الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال ابن القيم في تعريف الهمة: فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة فالهم مبدأها والهمة نهايتها (1) والهمة توصف بالعلو، وتوصف بالدنو. فالهمة العالية هي النية الصادقة، والعزمة الجازمة، والارادة القوية الرفيعة (2)، اما الهمة الدانية: فهي ضعف النفس عن طلب المراتب العالية وقصور الامل عن بلوغ الغايات. وقيل هي ايثار الدعة، والرضا بالدون، والقعود عن معالي الامور، فاشحذ همتك ولا تكسل، فان العزيمة تأتي على قدر همم الرجال قال الشاعر:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
…
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
…
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
بالهمم العالية تنال المراد فاستعذ بالله من الكسل
ان الهمة تولد مع الانسان وانما تقصر بعض الههم في بعض الاوقات او تفتر، فمتى رايت في نفسك عجزا فاسأل المنعم واستعن بالله ولا تهن ولا تحزن، وان اصابك كسل فاستعذ بالله منه فلن تنال خيرا الا بطاعة الله فمن الذي استعان بالله ولم يعنه ومن الذي اعرض عن الله فمضى بفائدة؟ فلا يغرك الشيطان ويشجعك على الكسل والبعد عن العمل، وفي الدعاء المأثور:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ)(3) وفي الذكر الحكيم: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
(1) - مدارج السالكين، ج3/ ص3.
(2)
- الهمة العالية للعلامة محمد بن ابراهيم الحمد، ص16.
(3)
- ابو داود في سننه حديث رقم (1330) .
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) فاعمل اخي ولاتعجز وتستسلم للاوهام فالسر الكامن وراء كل المتميزين هو الهمم العالية وعدم الاستسلام لوسوسة الشيطان فالحياة افسح من لحظة يكتظ فيها مشاعر الاسى وكتل اليأس وتوهم حب السلامة والبقاء في القعود عن الهمم العالية قال الشاعر:
حبُّ السلامةِ يُثْني همَّ صاحِبه
…
عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ
فإن جنحتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً
…
في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ
رضَا الذليلِ بخفضِ العيشِ يخفضُه
…
والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ (2)
اما صفي الدين الحلي فهو يقول:
حُبُّ السَلامَةِ يَثني عَزمَ صاحِبِهِ
…
عن المعالي ويغيري المرء بالكسل
ويقول عبد الحميد الرافعي مخمسا لقصيدة صفي الدين الحلي (حب السلامة) :
ذو الحزم من يتغالى في مآربه
…
ولو دهته المنايا في مذاهبه
فقل لمن قد توانى عن مطالبه
…
حب السلامة يثني عزم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
لا يدرك المجد إلا من طوى السبلا
…
كدا يحاول في الدنيا ثناً وعلا
فان لزمت الحشايا فاقصر الاملا
…
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل
(1) - سورة التوبة الاية (105) .
(2)
- هذه الابيات للطغرائي.
وسر على اسم العلى والنفس واثقة
…
بالعز مهماأعاقت عنه عائقة
ولا يهجك إلى الأوطان بارقة
…
ان العلى حدثتني وهي صادقه
فيما تحدث ان العز في النقل
ان عظيم الهمة لايشغل باله بامر صغير، ولا يقلب فكره في امر يسير، بل يقوم بجلائل الاعمال، وقد جرت سنة الله في خلقه الا ينهض الى المقاصد الجليلة، ويرمي الى الغايات البعيدة غير النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، قال الشاعر:
وَمَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّةَ نَفْسِهِ
…
فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فيها مُحَبَّبُ (1)
ولما كان مجد الاخرة اعظم المجد كان ابتغاؤه اعظم الغايات وكان هو الهم الاكبر لذوي الهمم العالية ممن يرجو الله والدار الاخرة قال الشاعر:
ولِمْ أَنا راض أَن أُرَى وَاطِئَ الثَّرى
…
ولي هِمَّةٌ لا ترتضي الأُفْقَ مَقْعَدا (2)
والى هذا المعنى يشير قول النابغة الجعدي:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودُنَا
…
وَإِنَّا لَنَبْغِي فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إلى الْجَنَّةِ.
قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3)
وقال الامام الشوكاني: (وينبغي لمن كان صادق الرغبة قوي الفهم ثاقب النظر عزيز النفس شهد الطبع عالي الهمة سامي الغريزة أن لا يرضى لنفسه
(1) - هذا البيت لمحمود سامس البارودي.
(2)
- هذا البيت لابن رشيق القيرواني.
(3)
- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للمؤلف: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري، ج6/ص146.
