الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القراءة، كما سيأتي. ولأنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرؤونها، وينكرون على من رغب عن قراءتها، وهم أعلم بالسنَّة.
ولأنه يشرع قراءتها في النافلة، فكذلك في الفريضة. ولأنه يشرع قراءتها في أول السورة خارج الصلاة، فكذلك في الصلاة، وأولى. ولأنها مكتوبة في المصحف، وإنما كُتِبت لتقرأ.
وهل قراءتها واجبة أو سنة؟ يأتي إن شاء الله توجيهها.
و
السنَّة: الإسرار بها
. هذا مذهبه الذي لم تختلف فيه نصوصه، وهو قول عامة أصحابه. والجهر بها مكروه، نصَّ عليه. وقد ذهب بعض أهل مذهبه إلى استحباب الجهر بها، وهو قول أبي القاسم عبد الرحمن بن منده. وربما حكى بعض الناس هذا روايةً عنه
(1)
، وهو غلط. وإنما مذهبه الإسرار، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلَّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وفي لفظ:«يفتتحون القراءة» رواه الجماعة
(2)
.
وفي لفظ: «كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها» رواه أحمد ومسلم
(3)
.
(1)
انظر: «الإنصاف» (3/ 434) فقد ذكر روايات عنه في الجهر.
(2)
أحمد (11991)، والبخاري (128)، ومسلم (399)، وأبو داود (782)، والترمذي (246)، والنسائي (892)، وابن ماجه (813).
(3)
أحمد (13337)، ومسلم (606).
وفي لفظ متفق عليه
(1)
: «فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه أحمد
(2)
بإسناد جيد
(3)
شرط الصحيح، ولفظه:«كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» .
وفي لفظ لابن شاهين: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يخفُون بسم الله الرحمن الرحيم»
(4)
.
وفي لفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ بسم الله الرحمن الرحيم، وأبو بكر وعمر»
(5)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
برقم (12845).
(3)
في الأصل: «جليل» ، وتصحيحه من المطبوع.
(4)
أخرجه ابن طاهر في «مسألة التسمية» (44) من طريق علي بن ظبيان، عن داود بن أبي هند، عن أنس بن مالك به.
إسناده تالف، ابن ظبيان متروك الحديث، انظر:«الميزان» (3/ 134).
(5)
أخرجه ابن خزيمة (498)، والطبراني في «الأوسط» (8/ 162)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 203)، من طرق عن سويد بن عبد العزيز، عن عمران القصير، عن الحسن، عن أنس به.
إسناده ضعيف، سويد قال فيه ابن عدي في «الكامل» (3/ 427) ــ بعد أن ساق حديث الباب في ترجمته ـ:«عامة حديثه مما لا يتابعه الثقات عليه، وهو ضعيف كما وصفوه» .
وأخرجه من وجه آخر الطبراني في «الكبير» (1/ 255)، من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس به. قال العراقي في «المستخرج على المستدرك» (47):«رجاله ثقات» ، ووافقه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 281).
فإن قيل: قوله: «بالحمد لله رب العالمين» أراد به السورة، يعني: أنه كان يقرأ الفاتحة قبل السورة؛ والروايات الصريحة لعلها من بعض الرواة رواها بما فهمه من المعنى. يدل على ذلك ما روى سعيد بن يزيد
(1)
عن أبي مسلمة
(2)
قال: سألتُ أنسًا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، أو الحمد لله رب العالمين؟ قال: إنك تسألني [عن شيء]
(3)
ما أحفظه، ولا سألني عنه أحد قطُّ قبلك. رواه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي
(4)
. وإسناده شرط
(5)
الصحيحين، وقال الدارقطني: إسناده صحيح.
قلنا: هذا التأويل لا يصح لو تجرد عن الروايات الصريحة، لأنه لو أراد السورة لذكرها باسمها، فقال:«بالفاتحة» أو «أم الكتاب» أو «أم القرآن» كما عادتهم في سائر الخطاب، [أو سمَّاها]
(6)
بالحمد بأول كلمة منها، كما تقول: سورة «والعاديات» ، وسورة «اقرأ» ونحو ذلك [ص 268] كما عرف أهل زماننا. فأما تسميتها «الحمد لله رب العالمين» بالجملة جميعها، فليس يُعرَف في اللسان قديمًا ولا حديثًا.
(1)
في الأصل والمطبوع: «زيد» ، تحريف.
(2)
كذا في الأصل والمطبوع، وسعيد بن يزيد هو أبو سلمة.
