الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو ارتدَّ بعد الأذان ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل، قاله القاضي والآمدي وغيرهما، كما تبطل الطهارة بالردَّة
(1)
. وهذا إذا كانت الردَّة بين الأذان والصلاة. فأما إن كانت بعد الصلاة لم يبطل حكم الأذان قولًا واحدًا. وكذلك إن كان بعد الشروع في الصلاة.
والثاني: لا يبطل وإن استمر على ردَّته، وهو أصح. قاله طائفة من أصحابنا، لأنها عبادة قد انقضت، فلم تبطل بالردَّة كسائر العبادات، بخلاف الطهارة فإنَّ حكمها باق. ولأنه لا يُبطِل بعد فراغه شيء من المبطلات، فلم تبطل بالردَّة، كالصلاة وأولى؛ وعكسه الطهارة. وهذا لأن إحباط العمل لا يلزم منه بطلانه، كما تقدَّم في الطهارة.
فصل
يستحبُّ أن يفصل بين الأذان والإقامة للمغرب بجلسة بقدر ركعتين
. قال في رواية المرُّوذي: بين الأذانين جلسة في المغرب وحدها، لأن في حديث الأنصاري الذي رأى الأذان: رأيتُ رجلًا كأنَّ عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد، فأذَّن، ثم قعد قعدةً، ثم قام، فقال مثلها. رواه أحمد وأبو داود
(2)
.
وفي رواية قال: رأيتُ الذي أذَّن في المنام أذَّن المغرب. وقعد بين
(1)
انظر: «الفروع» (2/ 17).
(2)
أحمد (15881) من وجه آخر ليس فيه موضع الشاهد، وأبو داود (506).
وصحح إسناده ابن حزم في «المحلى» (3/ 158)، وجوَّده ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 406).
الأذان والإقامة قعدةً. رواه حرب
(1)
.
وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال، اجعل بين أذانك وإقامتك نَفَسًا، يفرُغ الآكلُ من طعامه
(2)
في مَهَلٍ، ويقضي المتوضِّئُ حاجتَه في مَهَلٍ» رواه عبد الله بن أحمد في «المسند»
(3)
.
قال إسحاق بن راهويه: لا بدَّ من القعدة في الصلوات كلِّها حتَّى في المغرب؛ لما صحَّ عن بلال حيث علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، فأمره أن ينتظر بين الأذان والإقامة قدر ما يستيقظ النائم، وينتشر المنتشر للصلاة. فأذَّن مثنى مثنى، وأقام مرةً مرةً، وقعد قعدةً
(4)
.
وعن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أذَّن المؤذِّن فلا يقيمُ حتى يجلس»
(5)
.
(1)
«مسائل حرب» بتحقيق السريع (1/ 257).
(2)
في الأصل: «أكله طعامه» ، وفي المطبوع:«أكل طعامه» . والمثبت من «المسند» . ولعل «أكله» سبق قلم من الناسخ لما جاء في حديث جابر: «يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه» .
(3)
برقم (21285) من طريق مالك بن مغول، عن أبي الفضل، عن أبي الجوزاء، عن أبيّ به.
إسناده ضعيف، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 2):«أبو الجوزاء لم يسمع من أبيّ» ، وأبو الفضل مجهول.
وفي الباب من حديث جابر عند الترمذي (195)، والبيهقي (2/ 19)، وقال:«في إسناده نظر» .
(4)
لم أقف عليه.
(5)
لم أقف عليه.
وعن ابن عباس قال: ينتظر المؤذِّن في الصلوات كلِّها بين الأذان والإقامة قدرَ ما يغتسل الرجل، وفي المغرب قدرَ ما [ص 13] يتوضَّأ. رواه الشالنجي
(1)
.
وإنما قدَّرها الإمام أحمد بركعتين، لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلُّون بين الأذانين للمغرب ركعتين. وقد قال صلى الله عليه وسلم:«بين كلِّ أذانين صلاة» . ولأنه بالفصل يتأهَّب إلى الصلاة من ليس على أُهبةٍ، ويصلِّي من يريد الصلاة، ويدرك أكثرُ الجماعة حدَّ الصلاة وهو تكبيرة الإحرام، ويدركون التأمين. وذلك مقصود للشارع، وفيه أجر عظيم جاءت به الأحاديث.
