الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة الرابعة فى توسيع المسجد الحرام وتزيينه للمرة الرابعة
قد وسع المسجد الحرام للمرة الرابعة «محمد المهدى العباسى وذلك حينما رأى فى أثناء حجه أن المسجد الحرام فى حاجة إلى التوسيع. وقد سافر بنية أداء الحج وزيارة الروضة النبوية المطهرة، واتجه إلى الحجاز الجالب للفيض الإلهى والمغمور بالغفران، وعندما وصل إلى مكة المكرمة أقام فى «دار الندوة» الخاصة بالخلفاء العباسيين، وهناك اطلع على أن الحرم الشريف فى حاجة للتوسيع والتعمير وظهرت لديه الرغبة فى إجراء ذلك. وفى أثناء ذلك شرف بالمثول بين يديه عبد الله بن عثمان بن إبراهيم من خدم الكعبة المعظمة.
وقال له «يا مولاى: أريد أن أقدم لك هدية لم تقدم لأحد من الخلفاء قبلك، وقدم له حجر (مقام إبراهيم) المبارك لأجل زيارته. سر (المهدى) من صنع (عبد الله بن عثمان) فأمسك بالحجر الشريف ومسح به عينيه ووجهه ثم قبله. ثم أمر أن يملأ أثر القدم فوق الحجر بماء زمزم وشربه، ثم بعث بالحجر الشريف إلى قصر حريمه فتشرفن برؤيته والتبرك به، ثم أعاده إلى عبد الله بن عثمان ليعيده إلى مكانه.
وعقب ذلك مثل بين يديه بعض الأشخاص من كبار خدمة البيت وقالوا له «مولاى! كثرت الكسا على كعبة الله، ومن المحتمل أن تنهار جدران الكعبة تحت ثقلها» وكأنهم كانوا يلوحون بأنه قد حان وقت تغيير الكسوة وتجديدها.
فأمر الخليفة بإزاحة ما تراكم على الكعبة من أكسية، ثم أمر بتعطير الكعبة بدء من أسطحها وداخلها وخارجها بالمسك والعنبر والعطور الأخرى، ثم ألبسها بثلاث طبقات من كساء ذا بهاء، ثم أمر بأن تبدل سلاسل القناديل التى فى داخل
كعبة الله بالذهب، ثم قدم عطايا وفيرة ثم اشترى المنازل التى بين المسجد الحرام والمسعى الشريف، وأمر بأن تلحق بالحرم الشريف وعاد.
وبناء على ما يرويه المؤرخون الذين اهتموا بما وزعه المهدى وأعطاه لأهل مكة من العطايا الملكية ونوعها ومقدارها فى ذلك العام إذ أنفق الخليفة فى تلك السنة ستمائة ألف ذهب جعفرى. وثلاثة ملايين درهم وخمسة عشر ألف ثوب من الثياب البغدادية الفاخرة وحمل خمسمائة جمل من الثلج والجليد، وهكذا حرر كل أهل مكة مما أثقلهم من الفاقة والخصاصة.
إن الشخص الذى عين فى مديرية بناء الحرم الشريف للقيام بإنجاز الأمر الصادر من قبل المهدى، استدعى أصحاب البيوت التى يقتضى هذا الأمر شراؤها، بعد عودة الخليفة وأوصاهم بأن يدفع لهم مقدار ثمانية وخمسين ألف مثقال من ذهب، ثم هدم المنازل المشتراة وضم عرصاتها إلى الحرم الشريف، وهكذا وسع الجدار الغربى للحرم الشريف إلى باب العمرة والجدار الجنوبى إلى «قبة الشرابة» المعروفة بقبة العباس وذلك فى سنة (161 هـ).
