الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواية:
قال حافظ الدين فى كتابه «النافع» نقلا عن صاحب الهداية: «كنت قد نويت الذهاب إلى مكة المعظمة لأداء مناسك الحج، وعندما استأذنت من شيخى وطلبت منه الوصية قال لى: إن ثمة مكان مبارك فى مكة يقال له «سوق الكراع» ، ومن هذا الموقع الشريف تبرز كعبة الله المتعال فى جمال لا مثيل له، وعندما تصل إلى هذا المكان وتنال شرف مشاهدة جمال بيت الله، فعليك أن تدعو قائلا:«اللهم اجعلنى من عبادك الذين تستجاب دعواتهم» لأن الدعاء عند رؤية بيت الله رهين الاستجابة. انتهى.
بناء على ما ذكره أهل العلم والدراية من سكان مكة المكرمة أن سيل جياد يحدث مرة كل عشرة أعوام، ويطغى بشدة منقطعة النظير ويفوق سيل «وادى إبراهيم» إلى حد جد بعيد، ويملأ المسجد الحرام بالطين والحصى، ولقد بذل أشراف البلد وأعيانهم من السلف الصالح كل جهدهم وصرفوا كل همتهم إلى حفر كثير من القنوات تحت الأرض لاستيعاب جريان مياه «سيل جياد» ، ولكن القنوات امتلأت بالمياه على مر الزمان ولم تخطر بذلك دواوين الخلافة، فاستمر تدفق السيل فى مجراه القديم تدفقا شديدا - حين حدوثه - وما زال يهدم البيوت ويخرب الكثير من المنازل.
4 -
سيل الحجاف: هو السيل الرابع الذى أفزع أهالى مكة المفخمة، ولقد ظهر هذا السيل فى عهد عبد الملك بن مروان، وفى خلال العام الثمانين من الهجرة النبوية.
وقد ظهر ذلك السيل فى وقت صلاة الصبح وكان الحجّاج ذوى الابتهاج فى وادى مكة، وبدأ جريان المياه من قبل صلاة الصبح، ثم ازدادت شيئا فشيا فجرف السيل الحجاج القائمين فى محل الوقفة كما جرف أثقالهم وأمتعتهم إلى المسجد الحرام.
وأحاط بالبيت المعظم وهدم المنازل والحوانيت الكائنة فى ناحية الوادى وخربها، وأغرق كثيرا من الناس وأهلكم.
وبما أن الناس قد لجئوا إلى الجبال لإنقاذ أرواحهم تاركين أمتعتهم وأموالهم أطلق عل ذلك السيل اسم «سيل الحجاف» . وحينما أبلغ هذا الخبر المخيف لعبد الملك؛ أرسل إلى مكة المعظمة الموظفين المختصين من قبله لبناء ما تهدم من البيوت، ولحفر مجارى السيل وتعميقها، وبناء جدران من الحجارة الكبيرة والمتينة حيث يستدعى البناء، وقدم للأهالى أموالا طائلة وأشياء لا تحصى وهكذا عجل بإظهار جوده وسماحته.
5 -
السيل الخامس من سيول مكة «سيل عمر بن عبد العزيز» حدث هذا السيل فى السنة السابعة والتسعين أو الثامنة والتسعين من الهجرة، وكان سبب ظهور هذا السيل دعاء عمر بن عبد العزيز، لأن عمر بن عبد العزيز كان قد غادر الشام بنية الحج متجها إلى الأراضى الحجازية الجالية للغفران.
فاستقبله أشراف مكة وأعيانها وتحدثوا عن الجفاف قائلين: «يا سيدنا إن الحجاز ومكة معرضة للجفاف فى هذه الأيام، ويخشى من نقص الماء وإن أهل الحرمين فى أشد الاضطراب من هذا الأمر وفى شدة الحزن مما سيصيب الحجاج الكرام من العطش فى موسم الحج هذا العام. وهكذا أجبروا عمر بن عبد العزيز على دعاء الاستسقاء. وفى الحال هم الخليفة بدعاء الاستسقاء بكل ما أوتى من عقيدة قوية وإيمان صادق بناء على الاتفاق الذى تم بينه وبين الوفد المكى، واشترك فى الدعاء قافلة الحجاج التى صاحبته وكذلك الوفد المكى الذى جاء لاستقباله.