وأما القعود، فَلِيفصِل بين الأذانين، وليكون قائمًا إلى الإقامة قيامًا مبتدأً، ولأنهما فصلان من الذكر يتقدَّمان الصلاة، يُفصَل بينهما بجلسة كالخطبتين. وإنما خُصَّت المغرب بذلك لضيق وقتها وكراهة تأخيرها. فأمَّا سائر الصلوات، فالفصلُ بين الصلاتين
(2)
يحصل بأسباب أُخَر من الصلاة وغيرها.
فإن تأخَّر
(3)
الجماعة أكثر من قدر ركعتين استُحِبَّ له انتظارهم ما لم يخَفْ خروج الوقت. قال مهنَّا: سألتُ أحمد عن إمام أذَّن لصلاة المغرب، فرأى أن ينتظر القومَ إلى أن يتوضؤوا
(4)
، ما لم يخَفْ فوتَ الوقت.
وعنه: أنه إنما استُحِبَّ انتظارهم بالقدْر المتقدم. قال في رواية حنبل:
(1)
وأخرجه السهمي في «تاريخ جرجان» (241).
(2)
كذا في الأصل والمطبوع، ولعل الصواب:«بين الأذانين» .
(3)
في الأصل: «انتظر» ، وفي حاشيته:«لعله تأخر» . وفي المطبوع: «تأخرت» .
(4)
في الأصل والمطبوع: «يتوضأ» .
ينبغي للمؤذِّن إذا أذَّن أن لا يعجل بالإقامة، ويلبث حتى يأتيه أهل المسجد، ويقضي المعتصِرُ حاجتَه. يجعل بين أذانه وإقامته نفَسًا. وهذا أشبه بالروايتين.
فيما
(1)
إذا أسفر الجيرانُ يغلِّس أو يُسفر؟ على روايتين.
ولو أذَّن، ثم خرج من المسجد، أو ذهب إلى منزله لحاجةٍ، مثل أن يتوضَّأ= لم يُكرَه. وإن كان لغير حاجة كُرِه، لأنَّ الخروج من المسجد بعد الأذان منهيٌّ عنه لغير المؤذِّن
(2)
، فالمؤذِّن أشدُّ، إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت، فلا يُكرَه الخروج. نصَّ على ذلك كلِّه، لأنَّ وقت الصلاة لم يدخل، ولا تجب الإجابة إليها إلا بعد الوقت.
فصل
الأذان من أفضل الأعمال، فإنه ذكرُ الله على وجه الجهر، ويُفتَح به أبوابُ السماء، وتهرب منه الشياطين، وتطمئنُّ به القلوب. وهو إظهارٌ لشعار الإسلام، وإعلامٌ للناس بوقت الصلاة، ودعاءٌ إليها، ومراعاةُ الشمس والقمر والظلال لذكر الله. قال الإمام أحمد: الأذان أحبُّ إليَّ من الإمامة، لأنَّ الإمام ضامن لصلاةِ مَن خلفه، والمؤذِّنُ يُغفَر له مدَّ صوته. وهذا اختيار أكثر أصحابنا.
وروي عنه: أنَّ الإمامة أفضل. وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد، وأبي
(1)
في المطبوع: «وفيما إذا أسفر
…
» زاد الواو دون إشارة.
(2)
كما في حديث أبي هريرة في «صحيح مسلم» (655).
الفرج بن الجوزي
(1)
؛ لأنَّ الإمامة تولَّاها صلى الله عليه وسلم هو بنفسه، وكذلك [ص 14] خلفاؤه الراشدون، ووكَلوا الأذانَ
(2)
إلى غيرهم. وكذلك ما زال يتولَّاها أفاضل المسلمين علمًا وعملًا. ولأنَّ الإمامة يعتبر لها من صفات الكمال أكثرُ مما يعتبر للأذان، ولأن الإمامة واجبة في كلِّ جماعة، والأذان إنما يجب مرَّةً في المصر. وقد روي عن داود بن أبي هند قال: حُدِّثتُ أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: مُرْني بعملٍ أعمله. قال: «كن إمامَ قومك» قال: فإن لم أقدر. قال: «فكن مؤذِّنَهم» رواه سعيد
(3)
.