(3)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل.
(4)
أحمد (12700)، والدارقطني (1/ 316)، من طريق غسان بن مضر، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، قال: سألت أنسًا به.
قال الدراقطني: «هذا إسناد صحيح» ، ولم أقف عليه من هذا الوجه بهذا السياق عند الترمذي والنسائي.
(5)
في المطبوع: «على شرط» . زاد «على» دون تنبيه وبلا داع.
(6)
في الأصل والمطبوع: «فأما تسميتها» . والظاهر أنه سهو لانتقال النظر.
ثم لو كان المقصود أن يبتدئ القراءة بسورة أم الكتاب، لم تكن فيه فائدة، لأن هذا من العلم العام، مثل كون قراءة الليل يجهر بها وقراءة النهار يخافت بها، وسنَّة ذلك. وفي حديث قتادة: أنهم سألوا أنسًا عن ذلك، من توهم بعض الرواة، فقال قولًا عظيمًا
(1)
؛ لأن في الحديث ذكر لفظ أنس في قوله: «لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها» . وهذه زيادة على الرواية الأخرى، ثم قد رواه عن أنس جماعة، كلٌّ منهم يؤدِّي لفظًا صريحًا غير الآخر. ومن تتبَّع طرق الحديث علِم ذلك.
وأما الحديث الآخر، إن كان محفوظًا، فالظاهر: أن السائل سأل أنسًا عن قراءتها سرًّا، فلم يكن إذ ذاك يعلم ذلك، وإنما كان الذي يعلمه أنهم لا يجهرون بها، وعلِم من طريق آخر أنهم كانوا يسرُّون بها، فرواه في وقت آخر، إن كانت مسألته لأنس قديمًا. وإن كان ذلك حديثًا، فلعل أنسًا قد نسي؛ لأنه كان في آخر عمره. وسعيد بن يزيد
(2)
[
…
]
(3)
. وبكل حال: مثل هذا لا يصلح أن يعارض الروايات المستفيضة عنه.
وأيضًا مما روى أبو الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاةَ بالتكبير، والقراءةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} رواه أحمد ومسلم
(4)
، وقد تقدم الكلام على تأويله بالسورة.
(1)
لعل في العبارة سقطًا. يعني: من ظنَّه من توهم بعض الرواة قال قولًا عظيمًا.
(2)
في الأصل: «زيد» ، تحريف. وقد سبق مثله.
(3)
بياض في الأصل بقدر أربع كلمات.
(4)
أحمد (24030)، ومسلم (498)، وأبو داود (783)، وابن ماجه (812).
وروى ابن شاهين من حديث ابن عمر
(1)
وأبي هريرة
(2)
، وعِصمة
(3)
بن مالك الخَطْمي
(4)
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأبو بكر
(5)
وعمر وعثمان.
وعن أم الحصين
(6)
قالت
(7)
: صلَّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما افتتح
(1)
لم أقف عليه.
والمروي عنه مرفوعًا وموقوفًا الاستفتاح بالبسملة، انظر:«المصنف» لعبد الرزاق (2608)، «الإنصاف» لابن عبد البر (66)، «الإعلام» لمغلطاي (5/ 159 - 161).
(2)
أخرجه ابن ماجه (814)، من طريق بشر بن رافع، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين. إسناده واه، بشر ضعيف جدا، وأبو عبد الله مجهول، كما في «مصباح الزجاجة» (1/ 103).
وأخرجه الدارقطني (1/ 313)، والطبراني في «الأوسط» (7302)، من طريق أبي داود، عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استفتح الصلاة قال: الحمد لله رب العالمين، ثم سكت هنيهة.
قال الدارقطني: «لم يرفعه غير أبي داود عن شعبة، ووقفه غيره من فعل أبي هريرة» . وقال مغلطاي في «الإعلام» (5/ 143): «على رسم الشيخين» .
(3)
ضبط في الأصل بضم العين، وتابعه في المطبوع.
(4)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (17/ 182).
إسناده تالف، فيه الفضل بن المختار البصري منكر الحديث جدًّا، يحدث بالأباطيل، كما في «الميزان» (3/ 358).
(5)
كذا في الأصل و «معجم الطبراني» و «مجمع الزوائد» ، ولا غبار عليه. وغيَّره في المطبوع إلى «أبا بكر» دون تنبيه.
(6)
في موضع «الحصين» بياض في الأصل، وقال الناسخ:«لعله: الجعبين، كما يأتي» . وهو تصحيف.
