الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن حالهم، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير، فتابعه الملأ، ثم ارتدّ عنها، فعاد يشتم آلهتهم، وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم فى الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا، ندخل فننظر ما فيه قريش، ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع. قال: فدخلوا مكة، ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود فإنه مكث يسيرا، ثم رجع إلى أرض الحبشة. قال الواقدىّ: فكان خروجهم فى شهر رجب سنة خمس (يريد من النبوّة «1» ) ، فأقاموا شعبان ورمضان وقدموا فى شوال من السنة.
وحيث ذكرنا هذا الحديث فلنذكر ما جاء فى توهينه.
ذكر ما ورد فى توهين هذا الحديث والكلام عليه فى التوهين والتسليم
قال القاضى عياض بن موسى بن عياض رحمه الله، فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم:
اعلم أن لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما فى توهين أصله، والثانى [على «2» ] تسليمه.
أمّا المأخذ الأوّل فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه فى الصلاة، وآخر يقول قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة؛ وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها؛ وآخر يقول: إن الشيطان قالها على
لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «والله ما هكذا أنزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية «1» ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما فيما أحسب- الشك فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم كان بمكة- وذكر القصة. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا تعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبىّ، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبّه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه.
وأما حديث الكلبىّ فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه كما أشار البزار إليه، قال: والذى منه فى الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ)
وهو بمكة، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. هذا توهينه من طريق النقل، والله أعلم بالصواب.
وأما جهة المعنى: فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرّذيلة. أما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن حتى
يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى صلى الله عليه وسلم أنّ من القرآن ما ليس منه، حتى ينبّهه جبريل عليهما السلام، وذلك كله ممتنع فى حقّه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا- وذلك كفر- أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله، وقد تقرر بالبرهان والإجماع عصمته عليه السلام من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقوّل على الله؛ لا عمدا ولا سهوا «1» ، وقد قال تعالى:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ)
«2» الآية، وقال:
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ)
«3» الآية.
ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام «4» ، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم؛ ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك- وهذا لا يخفى على أدنى متأمل- فكيف بمن رجح حلمه، واتّسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟! ووجه ثالث، أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبى صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأقل شبهة؛ ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصّولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا فى قصة الإسراء وقصة القضية «5» ، ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت،
ولا تشغيب «1» للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت؛ فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة؛ فدل على بطلها، واجتثاث أصلها.
قال القاضى عياض: ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع، ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت:(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ)
الآيتين، وهاتان الآيتان ترددان الخبر الذى رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمونه هذا.
ومفهومه أن الله عصمه من أن يفترى، وثبّته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا! وهم يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه السلام:«افتريت على الله وقلت ما لم يقل» ؛ وهذا ضد مفهوم الآية، وهى تضعّف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له!، وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كل ما فى القرآن كاد فهو ما لا يكون، قال الله تعالى:
(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)
«2» ، ولم يذهب. قال القاضى القشيرىّ «3» : ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل صلى الله عليه وسلم.
وأما المأخذ الثانى- وهو مبنىّ على تسليم الحديث لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته- فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ذكرها القاضى عياض «4» وضعّف بعضها، واستحسن بعضا، نذكر منها ما استحسنه وجوّزه إن شاء الله.
منها ما ذكره القاضى أبو بكر فى أجوبته عن هذا الحديث، قال:
لعل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك أثناء تلاوته؛ على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، لقول إبراهيم عليه السلام:(هذا رَبِّي)
«1» على أحد التأويلات، يريد: أهذا ربّى؟! ولقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا)
«2» بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته، وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. قال القاضى عياض: ولا يعترض على هذا بما روى أنه كان فى الصلاة، فقد كان الكلام فيها قبل [غير «3» ] ممنوع، قال: والذى يظهر ويترجح فى تأويله عند القاضى أبى بكر، وعند غيره من المحققين على تسليمه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربّه يرتّل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآى تفصيلا فى قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله تعالى، وتحقّقهم من حال النبى صلى الله عليه وسلم فى ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف منه. وقد حكى موسى بن عقبة فى مغازيه نحو هذا، وقال:
إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك فى أسماع المشركين وقلوبهم.
قال القاضى عياض: ويكون ما روى من حزن النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وقد قال الله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
«1» الآية، فمعنى (تمنى) تلا، قال الله تعالى:(لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ)
«2» أى تلاوة، وقوله:(فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ)
«3» أى يذهبه ويزيل اللبس به، ويحكم آياته، قال: ومما يظهر فى تأويله أيضا أن مجاهدا روى هذه القصة: «والغرانقة العلا» . فإن سلمنا القصة قلنا:
لا يبعد أنّ هذا كان قرآنا، والمراد بالغرانقة العلا، وأن شفاعتهنّ لترتجى:
الملائكة على هذه الرواية، وبهذا فسر الكلبىّ الغرانقة أنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم وردّ عليهم فى هذه السورة بقوله:(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى)
«4» ، فأنكر الله كل هذا من قولهم؛ ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوّله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك، وزينه فى قلوبهم، وألقاه إليهم؛ نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما للتلبيس سبيلا، كما نسخ كثيرا من القرآن ورفعت تلاوته. قال: وكان فى إنزال الله تعالى لذلك حكمة، وفى نسخه حكمة، ليضلّ به من يشاء، ويهدى من يشاء وما يضل به إلا الفاسقين، و (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)
«5» .
وقيل: إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة [وبلغ إلى ذكر اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، خاف الكفار أن يأتى بشىء من ذمّها، فسبقوا