ولحكمة ما انهمرت الأمطار بطريقة لم يسبق لأهالى البلاد الحجازية أن رأوا مثلها من قبل. وجاءت السيول من جميع الجهات وأحاطت مكة المعظمة من
جهاتها الأربع، وعمر الحجاز بالخيرات وعم الخصب ورخصت الأسعار؛ وذلك ببركة دعاء عمر بن عبد العزيز.
6 -
السادس من سيول الحجاز سيل أبو شاكر: وقد ظهر هذا السيل فى السنة السادسة والعشرين بعد المائة الهجرية وفى عهد هشام بن عبد الملك. وكان «أبو شاكر» من أجلاء رجال الدولة، وكان ضمن قافلة من قوافل الحجاج وقد اضطرب اضطرابا شديدا من شدة صولة السيل، وأظهر قلقا لذا ذكر ذلك السيل العظيم بعد فترة ما «بسيل أبى شاكر» .
7 -
من السيول التى خربت مكة المعظمة سيل مخيل: وقع سيل مخيل سنة مائة وثمانين واجتاح المسجد الحرام بقوة وسبب ضررا غير قليل. ولا يمكن حصر البيوت التى انهارت والأرواح التى أزهقت.
8 -
السيل الثامن من سيول مكة «سيل حنظلة» ظهر هذا السيل فى سنة مائتين واثنتين وفى عهد الخليفة المأمون. وبما أن هذا السيل قد ظهر بقوة شديدة نقل مقام إبراهيم الهمام إلى مكان مرتفع خيفة انتزاع السيل له. وقد خرب هذا السيل المسجد الحرام، وهدم كثيرا من المنازل وأهلك بالغرق كثيرا من النفوس. ولما كان والى مكة فى تاريخ ظهور السيل يسمى «حنظلة» فسمى السيل «سيل حنظلة» .
9 -
قد ظهر سيل آخر بعد سيل حنظلة بست سنوات سنة (208)، وقد اقتلع هذا السيل العظيم أركانا كثيرة من المسجد الحرام، وهدمها كما سبب غير قليل من الخسائر والمضرات لأهل مكة، كما جلب فى ساحة المسجد الحرام السعيد كثيرا من الطين والرمل مما دعا إلى إشراك النساء فى خدمة تطهير المسجد الحرام. قد ظهر هذا السيل فى عهد الخليفة المأمون، وفى خلال السيل العظيم وسيل حنظلة تعرض الناس لمرض شديد ومات ما لا يحصى من الناس.
10 -
ومن السيول التى أفزعت الناس فى البلاد الحجازية سيلان وقع أحدهما وهو السيل العاشر بمكة سنة 253 والثانى وهو الحادى عشر فى مكة فى سنة 266. يعتبر السيل الذى وقع 253 من الأحداث المهمة التى حدثت فى البلاد الحجازية، إذ دخل إلى المسجد الحرام وارتفعت المياه حتى وصلت إلى الحجر الأسود، وجلبت للمسجد خسائر عظيمة إلا أن السيل الذى حدث بعده بخمسة عشر عاما كان أكثر رعبا وفزعا. إن هذا السيل قد خرب المنازل والمدارس والحوانيت التى فى طريقه، وبخلاف هذا فقد جرف الرمال التى كانت تفرش ساحة الحرم الشريف، وقد بلغ شدة جريانه حدا أنه جرف معه كل ما يقع أمامه من الأجسام الثقيلة بدون قيد ولا احتراز، كما أنه اقتلع جميع الحجارة التى فى داخل ساحة المسجد الحرام.
وبعد هذه الواقعة أى بعد سيل عام 266 ظهرت سيول أخرى خلال 344 سنة، إلا أنه لا يعرف التاريخ أوقات ظهورها، ولكن مما يروى أنه فى خلال تلك الفترة هبطت على مكة سيول من الجبال التى تحيط بها، وهى سبعة سيول أو ثمانية، وقيل إنها كانت مفزعة رهيبة، وقد جرف إلى ساحة الحرم الشريف الأتربة وعظام الحيوانات وغير ذلك، وتحول داخل المسجد الحرام إلى جبال مما سبب لأهل مكة التعب الشديد فى نقل المخلفات وترميم ما خربته السيول وتعميره.
وقد نقل مؤلف «لطائف الأخبار» عن قاضى مكة برهان الدين بن ظهير فى ذلك الوقت «أن أشد السيول التى هبطت هو السيل الذى ظهر فى شدة مخيفة فى يوم الأربعاء الرابع عشر من ذى القعدة عام (683) وكأنه شعبة من المحيط الهادى.