(7)
في الأصل: «قال» .
الصلاة قرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
(1)
.
وهذه الرواية صريحة بأنهم أرادوا الآية وما بعدها.
وأيضًا ما روى ابن عبد الله بن المغفَّل قال: سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يا بنيَّ إياك والحدَث ــ قال: ولم أر رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه حدثًا
(2)
في الإسلام منه ــ فإني صلَّيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها. إذا أنت قرأتَ
(3)
فقل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} رواه الخمسة
(4)
إلا أبا داود، وقال الترمذي: حديث حسن.
(1)
لم أقف عليه بهذا السياق.
وأخرجه إسحاق بن راهويه في «المسند» (5/ 244)، وأبو يعلى في «المعجم» (307)، والطبراني في «الكبير» (25/ 158) ــ واللفظ له ـ، عن أم الحصين أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صف من النساء، فسمعته يقول:(الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) الحديث.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 290): «رواه الطبراني في «الكبير» ، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف».
(2)
كذا الرواية بالنصب في «المسند» و «سنن ابن ماجه» . ولفظ الترمذي: «الحدثُ» على الجادة.
(3)
في المطبوع: «صلَّيت» خلافًا للأصل مع صوابه.
(4)
أحمد (16787)، والترمذي (244)، والنسائي (898)، وابن ماجه (815)، من طرق عن أبي نعامة قيس بن عباية، عن يزيد بن عبد الله بن مغفل، عن أبيه به.
قال الترمذي: «حديث حسن» ، وقد أعله ابن خزيمة وابن عبد البر وغيرهم بجهالة يزيد، وبالاختلاف في إسناده على أبي نعامة، انظر:«التمهيد» (20/ 206)، «فتح الباري» لابن رجب (4/ 372 - 374).
وفي رواية [ص 269] لابن شاهين: فإني صلَّيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يقرؤون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
. وهذا ــ مع أنه نص في عدم الجهر بها ــ فيه بيان أن قولهم
(2)
: «الحمد لله رب العالمين» إنما كانوا يعنُون به الآية وما بعدها، ولا يعنُون أنه كان يبتدئ بالفاتحة المسمَّاة بالحمد لله رب العالمين.
والذي يحقِّق ذلك مما تقدَّم أن أنسًا وعبد الله بن مغفَّل وأم الحصين
(3)
وغيرهم، ممن أطلق إنما كان يروي ذلك لموضع الشبهة واللبس لمَّا اختلفوا في آخر عصر الصحابة. فمن الناس من كان يجهر بها، ومنهم من كان يخفيها، فاحتاج الناس إلى استعلام السنَّة والرجوع إلى الصحابة في ذلك.
فأما أن الفاتحة تقرأ قبل غيرها، فلم يكن عند أحد في ذلك شبهة، ولا يحتاج أن يروي عن فلان أو فلان، أو يحتجَّ بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين
(4)
على من خالفه؛ حتَّى لو فرضنا أن المراد أنهم كانوا يفتتحون بالسورة، فإنَّ البسملة ليست من السورة، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
وأيضًا حديث: «قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
…
» على ما سنذكره، فإنه كالنصِّ في أنه لا يُجهَر بها.
(1)
أخرجه البخاري في «القراءة خلف الإمام» (83)، والخطيب في «الموضح لأوهام الجمع والتفريق» (2/ 361).
(2)
في المطبوع: «قوله» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(3)
في الأصل: «الجعبين» ، تصحيف.
(4)
في الأصل والمطبوع: «خلفاؤه الراشدون» ، وهو خطأ نبَّه عليه الناسخ.
وأيضًا فإنَّ هذا قول أكابر الصحابة وجماهيرهم، وهم أعلم بالسنة وأتبع لها. قال الترمذي
(1)
: على هذا العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. وقد تقدَّم ذكر ذلك عن الخلفاء الثلاثة.
وروى ابن شاهين وابن أبي موسى عن أبي وائل قال: كان عمر وعلي لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم
(2)
.
وعن علي وعمار: أنهما كانا لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم
(3)
.
وعن الأسود بن يزيد قال: صلَّيتُ خلف أمير المؤمنين عمر سبعين صلاة. يكبِّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك. ثم يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(4)
.
وروى أحمد عن ابن عباس قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب
(5)
. وقال بُسْر بن سعيد ــ وهو أحد أجلَّاء التابعين ــ: ما أدركت أحدًا يفتتح إلا بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(6)
.
