الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رفع الإثم أو الضمان والاحتمال متساوٍ ولا مرجح فكان مجملاً.
وسيأتي ذكر جواب المحققين عن هذين المثالين، والغرض هنا إيضاح القاعدة.
6 - الإجمال بسبب ورود المجهول على المعلوم:
لأن المجهول إذا ورد على المعلوم صير المعلوم مجهولاً نحو:
أ-الاستثناء للمجهول: كقوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]. للجهل بمعناه قبل نزول مبينه، أي:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. ويسرى الإجمال إلى المستثنى منه، أي:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1].
(1)
ب-عدم تعيين مرجح الصفة: نحو زيد طبيب ماهر، لتردد ماهر بين رجوعه إلى طبيب وإلى زيد، ويختلف المعنى باعتبارهما
(2)
.
المسألة الثالثة: في مسائل ظُنت من المجمل وليست منه
.
1 -
لا إجمال فيما وجب فيه التقدير، وهي ثلاثة أنواع:
أ- ما وجب فيه التقدير لتوقف صدق الكلام عليه نحو: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، فإنه لا بد من تقدير الحكم أو المؤاخذة لتعذر حمله على حقيقته فإنها واقعة
(3)
.
ب-ما وجب فيه التقدير عقلاً؛ لأنه لا يثبت الملفوظ به عقلاً إلا بتقدير،
(4)
نحو قوله تعالى: {فَانفَلَقَ} [الشعراء: 63]. فإنه يلزم عقلاً إضمار -فضرب-
(1)
شرح الجلال على الجمع مع حاشية البناني 2/ 62.
(2)
المصدر نفسه 2/ 63 - 64.
(3)
تشنيف المسامع بشرح جمع الجوامع للزركشي ج 1/ 164، وانظر تيسير التحرير 1/ 169، ومفتاح الوصول ص 3، وشرح الكوكب المنير 3/ 424.
(4)
تشنيف المسامع 1/ 164.
وكذلك: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، فلو لم يقدر فيه أهل القرية لم يصح عقلاً.
جـ- ما يمتنع ثبوته شرعاً إلا به، نحو:"أعتق عبدك عني على ألف"، فلا بد من تقدير البيع له ثم إعتاقه عنه ليصح شرعاً.
2 -
لا إجمال فيما اتضحت دلالته عرفاً في المذاهب الأربعة
(1)
:
وهو: ما توجد فيه التحليل أو التحريم إلى الأعيان، نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. إذ التحليل والتحريم من الأحكام الشرعية، وهي لا تتعلق إلا بأفعال المكلفين، وفعل المكلف يقدر على حسب العرف، فهو في الأول: الأكل، والثاني: الاستمتاع.
وهكذا ففي المأكولات يقدر الأكل، وفي المشروبات الشرب، وفي الملبوسات اللبس، وفي الموطوءات الوطء، فإذا أطلق أحد هذه الألفاظ سيتضح المعنى المراد من غير توقف، فتلك الدلالة متضحة لا إجمال فيها
(2)
.
ما توجه فيه النفي إلى الذوات:
نحو: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)
(3)
، (لا نكاح إلا بولي)
(4)
ونحوها.
لأنه قد اشتهر في العرف نفي الشيء لنفي فائدته، كقولهم: لا علم إلا ما نفع، ولا عمل
(1)
انظر فواتح الرحموت 2/ 38، وتيسير التحرير 1/ 166 - 169، ونثر الورود على مراقي السعود 1/ 333، مفتاح الوصول ص 461، وشرح المحلى للجمع 2/ 93 - 94 مع حاشية العطار وغاية الوصول شرح لب الأصول لزكريا ص 148. وشرح الكوكب المنير 3/ 419.
(2)
شرح الكوكب المنير 3/ 420، ولم يخالف إلا الكرخي من الحنفية على أن ابن عبد الشكور في فواتح الرحموت ردعليه 2/ 33، وخالف أبو عبدالله البصري من المعتزلة.
(3)
صحيح مسلم (1/ 295)
(4)
أخرجه ابن ماجه في سننه، برقم:(1537)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم:(7556).
إلا بنية، ولا بلدة إلا بسلطان. يراد به نفي الفائدة والجدوى
(1)
.
فتتعين هنا الصحة دون الكمال؛ لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى بخلاف ما لا كمال فيه، هذا إن لم يثبت في مثله عرف أصلاً، فإن ثبت عرف شرعي في إطلاق الصلاة، والصيام، والنكاح ونحوها على الصحيح كان المعنى لا صلاة صحيحة، ولا صيام صحيح، ولا عمل صحيح، فالنفي لها ممكن فلا تقدير؛ فلا إجمال.
وإن ثبت عرف فيه لغوي وهو أن مثله يقصد نفي الفائدة والجدوى نحو: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، ولا طاعة إلا لله تعين فلا إجمال
(2)
.
والمرجح لنفي الصحة موجود وهو قربه من نفي الذات، فإن ما انتفت صحته لا يعتد به فيكون كالمعدوم، بخلاف ما انتفى كماله فقد يعتد به
(3)
.