إن السيل الذى يذكره القاضى برهان الدين قد ملأ ساحة المسجد الحرام ذات الفيوضات الباهرة، وهدم كثيرا من أساطينه وخربها، وأهلك فى داخل الحرم الشريف وخارجه وأغرق خمسائة وسبعين شخصا.
قد ظل هذا السيل فى داخل الحرم الشريف ما يقرب من أربعة أيام، من يوم الأربعاء إلى يوم السبت وظلت المياه تتزايد بغزارة فى تلك الأيام الأربعة؛ إلا أنها أخذت فى النقصان يوم السبت، وقد أصاب أهل مكة من شدة هيجان ذلك السيل فزع شديد».
ويقول القاضى برهان الدين فى رسالة كتبها وأرسلها إلى مصر بعد أن تحدث عن وقت ظهور السيل ومدة بقائه فى الحرم الشريف «إن المسنين الذين عاصروا السيل يذكرون أن مثل هذا السيل لم ير له مثيل لا فى العصور الجاهلية ولا فى العهود الإسلامية.
إن المياه التى تجمعت فى ساحة المسجد الحرام، ارتفعت مقدار سبعة أذرع وثلاثة أرباع ذراع» وفى خاتمة رسالته أومأ إلى أن أهل مكة كانوا على حق فيما أصابهم من شدة الفزع.
11 -
من السيول التى يعرف التاريخ ظهورها السيل العظيم الثانى عشر الذى حدث فى سنة 1538 الهجرية. إن السيل المذكور قد ظهر فى ليلة الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة، واجتاح ساحة الحرم الشريف من البطحاء وارتفعت المياه قدر ذراع من فوق عتبة باب بيت الله، وأوقعت كثيرا من أبواب المسجد الحرام على الأرض.
وكان عدد الغرقى والموتى لا حصر له، ولم يكن بين أهالى مكة من رأى مثل هذا السيل العظيم؛ فلو لم يكف هطول الأمطار بعناية الله لما كان هناك شك أن كثيرا من حوانيت مدينة مكة المكرمة كانت ستخرب.
12 -
من السيول الشهيرة السيل الذى ظهر مثل البحر بعد السيل الثانى عشر بأربع وستين سنة. وقد ظهر هذا السيل ليلة الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى سنة ثمانمائة واثنتين. ودخل فى المسجد الحرام من جهة وادى إبراهيم واقتلع كثيرا من أبوابه وحطمها، وكانت كثرة الأمطار هى
التى تسببت فى ظهوره وقد اشتد هطول المطر حتى ظن الذى كان يراه كأنه ينسكب من أفواه القرب.
وقد بلغ ارتفاع المياه التى تجمعت فى المسجد الحرام خمسة أذرع، وارتفعت بمقدار ذراع ونصف ذراع من عتبة باب الكعبة المعلى. والماء الذى دخل الحرم بلغ من قوة جريانه أن هدم عمودين كبيرين، وهوى السقف الذى يحمله العمودان فمات ستون شخصا ممن كانوا تحته.
13 -
وحدث السيل الرابع عشر الذى ألحق بأهل مكة أبلغ الأضرار بعد السيل الثالث عشر بثمانية أعوام. وقد ظهر هذا السيل فى اليوم الثانى والعشرين من شهر ذى الحجة من عام ثمانمائة وعشرة للهجرة فى وقت الظهيرة، وهدم السدود التى صنعت لتمنع المياه الفائضة من القنوات ومجارى العيون فى وقت ظهور السيول، وأغرق داخل البلد بالمياه وهجمت المياه بشدة ودخلت فى ساحة الحرم الشريف بشكل مفزع، وسرعان ما ارتفعت إلى الدرج الخاص بجلوس الخطباء فى المنبر الشريف.
وبلغ الخبر من قبل والى الإمارة إلى مقام السلطنة الذى عين مديرا من قبله لإجراء ما يقتضى إجراءه؛ وأرسله إلى مكة المعظمة، وبادر المدير فور وصوله بتعمير السدود الخربة وتشييدها كما عمق قنوات عين زبيدة ومجاريها وجددها.