وسئل الحسن عن الجهر بها في الصلاة، فقال: إنما يفعل ذلك
(1)
بعد حديث عبد الله بن مغفل (244).
(2)
أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 204).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4172)، وابن المنذر في «الأوسط» (3/ 128).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (4171)، وابن المنذر في «الأوسط» (3/ 128)، بلفظ: صليت خلف عمر سبعين صلاة، فلم يجهر فيها بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} .
(5)
أخرجه عبد الرزاق (2605)، وابن أبي شيبة (4166).
(6)
لم أقف عليه.
الأعراب
(1)
.
وقال إبراهيم النخعي: الجهر بدعة
(2)
.
رواهن ابن شاهين. والآثار في ذلك كثيرة
(3)
.
[ص 270] فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة أنه جهر بها، رواها الدارقطني وغيره؛ وكذلك عن كثير من أصحابه، وروي أيضًا أحاديث كثيرة في الزجر عن تركها. فإمَّا أن تكون روايةُ من روى ترك الجهر، أراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفض بها صوته، ويجهر بها جهرًا خفيًّا، ثم يرفع صوته بسائر السورة. وإمَّا أن يكون الجهر بها والإسرار سواءً، لمجيء الأحاديث بهما بناءً
(4)
على أنه كان يجهر أحيانًا ويخفي أحيانًا.
قال بعضهم: يكون الجهر بها على حرف من يعدُّها من الفاتحة
(5)
، وتركه على حرف من لا يعدُّها من الفاتحة، وهما حرفان مشهوران. أو يكون الجهر أولى، لأنها إما أن تكون آيةً من الفاتحة، فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة؛ أو آيةً من القرآن، فيجهر بها كسائر القرآن. وإذا كانت التسمية مشروعةً في أول الوضوء، ففي الصلاة أولى.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور، من طريق حماد بن زيد، عن كثير بن شنظير، عن الحسن، كما في «الإنصاف» لابن عبد البر (47)، و «نصب الراية» (1/ 358).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4161).
(3)
بعده في المطبوع: «في الزجر عن تركها» . وهو جزء من عبارة تكررت في الأصل خطأ، فضرب عليها الناسخ.
(4)
في الأصل والمطبوع: «بنى» . ولعل الصواب ما أثبت.
(5)
في الأصل: «بالفاتحة» ، وصوابه من حاشية الناسخ.
قلنا: أمَّا الأحاديث فضربان: ما صُرِّح فيه بذكر الجهر، فليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح يقوم
(1)
به الحجة، ولذلك لم يخرج عن أصحاب السنن منها شيء
(2)
. وقال الدارقطني، وقد سئل عن أحاديث الجهر: ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح. وأما [عن] الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف
(3)
. ومن تتبَّع أسانيدها علِم الضعيف فيها. ويؤكِّد ذلك أن أكثرها من رواية الصحابة الذين قد صحَّ عنهم عدمُ الجهر، مثل علي وعمار وأنس؛ فكيف وما لم يصرَّح فيه بالجهر، وإنما فيه بسم الله الرحمن الرحيم. فهذا يدل على استنان قراءتها، والردِّ على من رغب عنه.
قال أبو عبيد: الأحاديث التي ذكرناها في ترك قراءة «بسم الله الرحمن الرحيم» فليس هو على الجهر بها، وإنما غلَّطوا تركَ قراءتها في الصلاة أو غير الصلاة؛ إلا أنه يُسِرُّها في الصلاة.
ومن نُقل عنه من أصحابه الجهر، مثل ابن عباس وابن الزبير وابن عمر، فقد نُقِل عنهم الإسرار بها. وهذا يدل على أن من جهَر بها من الصحابة كان مقصوده تعليم الناس أن قراءتها سنَّة، كما جهر عمر بالاستفتاح، وكما جهر أبو هريرة بالاستعاذة
(4)
، وكما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة
(5)
.
(1)
في الأصل والمطبوع: «يخرج» ، ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
كذا في الأصل والمطبوع، والمعنى ظاهر.
(3)
في الأصل: «فمنهم صحيح ومنهم ضعيف» . والتصحيح والتكملة من «مجموع الفتاوى» (22/ 276، 416) و «شرح الزركشي» (1/ 550).
(4)
تقدم تخريج أثر عمر وأبي هريرة.
(5)
أخرجه البخاري (1335).
