الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة الثالثة فى توسيع حرم المسجد الحرام للمرة الثالثة
بما أن حرم المسجد الحرام قد أهمل خلال إحدى وأربعين سنة ولم يلتفت إليه بعد عمارة وليد بن عبد الملك، لذا بنيت الأسقف التى أقامها عثمان بن عفان وكذلك الأماكن التى أقامها عبد الله بن الزبير، كما بنيت الحجارة الرخامية التى أرسلها وليد بن عبد الملك، وزاد عدد أهل الإيمان فاقتضى توسيع ساحة المسجد الحرام، وبلغ الأمر إلى أبى جعفر عبد الله المنصور البغدادى؛ فما كان منه إلا أن وسع الحرم الشريف من ناحية جداره الشامى، وبدأ من حذاء المقام الحنفى إلى دار الندوة، كما وسع من جهة باب العمرة وأوصل إلى باب العمرة فى سنة 139 الهجرية.
أراد أبو جعفر أن يجدد الجهة الجنوبية من الجدار الذى يتصل بمسيل الوادى؛ ولكنه تركها على حالها حينما رأى أن تعميره غير قابل للإصلاح اشترى المنازل القريبة من الجدار الشرقى وهدمها، وألحق أرضها بالمسجد الحرام وبنى فى أماكنها مئذنة لا نظير لها. وزين أبو جعفر عقب ذلك جهات المسجد الحرام الأربعة بالذهب والفضة الخالصة والفسيفساء
(1)
النفيسة، وفرش داخل الحطيم الكريم بالرخام المجلى، وزينه وأتم التعمير فى خلال ثلاث سنوات ثم سجل كل ما تم صنعه فى زمانه على لوحة رخامية وعلقها على كمر فوق باب بنى جمح
(2)
الكائن فى ناحية باب الصفا.
فى نفس العام الذى تم فيه التعمير وبلغ غايته من الكمال سافر «أبو جعفر»
(1)
يطلق الفسيفساء على الأشياء الملونة الصغيرة المصنوعة من الزجاج والنقوش المختلفة التى تكسى بها جدران المبانى الفخمة.
(2)
إن هذا الباب كان الباب المتصل بباب الخياطين الذى يتصل بباب إبراهيم، وقد ضم المقتدر بالله العباسى باب إبراهيم إلى الحرم الشريف سنة 311.
لأداء فريضة الحج وزيارة الحرمين، ورأى ما تم توسيعه وزيادته فى حرم المسجد الحرام فعبر عن ابتهاجه وسروره البالغ.
وكان أبو جعفر يتصف بصفة البخل الدنيئة، فكان يضرب به المثل فى شدة البخل إلا أنه - لحكمة ما - فاق ما قدمه من البر والإحسان جميع الكرماء الذين ظهروا من قبله إذ أكرم سكان الحرمين ومجاورى المسجدين وأحسن إليهم إحسانا عظيما
(1)
ثم ذهب لزيارة القدس الشريف.
وكان المنصور معروفا - بجانب بخله وتقطيره - بالظلم، ويروى أنه قتل فى أثناء حكمه الذى دام اثنتين وعشرين سنة ستمائة ألف من المسلمين وأيديهم مغلولة؛ كل ذلك ليقرب الناس منه وليحطم أصحاب الثروة والنفوذ فى الدولة وليخوفهم، وفى أواخر أيامه بيت سوء النية لقتل «سفيان الثورى» - رضى الله عنه - إلا أنه عندما خرج لأداء فريضة الحج للمرة الخامسة متجها إلى مكة المعظمة ووصل إلى المكان المعطر الذى دفنت فيه أمنا ميمونة - رضى الله عنها -، أمر والى مكة بإعداد مشنقة لشنق سفيان الثورى وفعلا قد تم إعداد المشنقة واتخذت جميع تدابير الشنق.
وعندما شاع هذا الخبر فى مكة كان سفيان الثورى قد امتد متوجها إلى الكعبة واضعا رأسه فوق ركبتى الفضيل بن عياض ورجليه فوق ركبتى سفيان بن عيينة.
قال أحد أولياء الله المحبين الصالحين: يا سفيان قد جاء المنصور قاصدا صلبك وإعدامك ووصل إلى بئر ميمونة وكتب إلى حكومة مكة حتى تعد مشنقة لصلبك، وقد أعدت فعلا مشنقة لذلك، وإذا ما استطاع هذا العدو الحاقد أن يضع يديه على جسمك الشريف إننا نتعرض لشماتة الأعداء، ونقع فريسة للمصائب والاضطرابات فقام سفيان من مكانه منتفضا، والتصق بستارة الكعبة المعظمة وقال بصوت مرتفع «لو وصل المنصور لهذا المكان فإننى لن أذكر الكعبة
(1)
قد أعطى لكل واحد من أشراف قريش ألف (فلورى) ولم يكن هناك مكى يعرف إلى ذلك الوقت من أعطى له هذا القدر من النقود.
طول عمرى» ثم امتد مرة أخرى واضعا رأسه على ركبتى فضيل ورجليه على ركبتى سفيان بن عيينة
(1)
.
وعقب ذلك وصل خبر هلاك المنصور وهو أنه كان يركب حصانا ووقع منه، وتناولت الأفواه الخبر فى أرجاء مكة. وبما أن دعاء سفيان قد استجيب فقد تحرك المنصور من بئر ميمونة ووصل إلى «الحجونين» الكائن بين جبلين حذاء مقبرة المعلى وسقط من فوق حصانه على عنقه ومات متأثرا بذلك.
يقول مؤلف (لطائف الأخبار) عمر بن فهد: ولما كان المنصور متسلطا على الناس يضطهدهم؛ خاف رجال السلطة من انتقام الشعب من جثته وأمروا بحفر مئة قبر ودفنوه فى القبر المائة، وأخفوا عن الناس القبر الذى دفن فيه وكتموا أمره. وكان سبب رغبة المنصور فى إعدام حضرة سفيان واستثقاله ما وجهه إليه من النصائح والوصايا.
اتفق ذات يوم أن التقى سفيان بالمنصور فى (منى)
(2)
وقال له «يا منصور اتق الله رب الكائنات واذكر ما رفعك إليه من منزلة، لقد بلغت هذه المنزلة العالية بفضل سيوف المهاجرين والأنصار وأولادهم وأحفادهم وما بذلوه من جهد، والآن قد عصفت بهم صروف الدهر، وأما أنت فشحيح ممسك
(3)
ولم يستطع عمر بن الخطاب أن ينفق أكثر من خمسة عشر دينارا فى أثناء حجه، ومثله مثل الحجاج قد قنع بالجلوس تحت ظل شجرة، وأنا أعرف أن الرجل الحق هو من إذا ما ازدانت ذاته بالعلم والعمل أصلح حال الأمة وهذا الرجل هو من أتجه إليه بالخطاب فرد عليه المنصور فى حدة وغضب «هل تريد أن تساوى نفسك بى» فأجابه الشيخ قائلا «لا، لا يجب أن تكون فى منزلة أقل مما أنت فيها وأنا فوق ما أنا عليها» فطرده المنصور من مجلسه.
(1)
الخبر بطوله فى تهذيب التهذيب 114/ 4.
(2)
كان هذا اللقاء فى حج المنصور الأول.
(3)
كان قصد سفيان بهذه الجملة معرفة مدى بخل وخسة أبى جعفر لأن المنصور كان رجلا مقترا يبحث عن حساب كل شئ حتى آخر دانق لذا اشتهر بلقب المنصور الدانقى.