14 -
من السيول التى أرهقت أهل مكة والمتهم السيل الخامس عشر الذى وقع فى خلال عام ثمانمائة وثمانين، ولم ير مثيل له لا فى خلال أعوام الجاهلية ولا العصور الإسلامية.
وبالنظر لما ينقله المرحوم الإمام السمهودى فإن السيل المذكور ظهر قبل وصول الحجاج إلى مكة، وغمر ما بين الجبلين وارتفع إلى أسطح المنازل الكائنة فى ناحية المعلى، ومن هناك اجتاح بقوة خارقة للعادة ساحة المسجد الحرام وألحق به خسائر جمة.
ولا يعلم إلا الله - تعالى - عدد ما انهار من البيوت وما حاقت بهم من الخسائر وما فاضت من الأرواح.
وعندما سحبت مياه السيل من المسجد الحرام أخرجت من تحت أنقاض المسجد الحرام جثث مائة وثمانين رجلا، ولم ير الطاعنون فى السن من أهل مكة سيلا يشبه هذا السيل الخطير.
15 -
من السيول التى جعلت أهل مكة ينتفضون مضطربين: السيل الذى حدث فى اليوم الرابع عشر من شهر ذى القعدة عام 887 للهجرة. وكان سيلا عظيما يخلع القلوب رعبا، وكان وقوعه فجأة فى اليوم المذكور واتجه نحو المسجد الحرام وسرعان ما تسرب إلى بيت الله وارتفع بطول قامة إنسان داخل الكعبة المشرفة، أما ما ترتب عليه من خسارة فلا يقع تحت الحصر فانهارت الدكاكين فى أرجاء البلد والمدارس والمنازل، وانهارت بعض أساطين المسجد الحرام ولم تقم صلاة الجمعة فيه.
وما كان فى الإمكان حصر عدد الهالكين تحت ما انهدم من أطراف المسجد الحرام وما بجانبه من الدكاكين والبيوت والمدارس، إلا أن سبعين جثة أخرجت من المسجد الحرام.
وكتب قاضى مكة الذى كان يتولى منصب القضاء إلى حكام مصر قائلا: «إن هذا السيل الذى وقع هذه المرة كان سيلا مفزعا حقا، فقد ظلت جدران المسجد الشريف الأربعة مغمورة فى الماء، وارتفع الماء على امتداد مساحته فى جانبه الأيمن والأيسر إلى سبعة أذرع وربع.
16 -
من السيول التى أحدثت خسائر عظيمة فى مكة المكرمة السيل السابع عشر من تلك السيول العظيمة. ولم نستطع أن نعرف فى أى يوم من أى شهر وقع، إلا أن المياه قد غمرت الصحارى والسهوب والجبال والأحجار وملأ المسجد الحرام بالطين والحجارة وخربت المياه كثيرا من الدكاكين والبيوت بما
فيها من أمتعة وبضائع. وما كان فى مقدرة أحد أن يخمن عدد المتضررين، أو ما ألحق بالناس من أضرار هذا السيل، وبعد انحسار المياه وجدت مائة جثة فأودعت الثرى. ولم يرد منذ عصر الجاهلية أخبار عن سيل من السيول أبشع وأكثر رعبا من هذا السيل.
17 -
السيل الثامن عشر ظهر بعد عام من ظهور السيل السابع عشر من سيول مكة. ولا يعرف فى أى يوم من أى شهر ظهر هذا السيل، إلا أنه قد تسبب فى ضرر كبير وأدى إلى تلف كثير من ممتلكات أهل مكة.
18 -
السيل التاسع عشر وقع بعد السيل الثامن عشر بمائة وخمسين سنة (1039)، وهو من السيول العظيمة التى أخافت وأرعبت أهل مكة. وقد غرق فى خلال هذا السيل عدد لا يحصى من الناس وأصاب أهل مكة بخسائر وأضرار لا يستطيع الإنسان أن يخمنها، وكان سببا فى هدم وسقوط أبنية الكعبة المفخمة
(1)
.
19 -
من السيول التى أحصيت السيل العشرون الذى حدث فى سنة ألف وتسعين أما عدد الحجاج الذين ماتوا غرقا فى هذا السيل فيفوق الحصر وما أصاب سكان مكة من سوء وخسائر فلا يمكن معرفته بالتخمين.
