الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة السادسة تجديد حرم المسجد الحرام فى عصر السلطان سليم
بما أن أروقة الحرم الشريف وسقفه كانت كلها من الخشب ولم تعمر منذ زمن طويل أشرف كثير من مواضعها على الانهيار، وتخلخلت مجموعة من أخشاب أسقفها ومالت للانهيار فى ساحة الحرم الشريف، كما أن الأروقة التى فى الجدران الشرقية مالت نحو كعبة الله ومداخل أسقفها انفصلت عن الجدران وأوشكت على الانهيار.
وقد غرزت بعد المساند تحت السقوف المذكورة وفقا للمسوغ الشرعى، وأمكن الاحتفاظ بها على حالتها القديمة، إلا أن السقف آل للسقوط يوما بعد يوم حتى أصبحت الصلاة تحت هذا السقف غير ممكنة، وبما أن دوام هذه الحالة لن يخلو من الخطر فعرض الأمر من قبل إمارة مدينة مكة ونظارة الحرم الشريف والكعبة المعظمة على العتبة السلطانية، فصدر الأمر السلطانى من قبل السلطان سليم خان الثانى بن سليمان خان ببناء الحرم الشريف متينا رصينا، بعد هدم السقوف والأروقة المصنوعة من الخشب كلها وإقامة أعمدة الرخام مكانها وتذهيب أعلاها، وأبلغ الأمر السلطانى من قبل مقام الصدارة العظمى إلى أمير أمراء مصر سنان باشا طالبا منه أن يعين شخصا مناسبا لأمانة الأبنية المقدسة، وتدبير الأشياء اللازمة لذلك، وعهد بأمانة الأبنية المقدسة لأحمد بك من أمراء مصر ودبر كل ما يلزم لمهمات البناء، وأبلغ كل ذلك إلى مقام الصدارة وأرسل إلى الأمير المذكور بتوجيه من محافظة جدة الأمر العالى بإحالة أمانة البناء العظيمة إليه، وأخذ الأمير معه الأمر السلطانى وما تم تدبيره من لوازم البناء وتوجه إلى بندر السويس، وركب السفينة المجهزة ووصل إلى جدة المعمورة فى أواخر سنة (979) ثم إلى مكة المكرمة حيث تلاقى مع من عين فى الفرمان للإشراف على
أمور البناء، وهو ناظر الحرم الشريف القاضى حسين بن أبى بكر الحسينى، وشرع فى الاستعداد لهدم البناء القديم، وبناء الجديد، وبناءا على رأى المهندس محمد أفندى من ضباط الباب العالى والذى أرسل للإشراف على العمارة وذلك فى أواسط شهر ربيع الأول سنة (980)
(1)
هدم الجدار الشرقى للمسجد الحرام من باب على إلى باب السلام كاملا، ومهدت أرضه، وفى جمادى الأولى من نفس السنة وفى يوم الجمعة وضع حجر الأساس بعد أن دعا أمام جميع الأهالى بالتوفيق.
وبما أن الأزقة التى كانت تحيط بالجوانب الأربعة للحرم الشريف فى ذلك التاريخ كانت على نسق واحد، وهو السقوف الخشبية المرفوعة على الأعمدة الرخامية، وبناء على الأمر السلطانى كان المقرر أن تبنى فوق السقوف قبب لا تبدل ولكن الأساطين القديمة لم تكن تتحمل ثقل تلك القبب؛ حتى وإن كانت صغيرة فلن تصل رصانة البناء ومتانته إلى الحد المطلوب، فرأى محمد أفندى المذكور أن يهدم الأعمدة ويبنى قوائم من حجر شمليس أصفر اللون بعد كل ثلاثة أعمدة، وقرر أن يثبت سقف الحرم الشريف ويحكم بناءه فأنشأ قببا مزخرفة جميلة.
ووفق هذا القرار واصل عمله من باب على إلى باب السلام، ومن هنا إلى باب عمر الواقع فى آخر الجدار الشمالى وهكذا أتم عمله بالكمال بعد أن بنى الجهتين الشرقية والشمالية للمسجد الحرام وذلك فى سنة (982) وفى أثناء ذلك آل بناء عمر السلطان سليم إلى نهايته، وخلفه على العرش السلطان مراد الثالث طاب ثراه، وتوقفت عمليات البناء مدة من الزمن ولكن أحمد بك تلقى أمر السلطان باستئناف المهمة وشرع فى العمل من جديد، وفى غضون عامين بلغ بالبناء حد الكمال، وزين باب الحرم الشريف وجدرانه وأحجاره باسم جناب السلطان، وحلى باب المعلى وما حوله من السقوف والأروقة بالنقوش الذهبية المتنوعة وكان ذلك فى سنة (984).
(1)
فى السنة المذكورة حدث سيل خطير ودخل إلى الحرم الشريف وارتفع الماء بقدر قدمين فاستبدّ الاضطراب والحزن بأهل مكة.