فتحصل أن هذا لا إجمال فيه، لأن:
1 -
النفي متوجه إلى الذوات الشرعية أو اللغوية، وكلاهما لا إجمال فيه.
2 -
عرف الشرع تقدير الصحة فتثبت، وعرف اللغة تقدير نفي الجدوى والفائدة.
3 -
ولأن تقدير الصحة أقرب إلى نفي الذات بخلاف الكمال.
وخالف في هذه المسألة أبوبكر الباقلاني كما نسب إليه، والنقل غير صحيح عنه بل مشنع على القائل به
(4)
.
كما أن نسبته إلى الحنفية وهْم،
(5)
فالمعتمد عندهم نفي الحقيقة الشرعية والصحة
(1)
روضة الناظر 2/ 49.
(2)
شرح الغاية 2/ 350.
(3)
شرح المحلى على الجمع مع حاشية البناني 2/ 61.
(4)
انظر التقريب والإرشاد 1/ 381.
(5)
كما نسبه إليهم في روضة الناظر 2/ 47 وغيره.
إلا ما ثبت فيه دليل صارف، نحو:(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) فقد حملوه على نفي الكمال، لقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، وهم مع هذا قالوا بوجوبها
(1)
.
5 -
ما تردد بين الحقيقة الشرعية واللغوية فلا إجمال فيه، ويحمل على الشرعية في المذاهب الأربعة، وهو نوعان:
أ-إذا كان اللفظ مسمى في اللغة ومسمى في الشرع: كالصلاة والصوم وضعا في اللغة للدعاء والإمساك، وفي الشرع لأمرين عباديين معلومين.
فالمختار في المذاهب الأربعة أنه "ظاهر في المسمى الشرعي في الإثبات والنهي"
(2)
.
فمثاله في الإثبات: قوله صلى الله عليه وسلم (إني إذاً صائم)،
(3)
أي: الصوم الشرعي
(4)
. فيستدل به على جواز النية في النفل بالنهار
(5)
.
وكقوله عليه الصلاة والسلام: (توضئوا مما مست النار)،
(6)
يحمل على الوضوء الشرعي لا اللغوي، كذلك حديث:(كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)
(7)
.
(1)
انظر فواتح الرحموت 2/ 38 ونهاية الوصول إلى علم الأصول الجامع لأحكام الآمدي والبزدوي لابن الساعاتي الحنفي 1/ 70، وتيسير التحرير لابن بادشاه وابن الهمام، التقرير والتحيير 1/ 264.
(2)
تيسير التحرير 1/ 172 وفواتح الرحموت 2/ 41، وشرح المحلى على الجمع مع حاشية للبناني ومفتاح الوصول لابن التلمساني ص 469، والتحبير شرح التحرير للمرداوي 6/ 2786.
(3)
تيسير التحرير 1/ 172.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال برقم 1154.
(5)
التحبير شرح التحرير 6/ 2790.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه، برقم:(353).
(7)
أخرجه أبو داود في سننه برقم: (192)، والنسائي، برقم:(185) واللفظ له، وقد صححه الألباني في صحيح النسائي.
ومثاله في النهي: (نهى عن صوم يوم النحر)
(1)
، يحمل على الصوم الشرعي
(2)
: (ودعي الصلاة أيام أقرائك) مجمع على حمله على الشرعية لا اللغوية.
ب-إذا حمل الشارع لفظاً شرعياً على لفظ شرعي آخر فلا إجمال:
كقوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى قد أحل لكم فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير)
(3)
صحيح.
فالطواف في حقيقته الشرعية غير الصلاة في الحقيقة الشرعية، فعلى ماذا يحمل هذا اللفظ؟
هل على الحقيقة الشرعية؟ أم على اللغوية؟
إن حملناه على اللغوية كان المعنى "الطواف بالبيت دعاء" إلا أن تمام الحديث يأباه. وإن حملناه على الشرعية فلا بد من تقدير وجه للتشبيه، فيكون المعنى "الطواف بالبيت كالصلاة" في لزوم الطهارة وستر العورة والنية وغيره. وهذا هو المعنى الشرعي.
وهو الذي يحمل عليه مثل هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان الشرعيات لا اللغويات.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، برقم:(66)، ومسلم في صحيحه، رقم:(1137).
(2)
خلافاً للغزالي القائل- أن ما ورد في الإثبات والأمر فهو للمعنى الشرعي وما ورد في النهي فهو مجمل مستدلاً بأنه إذ لولا إمكانه لما قيل له لا تفعل إذ لا يقال للأعمى لا تبصر المستصفى 1/ 359، وأجيب عنه بالإجماع على أن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم "دعي الصلاة أيام أقرائك" الصلاة الشرعية وليست مجملة. وأن قوله هذا مفضي إلى القول بإجمال قوله تعالى:" وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى "" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ " وغيرها وهذا باطل.
(3)
انظر تيسير التحرير 1/ 174، 175، وجمع الجوامع وشرحه للمحلى مع حاشية العطار 2/ 97، وشرح الكوكب المنير 3/ 433، لباب المحصول لابن رشيق المالكي 2/ 483، وهداية العقول 2/ 355.