وإن كان متولى أمر البناء يرغب فى توسيع الجهة الجنوبية من الحرم الشريف أكثر، إلا أن المكان الذى يلزم إلحاقه كان متصلا بمسيل الوادى ولما كان إرساء الأساس فى مجرى السيل من الصعوبة بمكان فلم يستطع توسيعه، ومع هذا قد اتسع ما بين كعبة الله المعظمة وجدار الحرم الشريف الجنوبى قدر (63) قدما.
بعد ما أتم متولى أمر البناء جلب كل ما ينقص الحرم الشريف من مصر جلب أربعمائة وثمانين عمودا حجريا، وركزها فى الأماكن الخاصة وصنع فوقها أربعمائة وثمان وتسعين قبة، وهكذا أحكم قبب الحرم الشريف التى تحيط به.
ثم أنشأ بين المسعى اللطيف والحرم الشريف بقعة غاية فى الزينة التى تعرف «بدار القوارير» وفى ختام التعمير عرض الأمر على مقام الخلافة العالى.
وكان قد بقى ميدان صغير عقب التعمير بين المسجد الشريف والمسعى اللطيف، فأخذ جعفر بن يحيى البرمكى وزير «هارون الرشيد» عهدة هذا الميدان، وفيما بعد استقطع عدة بيوت ومساكن ثم ساحة (دار القوارير) وأقام فى المتسع دارا منقطعة النظير.
وبعد مدة انهارت كل هذه المبانى ما عدا دار القوارير. واندرست أسسها وضاع أثرها وأقيمت فى مواضعها ربط حصينة، كما أن هذه الربط انهدمت على مر الزمان، ولكن السلطان (قايتباى) المصرى ابتاع هذه الربط بتمامها وهدم ما تبقى من آثارها، وبنى المدرسة والرباطان اللذان ينسبان لاسمه، وبنى بعض العقارات وأو وقف ريعها للإنفاق على ترميم المدرسة والرباط المذكورين وتعميرهما.
والبيت الأنيق الذى بنى على أرض دار القوارير انتقل بمرور الزمان ليد جواد البربرى، وفرش جواد داخل ذلك البيت وزينه بالزجاج الملون، كما زين خارجه بالرخام المصقول المختلف الألوان، لكن ذلك البيت فقد قيمته بوفاة جواد، وانتقل المنزل من يد لأخرى ثم انهار وبنى مكانه الربط والمدارس.
ولما أبلغ متولى أمر المبانى (المهدى) بإتمام تعمير المسجد الحرام؛ رغب الخليفة فى زيارة أبنية المسجد الحرام الجديدة، وتوجه إلى مكة المعظمة ورأى أن ناحية مسيل الوادى لم توسع، وأن هناك فاصلة كبيرة بين البقعة المقدسة لبيت الله وبين الجدار الجنوبى للحرم الشريف، ورأى أنه إذا ما وسعت هذه الجهة سيضيف هذا إلى المسجد رونقا وجمالا زائدا، وستتوسط الأبنية المربعة للبيت الأعظم مساحة مسجد الحرام، واستدعى الموكلين ببناء المسجد، وأطلعهم على ما يجول فى خاطره وأمرهم بأن يجددوا ذلك المكان وفق اقتراحه ورأيه؛ ولكن متعهدى البناء قالوا إذن يجب أن تهدم جميع البيوت التى على الضفة المقابلة لمسيل الوادى، ويحفر مجرى آخر ويضم المسيل القديم كلّه إلى الحرم الشريف، وهذا الأمر فى منتهى الصعوبة بل مستحيل.
لأنه يلاحظ أن السيول التى سترد من وادى إبراهيم ستهدم جميع الأبنية
الجديدة التى ستبنى بعد تغيير المجرى من أساسه، وستدخل المسجد الحرام وتخرب جدرانه؛ لهذا يجب شراء منازل كثيرة أخرى وهدمها حتى ترسى أسس جدران مجرى السيل الجديد، وهذا يقتضى مصروفات باهظة ونفقات لا تعد ولا تحصى.