والأول أصحُّ، لما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم:«الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن. اللهم أرشِدِ الأئمةَ، واغفِرْ للمؤذِّنين»
(4)
، ومنزلةُ الأمانة فوق منزلة الضمان، والمدعوُّ له بالمغفرة أفضل من المدعوِّ له بالرشد، لأنَّ المغفرة نهاية الخير. ولهذا أمر اللهُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار بقوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وقد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وكان ذلك
(1)
انظر: «الإنصاف» (3/ 43).
(2)
في الأصل: «الأمر» ، تحريف. وصوابه من حاشية الأصل.
(3)
وأخرجه ابن أبي شيبة (3830).
إسناده معضل، وفي الباب من حديث أنس عند أبي نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/ 87)، وفي إسناده نافع بن هرمز متروك، كما في «الميزان» (4/ 243).
(4)
أخرجه أحمد (7169، 9428)، وأبو داود (517)، والترمذي (207)، وابن خزيمة (1528 - 1531)، وابن حبان (1672) من حديث أبي هريرة. والحديث في إسناده اضطراب، ولهذا اختلف في تصحيحه وتضعيفه، فضعَّفه أحمد وابن المديني، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والألباني. انظر:«العلل الكبير» للترمذي (ص 65)، و «العلل» للدارقطني (1968)، و «البدر المنير» (3/ 394)، و «صحيح أبي داود ــ الأم» (3/ 3).
خصوصًا خصَّه به دون سائر الأنبياء؛ وندَب قُوَّامَ الليل إلى الاستغفار بالأسحار. والرشدُ مبتدأ الخير، فإنه من لم يرشُد يكن غاويًا، والغاوي: المتِّبِع للشهوات، المضِيعُ للصلوات
(1)
.
ولأن الأذان له خصائص لا توجد في الإمامة. منها: أنه يُغفَر له مدَّ صوته، وأنه يستغفر له كلُّ رطب ويابس، وأنه لا يسمع صوتَ المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة. وقد تقدَّم ذلك.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناسُ ما في النِّداء والصفِّ الأول، ثم لا يجدوا إلا أن يَستهِموا عليه، لاستهموا عليه» متفق عليه
(2)
.
وعن معاوية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤذّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» رواه أحمد ومسلم
(3)
.
وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤذِّن يُغفرَ له مدَّ صوته، ويصدِّقه من يسمعه من رطب ويابس، وله مثلُ أجر من صلَّى معه» رواه أحمد والنسائي
(4)
.
(1)
أخذه من قوله تعالى في سورة مريم [59]: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} . وفي مواضع أخر فسَّر الغيَّ باتباع الهوى. انظر مثلًا: «جامع الرسائل» (2/ 265)، و «جامع المسائل» (3/ 258)، (6/ 146)، «مجموع الفتاوى» (10/ 40).
(2)
البخاري (615) ومسلم (437).
(3)
أحمد (16861)، ومسلم (387).
(4)
أحمد (18506)، والنسائي (646)، من طرق عن قتادة، عن أبي إسحاق الكوفي، عن البراء به.
في إسناده مقال، قتادة مدلس ولم يصرح بالتحديث، وفي سماعه من أبي إسحاق ــ إن كان هو السبيعي ــ نظر، كما في «تحفة التحصيل» (421).
وله شواهد من حديث أبي هريرة وابن عمر وأنس وجابر يشد بعضها بعضًا، انظر:«فتح الباري» لابن رجب (3/ 431 - 435)، «البدر المنير» (3/ 380 - 387).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أذن محتسبًا سبع سنين كتبت له براءة من النار»
(1)
.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أذَّن اثنتي عشرة سنةً وجبت له الجنَّة، وكتب له بتأذينه كلَّ يوم ستون حسنة، وفي كلِّ إقامة ثلاثون حسنة» رواهما ابن ماجه
(2)
.
