الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين ممّن لم يسلم ظاهرا
،
ولا علم لهم إسلام، ومن أقرّ بنبوّته صلى الله عليه وسلم ولم يدر له مكان.
فمن «1» هؤلاء من بشّر به وأخبر بنبوّته قبل مولده، ومنهم من ذكر ذلك حال مولده لقرائن كان يرقب وقوعها تدلّ على مولده فوقعت؛ ومنهم من بشّر به فى حال طفوليّته، ومنهم من بشّر به قبل مبعثه، ومنهم من ذكر صفته بعد مبعثه ورؤيته له، وذكّر قومه بها وحقّق عندهم أنه هو، ودليل كلّ منهم ما كان يجده عنده من أخباره فى الكتب السالفة التى تلقّاها عن أسلافه، ومنهم من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره وصفته، ومنهم من أظهر تمثال صورته، وصور بعض أصحابه وهيئتهم، وكان ذلك مصوّرا فى بيوت فى بيعهم على ما تذكر ذلك مسهبا «2» إن شاء الله.
فأما من بشّر به وأخبر بنبوّته وصفته صلى الله عليه وسلم قبل مولده
؛
فمن ذلك ما حكاه ابن إسحاق فى خبر تبّع الأوّل
«3» ، قال: وكان من الخمسة الذين كانت لهم الدنيا بأسرها، وكان له وزراء، واختار منهم واحدا، وأخرجه معه، وكان يسمّى عمار «4» يشا، وأخذه لينظر فى مملكته، وخرج معه مائة ألف من الفرسان، وثلاثة وثلاثون ألفا، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرّجّالة، وكان إذا أتى بلدة يختار منها عشرة رجال من حكمائها، حتى جاء إلى مكة، فكان معه مائة ألف رجل من العلماء والحكماء الذين اختارهم من البلدان، فلم يهبه أهل مكة
ولم يعظّموه، فغضب لذلك، ثم دعا وزيره عمار «1» يشا وقال: كيف شأن أهل هذه البلدة؟ فإنهم لم يهابونى، ولم يخافوا عسكرى، فقال: أيها الملك إنهم قوم عرب «2» جاهلون لا يعرفون شيئا، وإن لهم بيتا يقال له كعبة، وهم معجبون بهذا البيت، وهم قوم يعبدون الطّواغيت، ويسجدون للأصنام. فقال الملك:
وهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم، فنزل بعسكره ببطحاء مكّة، وفكر فى نفسه دون الوزير، وعزم على هدم الكعبة، وتسميتها خربة، وأن يقتل رجالهم، ويسبى نساءهم، فأخذه الله بالصّداع، وتفجّر من عينيه وأذنيه ومنخريه وفمه ماء منتن، فلم يصبر عنه أحد طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره: اجمع العلماء والحكماء والأطبّاء وشاورهم فى أمرى، فاجتمع عنده الأطبّاء والعلماء والحكماء، فلم يقدروا على المقام عنده، ولم يمكنهم مداواته، فقال: إنى جمعت الأطبّاء والعلماء والحكماء من جميع البلدان، وقد وقعت فى هذه الحادثة ولم يقدروا على مداواتى، فقالوا بأجمعهم: إنا نقدر على مداواة ما يعرض من أمور الأرض، وهذا شىء من السماء لا نستطيع ردّ أمر السماء، ثم اشتدّ أمره، وتفرّق الناس عنه، ولم يزل أمره فى شدّة حتى أقبل الليل، فجاء أحد العلماء إلى الوزير وقال: إن بينى وبينك سرا، وهو إن كان الملك يصدقنى فى حديثه عالجته، فاستبشر الوزير بذلك وأخذ بيده، وحمله إلى الملك، وأخبره بما قال الحكيم، وما التمسه من صدق الملك، حتى يعالج علّته، فاستبشر الملك بذلك، وأذن له فى الدّخول، فلما دخل قال: أريد الخلوة، فأخلى له المكان، فقال: نويت لهذا البيت سوءا؟ قال: نعم؛ إنى نويت خرابه، وقتل
رجالهم، وسبى ذراريّهم، فقال له: إنّ وجعك وما بليت به من هذا. اعلم أن صاحب هذا البيت قوىّ يعلم الأسرار، فبادر وأخرج من قلبك ما هممت به من أذى هذا البيت ولك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: أفعل، قد أخرجت من قلبى جميع المكروهات، ونويت جميع الخيرات، فلم يخرج العالم من عنده حتى برئ من علّته، وعافاه الله بقدرته، فآمن بالله من ساعته، وخرج من منزله صحيحا على دين إبراهيم عليه السلام، وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أوّل من كسا الكعبة، ودعا أهل مكة، وأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج إلى يثرب، وهى يومئذ بقعة فيها عين ماء ليس فيها بيت مبنىّ ولا بناء، فنزل على رأس العين هو وعسكره وجميع العلماء الذين كانوا معه، ومعهم رئيسهم عماريشا الذى كان يرى برأيه.