20 -
وبعد مرور عام على سيل عام (1090) ظهر سيل عظيم آخر هو السيل الحادى والعشرون الذى أورد أهل مكة مورد التهلكة وسبب لهم خسائر كبيرة. وبالنظر إل ما ذكره مؤرخو مكة فإن السيل المذكور وقع فى اليوم الثالث والعشرين من شهر ذى الحجة عام (1091) الهجرى. وقد وقع هذا السيل فى اليوم المذكور بعد صلاة الظهر بنصف ساعة على أثر هطول أمطار
(1)
بما أن قد كتب فى الوجهة الثانية والصورة الثالثة عشرة ما أحدث هذا السيل من خسائر عند دخول المياه فى كعبة الله، وكيف أخليت الكعبة من الأشياء التى جرفها السيل لذا لم تعد هناك حاجة إلى تكرار ذكرها.
خفيفة وجاء من الجبال المتسلسلة التى تحيط بمكة وكان المطر قد انقطع تماما فى أثناء ظهور السيل.
وإن لاح فى بدء ظهوره سيلا خفيفا إلا أنه أخذ يتزايد بالتدريج، وتدفق تدفقا مرعبا ودام مدة طويلة حتى دخل المسجد الحرام، وجاوز ارتفاع المياه العتبة العليا لباب الكعبة السعيدة بذراع واحد، ودامت الحالة هكذا مدة أربع وعشرين ساعة، وأخذ جريان المياه يقل شيئا فشيئا حتى انقطعت المياه ووجد فى ساحة الحرم الشريف ما يقرب من خمس وعشرين جثة.
وكان فى ناحية المعلى شجرة جوز تحتها مقاهى متعددة، وعندما بدأ السيل وظهرت المياه تسلقها ما يقرب من مائة وخمسين نفرا من رواد المقاهى خائفين على أرواحهم من هول المنظر.
وحينما اكتسب جريان السيل شدة كان فى ظل الشجرة بضعة مقاهى؛ ولكن السيل المرعب قد اقتلع الدوحة العظيمة من جذورها وجرفها إلى أمام باب الصفا، والمساكين الذين لجأوا لأغصانها حماية لأرواحهم كان مصيرهم الغرق.
كما هلك غير هؤلاء كل هؤلاء الذين تصادف وجود حوانيتهم ومنازلهم على حافة جريان السيل، إذ انهدم ما يقرب من مائة وخمسين من تلك المنازل والحوانيت وفى داخلها أصحابها ولا يحصى عددهم إلا الله.
وقد امتلأت البركة اليمانية الكائنة فى الجهة الجنوبية لمكة المعظمة المقدسة بجثث الدواب النافقة وقد ثبت نفوق خمسة آلاف من الحيوانات التى تصادف وجودها فى طريق السيل.
وبعد انقطاع السيل المفزع فتح طريق يسمح بالطواف حول البيت وذلك بهمة والى مكة المكرمة وشهامته، واستعين بهذا الطريق لتنظيف جميع أرجاء الحرم الشريف وتطهيرها؛ إلا أن النظافة لم تصل إلى الحد المطلوب كما أن مجارى
السيل وقنوات عين زبيدة قد خربت تماما ولم تصلح للاستخدام، لذا أبلغ الأمر إلى السدة السلطانية لاستئذانه بتصليح ما خرب؛ فأرسل السلطان مدير أصطبلاته سليمان أغا ليقوم بالإشراف على التعمير وقد بادر المذكور بتطهير ساحة الحرم الشريف على الوجه المطلوب، كما أصلح مجرى السيل وقنوات عين زبيدة وعمقها وذلك فى سنة 1092 الهجرية.
21 -
السيل الثانى والعشرين الذى أضر أهالى مكة حدث فى سنة (1278) وفى خلال أوائل سلطنة السلطان (عبد العزيز جعل الله مثواه الجنة). وبناء على بعض المعلومات المستقاة من مسنى مكة أن ذلك السيل كان أشد فزعا وهو لا من سيل عام (1012).
وظهر ذلك السيل بينما كان الناس نياما فى ليلة من الليالى واجتاح الحرم الشريف وأحاط بالكعبة المعظمة هائجا مثل البحر لمدة أسبوع، وظل يتموج ولا يعرف أحد عدد الغرقى من الغرباء الذين ماتوا فى فتحة باب السلام.
قد وجد فى مجرى الماء الذى يبعد عن مكة المعظمة بساعتين أو ثلاث ساعات ظهرت جثث لفترة شهرين أو ثلاثة كما أنه قد غرق فى داخل المدارس والحوانيت خلق كثير.