ولم يجئ في فضل الإمامة مثلُ هذا. ولأن [ص 15] الإمامة من باب الإمامة
(3)
والولاية، إذ هي الإمامة الصغرى. ولذلك قال عثمان لابن عمر: اقض بين الناس، فاستعفاه، وقال: لا أقضي بين اثنين، ولا أؤمُّ رجلين. رواه أحمد
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي (206)، وابن ماجه (727).
إسناده ضعيف، فيه جابر الجعفي، قال الترمذي:«حديث غريب .. جابر بن يزيد الجعفي ضعفوه» .
(2)
أخرجه ابن ماجه (728). وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن صالح متكلم فيه، وقد عدوا هذا الحديث من مناكيره، كما في «معرفة التذكرة» لابن طاهر (201)، وأعل بالانقطاع أيضًا كما في «التاريخ الكبير» (8/ 306)، وله متابعة من طريق ابن لهيعة أخرجها الحاكم (1/ 205)، وبها حسن الحديث ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 317 - 318)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (42).
(3)
. كذا في الأصل والمطبوع، ولعل الصواب:«الإمارة» .
(4)
برقم (475).
وهي فتنة، لما فيها من الشرف والرئاسة، حتى ربَّما كان طلبُها مثل طلب الولايات والإمارات، الذي هو من إرادة العلوِّ في الأرض؛ وهذا مضِرٌّ بالدين. وقد روى كعب بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنمٍ بأفسد لها مِن حرصِ المرء على المال والشرف لدينه» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(1)
.
ولأنه يُخاف على صاحبها انتفاخُه بذلك واختيالُه، وأن يُفتَن باشتهاره. ولذلك صلَّى حذيفة بن اليمان مرَّةً إمامًا، ثم قال: لَتُصَلُّنَّ وُحدانًا، أو لَتلتمسُنَّ لكم إمامًا غيري، فإني لمَّا أممتُكم خُيِّل إليَّ أنه ليس فيكم مثلي
(2)
.
وقيل لمحمد بن سيرين في بعض المَّرات: ألا تؤمُّ أصحابَك؟ فقال: كرهتُ أن يتفرَّقوا، فيقولوا: أمَّنا محمدُ بن سيرين
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (15784)، والترمذي (2376) وصححه، وابن حبان (3228).
(2)
أخرج عبد الرزاق (1879)، وابن أبي شيبة (4142) شطره الأول، دون قوله: «فإني لما أممتكم
…
».
(3)
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زياداته على كتاب «الزهد» لأبيه (ص 249).
ولأنَّ الإمام يتحمَّل صلاةَ المأمومين، الذي دلَّ عليه حديث الضمان.
والأذان سليم من هذه المخاوف كلِّها، بل ربما زهَّد الشيطانُ فيه، وثبَّط عنه، حتَّى يفوَّض إلى أطراف الناس. ولذلك قال عمر رضي الله عنه لبعض العرب: من يؤذِّن لكم؟ قالوا: عَبيدنا. قال: ذلك شرٌّ لكم
(1)
.
وأما إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فمثلُ الإمارة والقضاء. وذلك أنَّ الولايات وإن كانت خَطِرةً، لكن إذا أقيم أمرُ الله فيها لم يعدِلها شيءٌ من الأعمال. وإنما يُهابَ الدخولُ فيها أولًا خشيةَ أن لا يقام أمرُ الله فيها لكثرة نوائبها، وخشيةَ أن يُفتَن القلبُ بالولاية، لما فيها من الشرف والعزِّ. ويكره طلبها لأنه من حبِّ الشرف وإرادة العلوِّ في الأرض يكون في الغالب، ولأنه تعرُّضٌ للمحنة والبلوى فإذا ابتلي المرءْ بها صار القيام بها فرضًا عليه، وكذلك إذا تعيَّنت عليه؛ فإمامته
(2)
وإمامة الخلفاء الراشدين كانت متعينةً عليهم، فإنها وظيفة الإمام الأعظم، ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامة في حقِّهم أفضلَ من الأذان، لخصوص أحوالهم؛ وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل
(3)
. ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لولا الخِلِّيفى لأذَّنتُ. رواه سعيد
(4)
.