وهذا ــ والله أعلم ــ معنى قول الإمام أحمد، وقد سأله أبو طالب: أتجهر ببسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: بالمدينة نعم. وهاهنا من كان يقول إنها آية من كتاب الله، مثل ما قال ابن عباس: بسم الله الرحمن الرحيم آية. وأبو هريرة: هي إحدى [ص 271] آياتها. وابن الزبير كان يجهر
(1)
ببسم الله الرحمن الرحيم، ويتأولها
(2)
أنها آية من كتاب الله.
وحمل
(3)
القاضي هذا على أن أهل المدينة كانوا يرون الجهر، فإذا خافتَ استنكروا فعلَه، فلم يصلُّوا معه. وليس كذلك، فإنَّ أهل المدينة كانوا لا يقرؤونها سرًّا ولا جهرًا، فأراد أحمد رضي الله عنه أن يجهر بها الرجل هناك؛ ليبيِّن أن قراءتها سنة، ويكون قدوته في الجهر بها من جهَر بها من الصحابة على هذا التأويل. ولذلك ما أمر بقراءتها بعد الاستعاذة. قال: ومالك لا يرى ذلك، وما يعجبني هذا من قوله.
والجهر بها على [هذا]
(4)
الوجه مستحب، لما قدَّمناه. فأما اتخاذ الجهر بها سنَّةً، فمكروه. نصَّ عليه في غير موضع، لأنه خلاف السنة. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن المعروف من حاله كان ترك الجهر، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة، وعمل به الخلفاء الراشدون. وما نقل عنه من الجهر بها ــ إن صحَّ وكان
(5)
له أصل ــ فله ثلاثة أوجه:
(1)
انظر: «الأوسط» (3/ 126). وفي الأصل والمطبوع: «كانوا يجهرون» . ولعله سهو من النساخ.
(2)
قال الناسخ في الحاشية: «لعله: ويتأولونها» نظرًا لما كان في أصله: «يجهرون» .
(3)
في الأصل: «وحمله» ، ونبَّه الناسخ على صوابه في الحاشية.
(4)
زيادة منِّي.
(5)
في الأصل: «كان» دون واو العطف، والتصحيح من حاشية الناسخ.
أحدها: أنه يكون جهَر بها أحيانًا، ليُعلمهم أنه يقرؤها، كما ذكرنا عن أصحابه. ويؤيِّد هذا أن الجهر بها مروي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ، وهو الراوي لحديث «قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي» ، مع أن
(1)
المحفوظ غيره، فتبيَّن
(2)
أصل قراءتها.
الثاني: أن يكون جهر بها أحيانًا، كما في حديث أبي قتادة:«كان يجهر بالآية أحيانًا»
(3)
، لأنَّ الجهر بها جائز في الجملة، ولا بأس به في الأحيان؛ وإنما المكروه المداومة عليها.
الثالث: أن يكون ذلك في
(4)
أول الأمر ثم نُسِخ، وكان آخر الأمرين عنه ترك الجهر. ويدل على أنه آخر الأمرين: أن أكابر الصحابة عملوا به. وما روى أبو داود في «الناسخ والمنسوخ»
(5)
عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة. وكان مسيلمة يُدعَى رحمانَ اليمامة، فقال
(6)
أهل مكة: إنما يدعو إله اليمامة
(7)
، فأمر الله رسوله بإخفائها، فما جهر بها حتى مات» رواه الطبراني في «المعجم»
(8)
عن
(1)
في الأصل: «أنه» ، والتصحيح من حاشية الناسخ.
(2)
في الأصل: «تبينت» ، وفي المطبوع:«تبيين» . ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
أخرجه البخاري (759)، ومسلم (451).
(4)
في الأصل «من» ، تصحيف.
(5)
وأخرجه في «المراسيل» (89).
(6)
في الأصل: «وكان» ، ولعله تصحيف.
(7)
تصرَّف محقق المطبوع في متن الحديث فأثبت لفظ «المراسيل» لأبي داود، دون تنبيه.
(8)
«الأوسط» (5/ 89)، و «الكبير» (11/ 439).
في إسناده مقال، أعله ابن رجب في «فتح الباري» (4/ 371) بالمرسل وصوبه، وانظر:«نصب الراية» (1/ 346).
سعيد
(1)
عن ابن عباس مسندًا. ويحقِّق هذا أن الجهر بها أكثر ما يعرف عن المكيين، مثل عطاء وطاووس ومجاهد
(2)
. وبهذا يتبيَّن أنه لا يستوي الجهر بها والإسرار مطلقًا.
