الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر تحزّب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهم له ولأصحابه
قال ابن إسحاق «1» :
لما أيست قريش من أبى طالب، وأنه لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسلمه أبدا، تامروا «2» بينهم على من فى القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [الذين أسلموا معه «3» ] ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فقام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ذلك فى بنى هاشم وبنى المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبى لهب فإنه تمادى على غيّه وكفره.
قال «4» : ثم اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش؛ إنه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستفد «5» عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويردّ قولكم بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع؛ قالوا:
نقول كاهن؛ قال: لا، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة «6»
الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما «1» هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول شاعر؛ قال:
ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر؛ قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده «2» ؛ قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعدق «3» ، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين «4» المرء وأبيه، وبين المرء [وأخيه، وبين المرء «5» ] وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبيل الناس حين قدموا الموسم، لا يمرّبهم أحد إلا حدّروه إياه وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى فى الوليد ابن المغيرة:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً)
أى خصيما مخالفا (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ)
. قال ابن هشام: بسر «6» أى كرّه وجهه، (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) .
قال ابن إسحاق «1» :
وأنزل الله فى النّفر الذين كانوا معه يصنّفون القول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به من عند الله:(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)
أى أصنافا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) .
قال ابن إسحاق»
:
وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها. قال «3» : ثم ابتدأت قريش فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا به صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذّبوه وآذوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مبا لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم «4» على كفرهم.
قال محمد بن إسحاق «5» :
حدّثنى يحيى بن عروة عن الزّبير عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، قال: قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا «6» من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون «7» من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
ما رأينا مثلما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قطّ؛ سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا،
وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا؛ لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا؛ فبينما هم فى ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك فى وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك فى وجهه، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال:«أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذّبح «1» » . قال: فأخذت كلمته القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدّهم فيه وصاة «2» قبل ذلك ليرفؤه «3» بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه القول، انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا دنا منكم وباداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم فى ذلك طلع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون:
أنت الذى تقول كذا وكذا لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول:«نعم، أنا الذى أقول ذلك» . قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع «4» ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول:(أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)
، ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشا نالوا منه قطّ «5» .
قالت أم كلثوم بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق «1» رأسه ممّا جبذوه بلحيته، وكان رجلا كثير الشعر.
وخرّج الترمذىّ الحكيم فى «نوادر الأصول» ، من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجأه وهذا يتلتله «2» ، فاستغاث النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأذا ويتلتل ذا، ويقول بأعلى صوته: ويلكم، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)
، والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ، فقال علىّ «3» :
والله ليوم أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه فى كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل.
قال ابن هشام «4» :
حدّثنى بعض أهل العلم: أن أشدّ مالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش: أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلّا كذّبه وآذاه [لا «5» ] حرّ ولا عبد، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى منزله فتدثّر من شدّة ما أصابه، فأنزل الله عز وجل عليه:(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) .