ثم إن العلماء والحكماء اجتمعوا، وكانوا أربعة آلاف، فأخرجوا من بينهم أربعمائة هم أعلمهم، وبايع كلّ واحد منهم صاحبه أن لا يخرجوا من ذلك المقام وإن ضربهم الملك أو قتلهم، فلما علم الملك ما قد عزموا عليه، قال للوزير: ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معى، وأنا محتاج إليهم؟ وأىّ حكمة فى نزولهم فى هذا المكان، واختيارهم إياه على سائر النّواحى، فلما أتاهم الوزير وسألهم عما عزموا عليه، واختيارهم المقام بهذه البقعة، قالوا له: أيها الوزر! إن شرف ذلك البيت، وشرف هذه البقعة التى نحن فيها بشرف رجل يبعث فى آخر الزمان، يقال له محمد ووصفوه، ثم قالوا: طوبى لمن أدركه وآمن به، وقد كنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا، فلما سمع الوزير مقالتهم همّ بالمقام معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمرهم الملك أن يرتحلوا، فقالوا: لا نفعل، وقد أعلمنا الوزير بحكمة مقامنا، فدعا الوزير فأخبره بما سمع منهم، فتفكّر الملك وهمّ أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فأقام وأمر الناس أن يبنوا أربعمائة دار، لكل رجل من العلماء
دار، واشترى لكل واحد منهم جارية وأعتقها وزوّجها برجل منهم، وأعطى كلّ واحد منهم عطاء جزيلا، وأمرهم أن يقيموا فى ذلك الموضع إلى أن يجىء زمان النبى صلى الله عليه وسلم، ثم كتب كتابا وختمه بخاتم من ذهب، ودفعه إلى العالم الكبير، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا أوصى به أولاده بمثل ما أوصاه به، وكذلك أولاده حتّى ينتهى أمره إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وكان فى الكتاب: أما بعد فانى آمنت بك وبكتابك الذى أنزل عليك، وأنا على دينك وسنّتك، وآمنت بربك وربّ كلّ شىء، وآمنت بكل ما جاء من ربّك من شرائع الإيمان والإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لى، ولا تنسنى يوم القيامة، فإنى من أمّتك الأوّلين؛ وتابعيك «1» قبل مجيئك، وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه:
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)
وكتب على عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبىّ الله ورسوله، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم، من تبّع الأوّل حمير بن حمير ابن وردع «2» أمانة لله فى يد من وقع اليه إلى أن يوصله إلى صاحبه، ودفع الكتاب إلى الرجل العالم الذى أبرأه من علّته. وصار تبّع من يثرب حتى مات بقلسان «3» من بلاد الهند.
وكان من اليوم الذى مات فيه تبّع الى اليوم الذى بعث فيه النبى صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا تزيد ولا تنقص، وكان الأنصار الذين نصروا النبى صلى الله عليه وسلم من أولاد أولئك العلماء والحكماء، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة، سأله أهل القبائل أن ينزل عليهم على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى؛ فكانوا يتعلّقون بناقته وهو يقول: خلّوا الناقة فإنها مأمورة، حتى جاءت الى دار أبى أيّوب، وكان من أولاد العالم الذى أبرأ تبعا برأيه.
قال ابن إسحاق: واستشار الأنصار عبد الرحمن بن عوف فى إيصال الكتاب الى النبى صلى الله عليه وسلم لمّا ظهر خبره قبل هجرته، فأشار عبد الرحمن أن يدفعوه الى رجل ثقة، فاختاروا رجلا يقال له أبو ليلى وكان من الأنصار، فدفعوا الكتاب إليه وأوصوه بحفظه، فأخذ الكتاب وخرج من المدينة على طريق مكة، فوجد النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قبيلة من بنى سليم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه وقال: أنت أبو ليلى؟ فقال: نعم، قال: معك كتاب تبّع الأول؟ قال: نعم، فبقى الرجل متفكّرا، وقال فى نفسه: إن هذا من العجائب، ثم قال له أبو ليلى: من أنت، فإنى لست أعرفك؟ إن فى وجهك أثر السحر، وتوهمّ أنه ساحر، فقال له:
بل أنا محمد رسول الله، هات الكتاب، فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبى صلى الله عليه وسلم ودفعه الى علىّ كرم الله وجهه، فقرأه عليه، فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم كلام تبّع قال: مرحبا بالأخ الصالح ثلاث مرّات، ثم أمر أبا ليلى بالرجوع الى المدينة، فرجع وبشّر القوم بقدوم النبى صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما روى أن أبا كرب تبان بن أسعد ملك اليمن «1» أحد التبابعة
لما قصد بلاد الشرق «2» ، جعل طريقه على يثرب، فلم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له أهل المدينة ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلّة أحد بنى النجار؛ وهو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن النجّار، وطلّة أمّه؛ وهى بنت عامر بن زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة «3» .