وكانت التعليمات التى تلقاها أحمد بك من مقام الخلافة عندما جددت مهمته تشمل زخرفة الأماكن المناسبة من المسجد الحرام بالخطوط النفيسة المذهبة، وبناء على ذلك أمر بكتابة اسم الجلالة واسم الرسول وأسماء الخلفاء الراشدين على طلاء الجدار الشرقى من الداخل، بسمك أربعة أصابع بحروف جلية ونفيسة بعد إتمام عمليات المسجد الحرام، كما أمر بكتابة الآيات المناسبة على الجدران بين العلامتين الخضراوين، وهكذا زخرف داخل المسجد الحرام وخارجه كما أمر بكتابة الآيات الخاصة بأبواب المسجد فوق عقود الأبواب، واسم الله واسم نبى الله وأسماء الخلفاء الراشدين أعلى الأعمدة التى تقع فى الصف الأول من الساحة الرملية. وكتب تلك الكتابات بخط جميل نفيس وزخرفت بالذهب، وقد نظمت الكتابة بطريقة بديعة بحيث كتب أعلى كل عمود خامس اسم النبى صلى الله عليه وسلم.
ولم يسع الذين شاهدوا تلك الزخارف إلا أن يعترفوا بأن المسجد الحرام لم يزين فى أية مرة عند تعميره وتجديده كما زين هذه المرة، وفى هذه المرة قد عمّرت رمّمت المآذن التى فى باب عمر وباب الوداع بشكل جميل، يسرّ الناظرين، وقد حفر أحمد بك خارج جدران المسجد الحرام الجنوبية بإنفاق مبالغ طائلة، وذلك قبل هدم جدران الحرم الشريف الجنوبية والغربية، وذلك لتوسيع مجرى السيل لأن مجرى السيل قد امتلأ مع مرور الزمن وارتفعت أرض المجرى إلى الدرج الثانى عشر للأبواب الجنوبية؛ لذا كان الدخول فى الحرم الشريف يتم عن ثلاثة أدراج.
وإن كان من المستحيل ألا يملأ السيل المجرى ويخربه إلا أنه كان يتم حفر المجرى وتعميقه كل عشر سنوات، ونقل ترابه إلى خارج المدينة وكان ذلك من
قاعدة العمل فى الأزمنة القديمة، ولكن ترك تطهير المجرى ما يقرب من ثلاثين سنة وامتلاء المجرى، واقتراب السيل من الدخول فى الحرم الشريف ملأ قلوب الناس بالقلق والاضطراب حتى إن السيل المخيف الذى ظهر فى ليلة الأربعاء فى اليوم الخامس أو العاشر من جمادى الأولى لسنة (983) دخل داخل الحرم الشريف وحجبت المياه المتجمعة الحجر الأسود وباب الكعبة حتى قفلته، وظلت فى داخل الحرم يوما وليلة واحدة، ومنعت الناس من أداء الصلاة فى داخل الحرم يوما وليلة واحدة، ومنعت الناس من أداء الصلاة فى سبعة أوقات، وعندما زالت هجمات السيل المخيف وأمكن السير فى داخل المسجد الحرام طهر مجرى السيل والطريق القديم للسيل وأخرجت الأحجار والأوحال التى تراكمت هنا وهناك، وغسلت الأماكن الكثيرة الكائنة داخل الحرم وخارجه، وفرش داخل ساحة الحرمين بالرمال والحصى.
وقد ظهر السيل المذكور قبل تعميق المجرى فاستصوب رأى أحمد بك الذى سبق ذكره، وعمق حفرة المجرى بحيث لا تدخل مياه السيول فى داخل الحرم، وذلك بتدبير من شريف مكة وسادتها وأعيانها وأهاليها، واتخذوا تطهير المجرى وتنظيفه كل سنتين مرة قاعة لا يحيدون عنها.
وما كان القيام بهذا العمل ميسرا لكائن من كان سواء من سلاطين العثمانيين أو خلفاء بغداد أو ملوك مصر، ولذلك عد إنجاز هذا العمل من أعظم آثار هذين السلطانين العثمانيين وثمرة هذا المسعى. وتم هذا العمل بعد أربعة أعوام، وينقل عن أحمد بك نقلا موثوقا أن ما أنفق من الخزينة الخاصة للسلطان (11000) قطعة ذهبية لإتمام هذا العمل ما عدا ما أرسل إلى أحمد بك من جانب الإدارة المصرية من الآلات والمسامير الحديدية وأشياء أخرى خشبية والعلامات الذهبية التى وضعت فوق القباب، وكلها خارج الحساب وبعد أن تم ترميم الحرم الشريف وتطهير المجرى، أرسل بيان بكل ما تم عمله إلى استانبول، وسرت منه جماعات المسلمين سرورا عظيما ونظمت أبيات شعرية تؤرخ تمام هذا العمل العظيم بلغات مختلفة وقدمت إلى أعتاب السلطان.