بالدون ولا يقنع بما دون الغاية ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغين له إلى أعلى ما يراد وأرفع ما يستفاد فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة حتى قال قائلهم:
إذا غامرت في شرف مدوم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
…
كطعم الموت في أمر عظيم
وقال آخر مشيرا إلى هذا المعنى
إذا لم تكن ملكا مطاعا
…
فكن عبدا لخالقه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعا
…
كما تهواه فاتركها جميعا
هما شيئان من ملك ونسك
…
ينيلان الفتى شرفا رفيعا
وقال آخر:
فإما مكانا يضرب النجم دونه
…
سرادقه أو باكيا لحمام
وقد ورد هذا المعنى كثيرا في النظم والنثر وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة وتقبله النفوس العلية (1)
الهمة المضيئة والارادة القوية
ان كثيرا من الناس تكمن فيه الهمة كمون النار في الزند، فهذه الهمة بحاجة الى من يوريها ويقدح زندها، فمهما حفظ الإنسان من الحكم وكانت رغباته صالحة فلن يكون منتجا الا اذا شحذ همته وقويت ارادته، وانتهز فرصته، فلاتصغرن همتهك، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال:"لاتصغرن همتكم، فاني لم ار اقعد عن المكرمات من صغر الهمم"(2) وقال الامام مالك رحمه الله: "عليك بمعالي الامور وكرائمها واتق رذائلها وما سف منها فان الله تعالى يحب معالي الامور ويكره سفاسفها" وقال بعض الحكماء: "الهمة راية الجد" وقال بعض البلغاء: "علو الهمم بذر النعم"(3) وقال الامام علي رضي الله عنه:
إِذا أَظمَأتَكَ أَكُفُّ الرِجالِ
…
كَفَتكَ القَناعَةُ شبعاً وَريّا
فَكُن رَجُلاً رِجلُهُ في الثَرى
…
وَهامَةُ هِمَّتِهِ في الثُرَيّا
وقال اخر:
إِنَّ لي هِمَّةً أَشَدَّ مِنَ الصَخ
…
رِ وَأَقوى مِن راسِياتِ الجِبالِ (4)
وقال احمد شوقي: "الطير يطير بجناحيه، والمرء يطير بهمته"، وقال ابن القيم رحمه الله:"انما تفاوت القوم بالهمم لابالصور"(5) فمن علت همته، وخشعت نفسه، اتصل بكل جميل، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل (6) وقال الفت عجز العدة؛ فلو علت بك همتك ربا
(1) - ادب الطلب ومنتهى الادب، للامام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله، ص127، الناشر دار ابن حزم بيروت لبنان سنة النشر 1419هـ - 1998م.
(2)
- ادب الدنيا والدين للماوردي، ص319.
(3)
- ادب الدنيا والدين للماوردي، 319.
(4)
- هذا البيت لعنتر بن شداد.
(5)
- الفوائد لابن القيم، ص77.
(6)
- الفوائد لابن القيم ، ص211.
المعالي راحت لك انوار العزائم (1) وقال الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب (2) وفي امثال العرب: "الارادة سر النجاح، وقدر الرجل على قدر همته، والهمة تلقح الجد العقيم" وقيل "الهمة جناح الحظ"(3) وقيل "من جد وجد" وللهمم العالية اسباب تبعثها وتعين على اسبابها وتحركها، منها حب الله والايمان به وابتغاء ثوابه ومحبته ومحبه عباده، ومحبة العمل واتقانه، فاذا استيقضت القلوب نشطت الاعضاء للاعمال الصالحة وتسابقت النفوس الى اكتساب الفضائل والمحامد، فالنفوس الشريفة لاترضى من الاشياء الا باعلاها وافضلها، واحمدها عاقبة، فهي لاترضى الهمم الدنيئه والاعمال الرذيلة فهي تتوق الى ما ينفعها وتحرص على ما يرفعها، قال ابو فراس الحمداني:
إِنّي أَبيتُ قَليلَ النَومِ أَرَّقَني
…
قَلبٌ تَصارَعَ فيهِ الهَمُّ وَالهِمَمُ
وَعَزمَةٌ لايَنامُ اللَيلَ صاحِبُها
…
إِلّا عَلى ظَفَرٍ في طَيِّهِ كَرَمُ
وقال اخر:
الجد في الجد والحرمان في الكسل
…
فانصب تصب عن قريب غاية الأمل (4)
(1) - الفوائد لابن القيم، ص77.
(2)
- الفوائد لابن القيم، ص76.
(3)
- كنوز الامثال ص108.
(4)
- هذا البيت لصلاح الدين الصفدي.