الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلال المطلوب توافرها في المشير
من حق العاقل ان يضيف إلى رأيه رأي العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، ويحسن اختيار المشير، ويديم الاسترشاد، ويترك الاستبداد، فالرأي الفرد ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل، وزلة الرأي تأتي على الفرد فتضعفه، وتأتي على الملك وتؤدي إلى الهلك، فمن التوفيق حسن اختيار المشير، وقديما قيل من احسن الوفاء استوجب الاصطفاء، ومن استشار الرشيد عمل بمشورته، ومن استنصح الصديق وبنى على نصيحته لم يفته حزم ولم يغلبه خصم، ومن استشار العاقل فيما ينويه، واسترشد العالم فيما يأتيه صحت له الامور، وصلح به الجمهور، واستنار منه القلب، وسهل عليه الصعب. فمن جهل المرء وسخفه وسقم رأيه وضعفه ان يتصور في نفسه ويتقرر في حسه. ان في استمداد الاراء واستشارة النصحاء ما يزري به، ويضع من قدره فيستبد بالتدبير ويعرض عن المشير؛ فيبقى في ظلمة الحيرة، ويحصل على الهم والحسرة، فإذا اشكلت عليك الامور، وتغير لك الجمهور فارجع الى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة النصحاء ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد، فإن تسأل وتسلم، خير من ان تستبد وتندم، ولاتستشر الجاهل بالامور فإن من استرشد الجاهل ضل، ومن جهل موضع قدمه زل، وفي الامثال السائرة: جهل المشير قتل المستشير، واذا استشرت الجاهل اختار لك الباطل، فاستعن بذوي العقول لتدرك المامول فمن
استشار ذوي الالباب، سلك سبيل الصواب (1) وقد ذكر الماوردي في المشير خصالا خمسا نلخصها في الاتي:
الخصلة الاولى: عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: {اسْتَرْشِدُوا الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا} (2) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ: احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ، إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقَ إلَيْك مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ.
وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ: مَا أَكْثَرُ صَوَابِكُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أَلْفُ رَجُلٍ وَفِينَا حَازِمٌ وَنَحْنُ نُطِيعُهُ فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِم.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
وَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيك نُصْحَهُ
…
وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلَكِنْ إذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ
…
فَحُقَّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ
وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقًى، فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ.
(1) - الفرائد والقلائد تأليف ابي الحسين محمد بن الحسين الأهوازي ص (59-61) بتصرف، الناشر دار الرازي، طبعة دار ابن حزم بيروت لبنان 1427هـ 2006 الطبعة الاولى.
(2)
- السيوطي في الجامع الصغير باب حرف الألف حديث رقم (975) .
وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: {مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدَ أُمُورِهِ} .
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا، فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا تُشَاوِرْ إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ، وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَصْفِ ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ
…
وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ
وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ
…
بِمَا يُؤَدِّي إلَيْك ظَاهِرُهُ
مَنْ يَكْشِفْ النَّاسَ لَم يَجِدْ أَحَدًا
…
تَصِحُّ مِنْهُمْ لَهُ سَرَائِرُهُ
أَوْشَكَ أَنْ لَا يَدُومَ وَصْلُ أَخٍ
…
فِي كُلِّ زَلَّاتِهِ تُنَافِرُهُ
وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ خَاطِرٌ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ.
وَكَانَ كِسْرَى إذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ بَعَثَ إلَى مَرَازِبَتِهِ فَاسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ قَصَّرُوا فِي الرَّأْيِ ضَرَبَ قَهَارِمَتِهِ وَقَالَ: أَبْطَأْتُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ فَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
وَلَا مُشِيرَ كَذِي نُصْحٍ وَمَقْدِرَةٍ
…
فِي مُشْكِلِ الْأَمْرِ فاخْتَرْ ذَاكَ مُنْتَصِحًا
وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ غَرَضٌ يُتَابِعُهُ، وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ وَالْهَوَى صَادٌّ، وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ الْأَغْرَاضُ فَسَدَ.
وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
وَقَدْ يَحْكُمُ الْأَيَّامَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا
…
وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبُ
وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى وَهُوَ مُخْطِئٌ
…
وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبُ
فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِك، وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِك، فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ، وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ، لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ:{رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ، وَمَا اسْتَغْنَى مُسْتَبِدٌّ بِرَأْيِهِ، وَمَا هَلَكَ أَحَدٌ عَنْ مَشُورَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَلَكَةً كَانَ أَوَّلُ مَا يُهْلِكُهُ رَأْيَهُ} (1) .
(1) - انظر ادب الدنيا والدين للامام الماوردي ص (302-304) .