وقول من خرَّج ذلك على القراءتين ضعيف، فإنه قد يُجهَر بها وإن لم تكن قرآنًا، كما يُجهَر بالتأمين. وقد يخافت بها وإن كانت من القرآن، كما سنذكر. ولو صحَّ ذلك لم يمنع أن تكون المخافتة بها أولى، كما تختار بعض الحروف على بعض.
[ص 272] وأما كون الجهر بها أولى، لأنه من القرآن أو من السورة؛ فليس هذا بمطِّرد، فإنه قد يُجهَر ببعض القرآن دون بعض، [كما]
(3)
يجهر في بعض الصلوات والركعات دون بعض. وأيضًا: فقد ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجهرَ بها لحكمةٍ كانت في زمانه، ثم صار ذلك سنّةً لمن بعده، كما رمَل واضطبع في طواف القدوم لمعنًى كان في ذلك الزمان، ثم صار سنةً للمسلمين إلى يوم القيامة. وكما أنَّ أصل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات وذبح الهدي، لما يروى من قصة فعل إبراهيم وابنه الذبيح وهاجر، ثم جعل الله ذلك عبادةً لمن بعدهم.
وأيضًا: فهي وإن كانت آيةً من القرآن، لكن إنما أُنزلت لأجل ما بعدها من السورة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه
(1)
في الأصل والمطبوع: «سعد» ، تصحيف.
(2)
أخرجه عنهم ابن أبي شيبة (4176).
(3)
من المطبوع.
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
. والتسمية إنما تكون عند ابتداء الأمور وفي أوائلها، فصارت كالتابع لغيره، المقصود من أجله. ففُرِّق بين ما يقصَد لنفسه وما يقصَد لغيره بصفة القراءة في الجهر والإخفات، كما يخافت بالاستعاذة لما كانت مقصودةً لغيرها. ألا ترى أن التسمية مقصودة لما بعدها مِن حمد الله والثناء عليه والصلاة له؟ والمعنى: بسم الله أقرأ وأصلِّي، أو بسم الله صلاتي وقراءتي. فبيِّن أن يميَّز بين المقصود لنفسه والمقصود لغيره.
فصل
وهل تجب قراءتها في الصلاة؟ على روايتين منصوصتين:
إحداهما: يجب، بناءً على أنها من فاتحة الكتاب. فإن لم يجعل البسملة آيةً
(2)
كان رأس الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وليس يشبه رؤوسَ الآي
(3)
؛ لأن ما قبل الحرف الأخير
(4)
يكون حرف لين، كما في سائر الآي.
وأيضًا: فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا ومرفوعًا
(5)
: «إذا
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
في الأصل والمطبوع: «أنه» ، تصحيف.
(3)
في الأصل والمطبوع: «نسبة لرؤوس الآي» ، ولعله تصحيف ما أثبت.
(4)
في الأصل والمطبوع: «الآخر» .
(5)
أخرجه الدارقطني (1/ 312) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 45) ــ من طريق أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، نوح يرفعه تارة، ويوقفه أخرى.
في إسناده مقال، فقد أعل المرفوع وصوب الموقوف الدارقطني في «العلل» (8/ 149)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 45)، وأعله من وجوه ابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 140)، وقال ابن الملقن في «البدر المنير» (3/ 559):«سائر رواة هذا الحديث من جميع طرقه ثقات» .
قرأتم الحمد فاقرؤوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، إنها أمُّ القرآن، وأمُّ الكتاب، والسبع المثاني. وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها». وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من أصحابه، من عدة وجوه رواها الدارقطني وغيره
(1)
؛ لأنها مكتوبة في أولها في المصحف، فوجب
(2)
أن تتلى حيث كُتبت كسائر آياتها.
والرواية الثانية: لا تجب قراءتها، لكن يُكرَه تركُ قراءتها كالاستعاذة، وأولى، بناءً على أنها ليست [ص 273] من الفاتحة، والمفروض إنما هو قراءة الفاتحة. ويمكن أن يقال: هي وإن جُعلت من الفاتحة باعتبار، فليست من القراءة المفروضة. وهذه الرواية هي الصحيحة عند عامة الأصحاب، وهي الغالب على كلام أحمد.
وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم[يقول]
(3)
: «من صلَّى صلاةً لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج» يقولها ثلاثًا. فقيل لأبي هريرة: إنما نكون وراء الإمام، فقال: اقرأها في نفسك، فإنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
(1)
انظر: «السنن» للدارقطني (1/ 312 - 313)، «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 45 - 47).