وقد غرق جميع المساكين الذين وجدوا على الساحة المفروشة بالرخام
(1)
بين بابى - باب السلام - الداخلى والخارجى، ولم يبق فرد يتنفس من الناس الذين كانوا يبيتون فى داخل دكاكينهم فى سوق المسعى الشريف، أما الأشخاص الذين كانوا يقضون ليلهم تحت قباب الحرم الشريف فقد غرق أكثرهم. إلا أن قلة منهم قد تعلقوا بما تدلى من حبال من القباب فصعدوا فوقها بعد ما لقوا فى ذلك تعبا شديدا ومشقة عظيمة حتى فازوا بالنجاة.
وبعد مضى أسبوع أخذت المياه تنحسر شيئا فشيئا، أما الناس شريفهم
(1)
كان هذا المكان سوقا للكتب وكان مجلسا للغرباء والمساكين والشحاذين ليلا ونهارا.
ووضيعهم فشمروا عن ساعد الجد فى حماسة دافقة، وأقدموا على تنظيف الحرم الشريف وتطهيره مما جرفه السيل من الحجارة والتراب وغيرهما، وبصعوبة شديدة استطاعوا أن يطهروه فى خلال ثلاثة أشهر.
قد تكون فى داخل الحرم الشريف بما جلبه السيل من الكناسة والتراب أكوام كأنها تلال وجبال هنا وهناك.
وتحول كل واحد من أهالى مكة الكرام إلى فرهاد حافر الجبل
(1)
، إذ أخذوا ينقبون تلك الجبال والتلال ويهدمونها ويفتتونها ثم يحملون الأحجار والأتربة إلى خارج البلد. ولا يعرف عدد من مات من الناس وما نفق من الحيوانات وما محى من أموال وأمتعة.
23 -
وفى عام (1213) ظهر السيل الثالث والعشرون من تلك السيول التى ألفت مكة أن تشاهدها. وهذا السيل كان سيلا هائلا، وما كان شبها للسيل الذى وقع قبله بخمسة عشر عاما إذ لم يتأذ الناس بأضرار كثيرة.
إذا لم يعمق طريق المسعى الشريف - وهو مجرى السيل كما ينبغى فإن ظهور السيول وجريانها سيكون شيئا طبيعيا، وكلما لاحت فى السماء قطعة من السحاب أصبح من المجرب أن يظهر السيل بعد ساعتين، وإذا ما أتى السيل نهارا لا يسبب ضررا كبيرا للناس، ولكنه إذا وقع ليلا يتسبب فى خسائر عظيمة للناس فى أموالهم وحيواناتهم.
(1)
هو فرهاد الحفار أو الذى عشق (شيرين) جارية (كسرى) كان هذا الملك يحب شيرين حبا جما، واتصل بعلمه أن قلبها خفق بحب فرهاد وشاء أن يتخلص منه وأمره بحفر طريق فى الجبل، وضرب له موعدا قريبا ليعجزه عن ذلك، ووعده بأن يهب له شيرين إذا أنجز عمله فى موعده، وامتثل فرهاد لأمر كسرى وأنجز عمله قبل الموعد المعين، فأسقط فى يد الملك ولكن عجوزا احتالت لتخلص الملك من فرهاد وأخبرته بأن شيرين ماتت فصدم فرهاد وكره أن يعيش بعدها وألقى بنفسه من رأس الجبل. وهى قصة تداولها شعراء الفارسية والتركية والأردية بالنظم وضمنوها رموزا صوفية. (المترجم).
وعلى ذلك فإن ما يصيب أهل مكة من أضرار من مياه سيل يتدفق فى العام مرة أو مرتين أصبح أمرا مألوفا؛ إلا أن ما سبق ذكره من سيول مثل الذى وقع فى عهد (الفاروق الأكرم) المعروف بسيل (أم نهشل) والسيل الذى وقع بعده بتسعة وستين عاما والذى عرف ب (سيل حجاف) وما ذكر من سيول وقعت فى عام ثمانمائة وثمانية وثمانين وفى عام ألف وتسعة وثلاثين وعام ألف وتسعين أضرت بأهل مكة أبلغ الضرر.
ولا سيما السيلان اللذان وقعا فى عامى 1090 و 1278 قد تسببا فى غرق وهلاك عدد لا حصر له من الحجيج وأهل مكة.
***