وأرادوا أن يعلقوا رغبة المهدى إلى المستحيل بمثل هذه المغالطات الفكرية.
إلا أن (المهدى) أصر على رأيه وأكده قائلا: «إن التفكير فى النفقات من شأنى أنا وعليكم أن تبادروا من الآن أن تقوموا بعمل ما بينت لكم فقوموا بتقدير مساحة الموضع ووفقا للخريطة التى سترسمونها» وقد رأى القائمون بالبناء أن الخليفة لا ينثنى عن رأيه، فوجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بالقياس، فركزوا الأعمدة فى المواضع التى ينبغى تركيزها فيها ومدوا الحبال.
وعينوا مقدار توسيع الحرم الشريف، ثم قدموا كل ما قيدوه فى مضابطهم مع الخريطة التى رسموها للموقع إلى الخليفة، ثم صعد الخليفة فوق جبل أبى قبيس ورأى أن أبنية الكعبة المعظمة قد توسطت الأعمدة التى ركزت وحددت بالحبال، أى أن الكعبة أصبحت فى وسط المسجد الحرام كما رأى عدد البيوت التى ستشترى وتهدم، ثم أمرهم بأن يبادروا فى تجديد الجدار بموجب خطه فى الخريطة، ثم عاد.
وبناء على هذا جلب العدد الكافى من العمال وشرعوا فى شراء المنازل التى توجد فى الأماكن التى يلزم ضمها وإلحاقها بالمسجد الحرام، وهدمت تلك المنازل، وهكذا وسعوا المسجد الشريف من باب (هاشم) إلى باب (أم هانئ) وبهذا أصبحت الفاصلة بين الكعبة المعظمة والجدار الجنوبى لحرم المسجد الحرام (127) قدم وست بوصات.
قد تمت هذه العمارة فى ظرف أربع سنوات كاملة، وكان فى ضمن البيوت التى اشتريت (دار أرزق) ودار (خيرة بنت سالم الخزاعى) وبيت (جبير بن
مطعم) ودار (شيبة بن عثمان) وقد ضمّت أراضيها إلى ساحة الحرم الشريف ذات الفيوضات، وهكذا وصلت الفسحة، ووسع الحرم الشريف بهذا القدر.
إن بنيان وتعمير الخليفة المهدى وصل إلى غايته وانتهى قبل أن ينتهى تعمير أبنية المسجد الحرام؛ إلا أن ابنه حينما اعتلى كرسى الخلافة وهو (موسى الهادى) أمر بإتمام تعمير أبنية المسجد الحرام، واستعجل ذلك فتم البناء فى أواخر سنة (169)
(1)
.
***
(1)
توفى الخليفة المهدى فى أوائل سنة (169)، وكان يحب الإحسان ولا سيما فى الحرمين الشريفين.
وقد أمر بحفر أحواض فى اثنى عشر موقعا من الطريق الذى يبدأ من بغداد وينتهى بمكة المكرمة، وسقى الحجاج شرابا مخلوطا، وعلق القناديل التى فى داخل بيت الله بسلاسل ذهبية.
وقد غير كسوة بيت الله القديمة سنة 158 وألبس «ليلى» هذه التى يعشقها العالم ملابس جديدة، وأصبح منذ تلك الليلة تغيير كسوة الكعبة الشريفة عادة بين المسلمين.
قد جدد حجر إسماعيل وكذلك الأميال التى توجد فى مراحل الحج ومنازله، وقام بحفر الآبار فى الموقع التى فى حاجة إليها، وكذلك جعل إرسال الصرر لأهالى الحرمين بين الخلفاء عادة، ولم يكن أحد يرسل الصرر إلى الحرمين قبله وقد عطر سطح كعبة الله فى سنة حجه بالمسك والعنبر، وكذا غالبية الأماكن وجميع أركانها وألبس كعبة الله ثلاث طبقات من الكسا الحريرية طبقة فوق طبقة.