وهذا كالإمارة نفسها. وكما أنَّ مقامهم بالمدينة لكونها دارَ هجرتهم كان أفضل من مقامهم بمكة، بل كان يحرُم عليهم استيطانُ مكة، وهذا الوصف مفقود في غيرهم. وكذلك صوم يومٍ وفطر [ص 16] يومٍ هو أفضلُ الصيام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم غيرَه؛ لأنه كان يُضعِفه عما هو أفضل منه، فصار قلَّة الصوم في حقِّه أفضلَ. ونظائر هذا كثيرة.
(1)
أخرجه بنحوه ابن المنذر في «الأوسط» (3/ 41)، والبيهقي (1/ 426).
(2)
يعني: إمامة النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
نقل ابن اللحام في «الاختيارات» (ص 36) أن الأذان أفضل من الإمامة، وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر أصحابه، ثم أورد نصَّ ما جاء هنا عن إمامة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
(4)
وأخرجه عبد الرزاق (1869)، وابن أبي شيبة (2348).
نعم، نظير هذا: أن يكون في القوم رجلٌ لا يصلح للإمامة إلا هو، وهو أحقُّهم بالإمامة، ومن يصلح للأذان كثير، فتكون إمامتُه بهم إذا قصَد وجهَ الله بها وإقامتَه هذا الفرضَ، واتَّقى الله فيها= أفضلَ، لما ذكرناه. وعلى هذا يُحمَل حديث داود بن أبي هند.
وقد روى عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ على كُثبان المِسك يوم القيامة: عبدٌ أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجلٌ أمَّ قومًا وهم به راضُون، ورجلٌ ينادي بالصلوات الخمس في كلِّ يوم وليلة» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب
(1)
.
فصل
وإذا تشاحَّ نفسان في الأذان قُدِّم أكملُهما في الخصال المطلوبة في المؤذن، وهي: الصوت، والأمانة، والعلم بالأوقات، بأن يكون أندى صوتًا وأعلم
(2)
بالأوقات. ويقدَّم أكملُهما في عقله ودينه، لما تقدَّم. فإن استويا في ذلك قُدِّم أعمَرُهما للمسجد، وأكثَرُهما مراعاةً له، وأقدَمُهما تأذينًا فيه. ولا يقدَّم أحدُهما بكون أبيه كان هو المؤذِّن.
فإن استويا في ذلك قُدِّم من يرتضيه الجيران أو أكثرهم. فإن انقسموا طائفتين متساويتين، أو لم يختاروا أحدَهما، أو لم يكن للمسجد جيرانٌ=
(1)
برقم (1986)، وأخرجه أحمد (4799).
إسناده ضعيف، تفرد به أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو ضعيف، وبذلك أعله البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 105)، والدارقطني في «العلل» (13/ 160).
(2)
في الأصل والمطبوع: «أو أعلم» .
أُقرِعَ بينهما، لقوله:«لو يعلَم الناسُ ما في النداء والصفِّ الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستَهِموا عليه، لاستَهموا عليه»
(1)
، ولأنَّ الناس تشاحُّوا في الأذان بالقادسية، فَأقرعَ بينهم سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه. ذكره الإمام أحمد وغيره
(2)
.
وعنه: أنه يُقرَع بينهم، من غير نظرٍ إلى الجيران.
والأول أصح، لأنَّ ذلك أقربُ لرضاهم وانتظام أمرهم، ولذلك اعتُبِر ذلك في الإمامة.