(2)
في الأصل والمطبوع: «فوجبت» ، تصحيف.
(3)
زيادة منِّي.
الْعَالَمِينَ}، قال الله: حمِدني عبدي. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجَّدني عبدي. وقال مرةً: فوَّض إليَّ عبدي. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، فلعبدي ما سأل. وإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» رواه الجماعة
(1)
إلا البخاري وابن ماجه
(2)
. وقال أبو زرعة: حديث صحيح.
وفيه دلالة من أربعة أوجه:
أحدها: أن أبا هريرة هو راوي الحديث، وقد فهم أنَّ أم الكتاب هي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخرها. ولهذا فَسَّر أحدَ الحديثين بالآخر، وهذا يُضعف ما روي عنه بخلافه.
الثاني: أنها لو كانت منها أو هي واجبة لَذكَرها في القسمة
(3)
، كما ذكر غيرها؛ لأن المراد بالصلاة: القراءة الواجبة في الصلاة.
الثالث: أن القسمة باعتبار الآيات، لأنه وقَف على رأس كلِّ آية، وجعل يشير إليها. فلو كانت البسملة فيها لكان الذي لله أربع آيات ونصفًا، والذي
(1)
أحمد (7291)، ومسلم (395)، وأبو داود (821)، والترمذي (2953)، والنسائي (909)، وابن ماجه (3784).
(2)
كذا في «المنتقى» (1/ 378)، والحديث قد رواه ابن ماجه.
(3)
في الأصل: «القسمية» ، خطأ.
للعبد اثنتين ونصفًا.
الرابع: أنه قال في آخره: «فهؤلاء لعبدي» . وهذا
(1)
صيغة جمع، إنما يشار به إلى ثلاثة آيات. ولو لم يكن
(2)
{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} رأس آية لقال: «فهاتان» . والإشارة إنما هي إلى الآي
(3)
دون الكلمات والحروف، كما قال:«فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل» .
وأيضًا حديث أبي بن
(4)
كعب
(5)
وحديث أبي سعيد بن المعلَّى
(6)
وحديث ابن جابر
(7)
. ولأنها لو كانت من الفاتحة لكانت السنَّة الجهر بها،
(1)
في المطبوع: «هذه» ، والمثبت من الأصل.
(2)
في المطبوع: «تكن» ، والمثبت من الأصل.
(3)
ذكر الناسخ أن في أصله: «اللاي» .
(4)
نبَّه الناسخ على سقوط «بن» من أصله.
(5)
أخرج عبد الله في «زوائد المسند» (21094)، والترمذي (3125)، والنسائي (914) ــ واللفظ له ــ أن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله عز وجل في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» .
وصححه ابن خزيمة (501)، وابن حبان (775)، والحاكم (1/ 558).
(6)
أخرجه البخاري (4474)، عن أبي سعيد بن المعلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد» ، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له:«ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن» ، قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} «هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
(7)
في الأصل: «وحديث الدجال» . وهو تحريف غريب. وصوابه من المطبوع. وحديث ابن جابر أخرجه أحمد (17597) ــ ومن طريقه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3596) ــ عن عبد الله بن جابر في قصة جاء في آخرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بخير سورة في القرآن؟» ، قلت: بلى يا رسول الله. قال: «اقرأ: الحمد لله رب العالمين حتى تختمها» .
قال ابن كثير في «التفسير» (1/ 23): «إسناده جيد» ، وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل متكلم فيه، غير أن لمتنه عدة شواهد تقدم ذكرها.
فإنَّ الفرق بين آيات السورة بعيد عن القياس، بخلاف ما ليس من السورة وإنما [ص 274] نزل لأجلها.
ولأنها لو كانت من أول الفاتحة لكانت من أول سائر السور، لأنها سورة من السور. ولا يختلف المذهب أنها ليست من غير الفاتحة. وقد دلَّ على ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن سورةً من القرآن ثلاثون آية شفَعت لرجل حتى غُفِر له، وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي
(1)
. وقال: حديث حسن. قال أصحابنا: وقد أجمع القُرَّاء على أنها ثلاثون آية بدون التسمية، فلو كانت منها لكانت آية، وكانت إحدى وثلاثين.
ولأن الناس مجمعون على أن الكوثر ثلاث آيات، ولو كانت منها لكانت أربع آيات. ولأنَّ الصحابة والتابعين وسائر الأمة يسمُّون حروف الهجاء فواتح السور، والحروف المقطَّعة في أوائل السور، ولو كانت
(1)
أحمد (7975)، وأبو داود (1400)، والترمذي (2891) وابن ماجه (3786).
