن أبي مالك قال: كان واثلة [ص 152] بن الأسقع يصلِّي بنا صلاة الفريضة في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر. رواه سعيد
(4)
. وهذا محمول على أنه تنحَّى عنها بعضَ التنحِّي، ولذلك قال:«لا يستتر بقبر» . أو لم يبلغه نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، فلما سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة إليها
(5)
(1)
مالك (1/ 169)، وابن أبي شيبة (3914).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7659).
(3)
وأخرجه ابن أبي شيبة (7663).
(4)
وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 185).
(5)
زاد بعده في المطبوع: «تنحى عنها» دون تنبيه، فاختلَّ السياق. فإن جواب «لما سمع» جاء فيما بعد، وهو:«عمل بما بلغه» .
لأنه هو راوي هذا الحديث
(1)
، ولم يبلغه النهيُ عن الصلاة فيها= عمِلَ بما بلغه، دون ما لم يبلغه.
وأمَّا الأحاديث المشهورة في جعل الأرض مسجدًا، فهي عامَّة، وهذه الأحاديث خاصَّة. وهي تفسِّر تلك الأحاديث، وتبيِّن أن هذه الأمكنة لم تُقصَد بذلك القول العامِّ. ويوضِّح ذلك أربعة أشياء:
أحدها: أنَّ الخاصَّ يقضي على العام، والمقيَّد يفسِّر المطلق، إذا كان الحكم والسبب واحدًا، والأمر هنا كذلك.
الثاني: أنَّ قوله: «جُعِلت لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا» بيانٌ لكون جنس الأرض مسجدًا له، وأنَّ السجود عليها لا يختصُّ بأن تكون على صفة مخصوصة، كما كان في شرع من قبلنا. لكنَّ ذلك لا يمنع أن تعرِضَ للأرض صفةٌ تمنع السجود عليها. فالأرضُ التي هي عطَن أو مقبرة أو حمام، هي مسجدٌ، لكنَّ اتخاذها لما [ .... ]
(2)
له مانع عرض لها إخراجُها عن حكمها. ولو خرجت عن أن تكون حمّامًا أو مقبرةً لكانت على حالها. وذلك أنَّ اللفظ العامَّ لا يُقصَد به بيانُ تفاصيل الموانع، كقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، وقد عُلِم أنَّ العقد لا بدَّ فيه من عدم الإحرام، وعدم العِدَّة، ولا بدَّ له من شروط وأركان.
الثالث: أنَّ هذا اللفظ العامَّ قد خُصَّ منه الموضعُ النجسُ اعتمادًا على
(1)
يعني حديث أبي مرثد الغنوي في النهي عن الصلاة إلى القبور، وقد تقدَّم.
(2)
في الأصل بياض بقدر ثلاث كلمات، وكتب في المطبوع مكانها:«وجد» ، دون إشارة إلى البياض ولا ما أثبته.
تقييده بالطهارة في قوله عليه السلام: «كلُّ أرض طيِّبة»
(1)
، وتخصيصُه بالاستثناء المحقَّق والنهي الصريح أولى وأحرى.
الرابع: أن تلك الأحاديث إنما قُصِد بها بيانُ اختصاص نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وأمته بالتوسعة عليهم في مواضع الصلاة، دون من قبلنا من الأنبياء وأممهم حيث حُظِرت عليهم الصلاة إلا في المساجد المبنيِّة للصلاة، فذكر صلى الله عليه وسلم أصلَ الخصيصة والمزية، ولم يقصِد تفصيلَ الحكم. واعتضد ذلك بأن هذه الأماكن قليلة بالنسبة إلى سائر الأرض، فلما اتفق قلَّتُها وأنه لم يتمحَّض المقصود لبيان أعيان أماكن الصلاة ترَكَ استثناءَها. فأما أحاديث النهي، فقصد بها بيان حكم الصلاة في أعيان هذه الأماكن، وهذا بيِّن لمن [ص 153] تأمَّله. وما ذكروه من تعليل النهي، فسنتكلَّم عليه إن شاء الله.
إذا ثبت ذلك، فمن صلَّى فيها غيرَ عالم بالنهي فهل تجب عليه الإعادة؟ على روايتين شبيهتين بالروايتين بالتوضؤ من لحم الإبل لغير العالم. وكثير من متأخري أصحابنا ينصرون البطلان مطلقًا للعمومات لفظًا ومعنًى. والذي ذكره الخلال أن قوله استقرَّ أن
(2)
لا إعادة. وهذه أشبه، لاسيَّما على قول من يختار منهم أنَّ من نسي النجاسة أو جهلها لا إعادة، فيكون الجهل بالحكم فيها كالجهل بوجود النجاسة إذا كان ممن يُعذَر.
ولأنَّ النهي لا يثبت حكمه في حقِّ المنهيِّ حتى يعلم، فمن لم يعلم فهو كالناسي، وأولى. ولأنه
(3)
لو صلَّى صلاة فاسدة لنوع تأويل، مثل أن يمسَّ