فصل
قال القاضي: يستحَبُّ الاقتصار على مؤذنَين ــ وإن اقتصر على واحد أجزأه ــ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له مؤذِّنان: بلال وابن أمِّ مكتوم. وكذلك قال الآمدي: يستحَبُّ أن لا ينقص في مسجد الجماعة عن اثنين، لدعوى الحاجة إليهما كالواحد في غير مسجد الجماعة. ومعنى هذا: أنه يرتَّب للمسجد مؤذِّنان، إن غاب أحدهما حضَر الآخَرُ. وأمَّا تأذين واحد بعد واحد، فعلى ما ذكره القاضي: يستحَبُّ. وعلى ما ذكره غيره: لا يستحَبُّ ذلك إلا في الفجر.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أورده من طريق عبد الله، عن أبيه بإسناد منقطع ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 471)، وبمثله البيهقي (1/ 429)، ووصله الطبري في «التاريخ» (2/ 425)، انظر:«فتح الباري» لابن حجر (2/ 96).
قال القاضي: ولا يستحَبُّ أن يزيد على أربعة
(1)
. يعني أنَّ ترتيب الأربعة ورزقهم جائز من غير كراهة، بخلاف الزيادة على الأربعة. وكذلك قال الآمدي: لا يُرزَق أكثر من أربعة، [ص 17] لأنَّ عثمان رضي الله عنه اتخذ أربعةً من المؤذِّنين
(2)
، ولأنه إذا زاد على أربعة، فأذَّن واحدٌ بعد واحد فات فضيلة أول الوقت، فلا يزاد على الاثنين إلا لحاجة. وإذا احتيج إلى أكثرَ من أربعةٍ كانت الزيادة مشروعة. وهذا ظاهر المذهب.
ذكر أبو بكر عن أحمد أنه قال في رواية أحمد بن سعيد
(3)
: ويقيم الإمام من المؤذِّنين ما أراد
(4)
، ويرزقهم من الفيء.
فصل
وإذا أذَّن جماعة فالأفضل أن يؤذِّن واحد بعد واحد، إن كان المسجد صغيرًا، والإبلاغ يحصل بذلك؛ لأنَّ مؤذِّني رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤذِّن أحدهما بعد الآخر.
فان أذَّنوا جميعًا من غير حاجة، فقال الآمدي
(5)
: يُكرَه. وذلك لما فيه
(1)
انظر: «المبدع» (1/ 276).
(2)
قال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (1/ 212): «هذا الأثر ذكره جماعة من فقهاء أصحابنا، منهم صاحب «المهذب» ، وبيض له المنذري والنووي، ولا يعرف له أصل»، وانظر:«معرفة السنن» (1/ 452)، «البدر المنير» (3/ 424).
(3)
هو أبو العباس أحمد بن سعيد اللحياني. ترجمته في «طبقات الحنابلة» (1/ 100 - 101).
(4)
«ما أراد» كذا في الأصل، وهو سائغ.
(5)
في حاشية الأصل: «ح أصحابنا» .
من اختلاط الأصوات على المستمع حتى لا يفهم ما يقولون، مع ما فيه من مخالفة السنة. وإن كان المسجد كبيرًا لا يحصل التبليغ بأذان الواحد، والمقصودُ إسماعُ أماكن لا يبلغهم صوتُ الواحد، فلا بأس بأذانهم جميعًا. نصَّ عليه، وقال
(1)
: إذا أذَّن في المنارة عدّةٌ فلا بأس، لأن المقصود بالأذان الإبلاغ، وذلك يحصل باجتماع الأصوات ما لا يحصل بتفريقها.
وإن أذَّنوا في وقت واحد متفرِّقين، فإن كان كلُّ واحد يسمع
(2)
أذانَه
(3)
أهلُ ناحية، بأن يؤذِّن أحدُهما في طرف، والآخر في طرف بعيد منه= فهو حسن.
وإن أذَّنوا في مكان واحد، فهذا أولى بالكراهة من أذانهم جميعًا في المكان الصغير، لما فيه من اختلاط الأصوات. قال بعض أصحابنا: وإن خافوا من تأذين واحد بعد واحد فواتَ أول الوقت أذَّنوا دفعةً واحدةً.
ولا يؤذَّن قبل تأذين المؤذِّن الراتب، إلا أن يغيب ويُخافَ فوتُ وقت التأذين. فأما مع حضوره فلا.
* * * *
(1)
انظر: «المغني» (1/ 89).
(2)
في الأصل والمطبوع: «يستمع» .
(3)
في الأصل: «أذان» ، وصوابه من حاشيته.