قال الترمذي: «هذا حديث حسن» ، وصححه ابن حبان (787)، والحاكم (5/ 561).
البسملة أول آية من السور لما صحَّ. ولأنَّ الصحابة رضوان الله عليهم كتبوها في المصحف سطرًا مفصولًا عن السورة، ولو كانت منها لخلطوها في سائر آياتها كغيرها.
ومع هذا، فلا تختلف النصوص عن أحمد أنها آية من كتاب الله في كلِّ موضع كُتبت في المصحف، إلا في سورة النمل، فإنها بعض آية. ومن لم يقرأها فقد أسقط مائة وثلاث عشرة آية من كتاب الله. وهي آية مفردة أنزلت في أول السورة، وإن لم تكن منها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كتبوها في المصحف. فعُلِم أنها من القرآن، مع اعتنائهم بتجريده عما ليس منه، حتى عما فيه مصلحة من التعشير والتخميس والنقط [و]
(1)
أسماء السور
(2)
وغير ذلك.
وروى أبو داود
(3)
عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» . وفي كتابة الصحابة لها في أول الفاتحة دون أول براءة، وكتابتها سطرًا مفصولًا عما قبلها: دلالة واضحة على ذلك.
(1)
من حاشية الناسخ.
(2)
ذكر الناسخ أن في أصله: «السرور» .
(3)
برقم (788) ــ ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 42) ــ والحاكم في «المستدرك» (1/ 231)، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
رجال إسناده ثقات، غير أنه قد صح عن سعيد بن جبير مرسلًا، أخرجه أبو داود في «المراسيل» (36)، وقال:«قد أسند هذا الحديث، وهذا أصح» ، وصححه الحاكم، وابن الملقن في «البدر المنير» (3/ 560).
هذه حقيقة المذهب، ومن تأمَّله علِمَ الطريقة المثلى فيما اضطرب الناس فيه في شأن البسملة.
وطائفة من أصحابنا يحكون رواية أخرى أنها بعض آية، وأنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل. وربما اعتقد كثير منهم أن هذا هو المذهب، ظنًّا منهم أنَّا إذا قلنا: ليست من السورة، فقد قلنا: ليست من القرآن. وهذا غلط على المذهب، توهَّموه من مذهب غيرنا. والله أعلم.
فصل
[ص 275] السنَّة لمن قرأ سورة من القرآن: أن يقرأ في أولها البسملة، إلا في أول براءة، سواء ابتدأ السورة أو وصلها بما قبلها، إلا في الصلاة يخفيها، وخارج الصلاة إن شاء جهَر بها، وإن شاء خافَتَ، كالاستعاذة وسائر القرآن؛ لأن الجهر والمخافتة موقَّت في الصلاة، وليس موقتًا في غيرها. وأما في الصلاة فيخافَت بها، إلا إذا قُرِن بين السورتين في التراويح ونحوها، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجهر بها كسائر الصلوات.
والثانية: إن جهَر فلا بأس، لأن النافلة أخفُّ من الفريضة. وإذا قرَن بين السورتين كأن قد جهر بما قبلها، وما بعدها فألحقت بذلك، بخلاف ما إذا كان قبلها سكوت أو مخافتة، فإنها تلحق به. وإن ابتدأ من أثناء سورة أو من أول براءة لم يُستحَبَّ أن يقرأها، لأنها لم تُكتَب هناك، والمستحب أن تُقرأ كما في المصحف في مواضعها
(1)
. وإن قرأها فلا بأس، بخلاف الاستعاذة
(1)
هنا في النسخة حاشية نصُّها: «حاشية: ونصوص أحمد وقول المحققين من أصحابه كما قدَّمناه. وقال الآمدي: لا تختلف الرواية عن أحمد أنها ليست بآية من كل سورة، وإنما هي بعض آية من سورة النمل، وآية في نفسها حيث تكتب. ويفيد هذا أنَّ الجنب ممنوع من قراءتها، والمحدث ممنوع من مسِّها. انتهى من هامشه بخط الناسخ» .
قوله: «قدَّمناه» يدل على أن هذه الحاشية قد علَّقها الشارح على نسخته، فهي منقولة منها. ولفظ «يفيد» كان في الأصل الذي نقلت منه هذه النسخة مصحفًا إلى «تقيد» ، فأشار كاتبها في الهامش إلى صوابه.