الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نترفّق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» ، وكان بعد ذلك إذا أحاث حدثا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفّونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم:
«كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لى اقتله لأرعدت [له «1» ] آنف لو أمرتها اليوم [بقتله «2» ] لقتلته» ، فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمرى.
ومن الحوادث فى هذه الغزوة حديث الإفك.
ذكر حديث الإفك وما تكلم به من تكلم من المنافقين وغيرهم فيه وما أنزله الله تعالى من براءة عائشة، وفضل أبيها رضوان الله عليهما
هذا الحديث قد تداوله الرواة وأهل الأخبار والسّير، فمنهم من زاد فيه زيادات كثيرة، وذكر تحامل من تحامل فى أمر الإفك، وتعصّب من تعصّب، فعلمت أن إيراد ذلك من أقوالهم يقتضى أن يصير فى نفس من سمعه من أهل السنّة شيئا ممن تكلم عليه بما تكلّم، ولعل ذلك لم يقع، فرأيت أن أقتصر منه على ما ثبت فى صحيح البخارىّ، واتصّل لنا بالرواية الصحيحة، وذكرت زيادات ذكرها ابن إسحاق- رحمه الله ويحتاج إلى إيرادها مما لا ضرر فيه، نبهت عليها بعد مساق الحديث على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بحديث البخارىّ «3» :
حدّثنا الشيخان المسندان المعمّران؛ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر ابن أسعد بن المنجا التّنوخيّة الدّمشقيان قراءة عليهما وأنا أسمع، بالمدرسة المنصورية
التى هى بين القصرين بالقاهرة المعزّية، فى جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزّبيدىّ، فى شوّال سنة ثلاثين وستمائة، بدمشق بالجامع المظفّرىّ بسفح جبل قاسيون، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ «1» قراءة عليه ونحن نسمع ببغداد، فى آخر سنة اثنتين وأوّل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفّر الداودىّ «2» فى شوّال وذى القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن حمويه السّرخسىّ فى صفر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربرىّ بفر «3» بر سنة ستّ عشرة وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ قراءة عليه بتبريز سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة فى سنة اثنتين وخمسين، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرنى عروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكلّ حدّثنى طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدّق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض؛ الذى حدّثنى عروة عن عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج
أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج [بها «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا فى غزوة «2» غزاها فخرج سهمى، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل فى هودجى وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرّحيل، فقمت حين آذنوا بالرّحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى فإذا عقد لى من جزع ظفار «3» قد انقطع، فالتمست عقدى وحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيرى الذى كنت ركبت، وهم يحسبون أنّى فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم، إنما تأكل العلقة «4» من الطعام، فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدى بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلى الذى كنت به، وظننت أنهم سيفقدونى فيرجعون إلىّ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمىّ ثم الذّكوانىّ من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلى، فرأى سواد إنسان نائم، فأتانى فعرفنى حين رآنى، وكان يرانى قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى، فخمّرت وجهى بجلبابى، وو الله ما كلّمنى كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بى الراحلة حتى أتينا الجيش
بعد ما نزلوا موغرين «1» فى نحر الظهيرة، فهلك من هلك «2» - وكان الذى تولى الإفك عبد الله بن أبىّ بن سلول- فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشىء من ذلك، وهو يريبنى «3» فى وجعى؛ أنّى لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّطف الذى كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم «4» ثم ينصرف، فذلك الذى يريبنى، ولا أشعر بالشّر حتى خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معى أمّ مسطح قبل المناصع- وهو متبرّزنا- وكنا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التبرز [قبل «5» ] الغائط، فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهى بنت أبى رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر ابن عامر خالة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأمّ مسطح قبل بيتى قد فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح [فى مرطها «6» ]، فقالت: تعس مسطح؛ فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟! قالت: أى هنتاه، أو لم تسمعى ما قال؟ قالت قلت: وما قال؟
فأخبرتنى بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضى، قالت: فلما رجعت إلى بيتى، ودخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«كيف تيكم» ؟
فقلت: أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوىّ،
فقلت لأمّى: يا أمّتاه، ما يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة، هوّنى عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت فقلت: سبحان الله! ولقد تحدّث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ «1» لى دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب وأسامة بن زيد رضى الله عنهما حين استلبث الوحى «2» يستأمرهما فى فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذى يعلم من براءة أهله، وبالذى يعلم لهم فى نفسه من الودّ، فقال: يا رسول الله، أهلك وما نعلم إلا خيرا. وأما علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير «3» ، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال:«أى بريرة، هل رأيت من شىء يريبك» ؟ قالت بريرة: لا والذى بعثك بالحقّ، إن رأيت عليها أمرا أغمصه «4» عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها، فتأتى الداجن «5» فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فآستعذر من عبد الله بن أبىّ بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر:
«يا معشر المسلمين، من يعذرنى «6» من رجل قد بلغنى أذاه فى أهل بيتى! فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان
يدخل على أهلى إلّا معى» . فقام سعد بن معاذ الأنصارىّ فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه؛ إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة «1» . فقال لسعد: كذبت، لعمر الله «2» لا تقتله، ولا تقدر على قتله، وقام أسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم «3» حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواى عندى، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لى دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدى، فقالت: فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى فاستأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكى معى، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال:«أمّا بعد يا عائشة، فإنه قد بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» .
قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبى: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله
ما أدرى ما اقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّى: أجيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن: إنّى والله لقد علمت؛ لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ فى أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم إنّى بريئة لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أنّى بريئة منه لتصدقنّى، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبى يوسف، قال:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)
. قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشى، قالت: وأنا حينئذ أعلم أنى بريئة، وأن الله يبرئنى ببراءتى، ولكن والله ما كنت أظن أنّ الله منزل فى شأنى وحيا يتلى، ولشأنى فى نفسى كان أحقر من أن يتكلّم الله فىّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئنى الله بها. قالت:
فو الله ما رام «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما يأخذه من البرحاء «2» ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان «3» من العرق- وهو فى يوم شات- من ثقل القول الذى ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرّى عنه وهو يضحك، فكانت أوّل كلمة تكلّم بها:
«يا عائشة، أمّا الله فقد برّاك» ، فقالت أمّى: قومى إليه، قالت فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، وأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)
«1» ، قالت عائشة: فلما أنزل الله تعالى هذا فى براءتى، قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذى قال لعائشة- رضى الله عنها- ما قال، فأنزل الله سبحانه وتعالى:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
«2» . قال أبو بكر رضى الله عنه: بلى والله إنى أحبّ أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال: «يا زينب، ماذا علمت أو رأيت» ؟، فقالت: يا رسول الله، أحمى سمعى وبصرى، ما رأيت إلا خيرا، قالت: وهى التى كانت تسامينى «3» من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. انتهى حديث البخارىّ.
وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى عروة بن الزّبير، وعبد الله ابن عبد الله بن عتبة، وعبد الله بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن، كلهم يحدّث عن عائشة- رضى الله عنهم- بنحو هذا الحديث، وزاد فيه من قول أسامة ابن زيد؛ فأثنى خيرا، وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا هو الكذب والباطل. قال: وأمّا علىّ بن أبى طالب فإنه قال: يا رسول الله، إنّ النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، واسأل الجارية فإنها ستصدقك.
قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، فقام إليها علىّ بن أبى طالب فضربها ضربا شديدا، وقال: اصدقى رسول الله. وساق نحو ما تقدم.
وقال فى خبر الوحى: قالت فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حنى تغشّاه من الله ما كان يتغشّاه، فسجّى بثوبه، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأمّا أنا حين رأيت ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت؛ قد عرفت أنى منه بريئة، وأنّ الله غير ظالمى، وأمّا أبواى، فو الذى نفس عائشة بيده، ما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنّ أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. وساق الحديث بنحو ما تقدم. ثم قال: قالت ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل عليه من القرآن فى ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدّهم؛ فقال رجل من المسلمين فى ذلك:
لقد ذاق حسّان الذى كان أهله
…
وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح «1»
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيّهم
…
وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا «2»
وآذوا رسول الله فيها فجلّلوا
…
مخازى تبقى عمّموها وفضّحوا
وصبّت عليهم محصدات كأنها
…
شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح «1»
وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة مسطح- وهو عوف بن أثاثة بن عبّاد ابن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه سلمى بنت صخر بن عامر خالة أبو بكر الصدّيق. قال: وذكر الأموى عن أبيه عن ابن إسحاق قال قال أبو بكر يذكر مسطحا:
يا عوف ويحك هلّا قلت عارفة
…
من الكلام ولم تتبع بها طمعا
وأدركتك حميّا معشر أنف
…
ولم تكن قاطعا يا عوف من قطعا
هلّا حربت من الأفوام إذ حسدوا
…
فلا تقول ولو عاينته قذعا
لمّا رميت حصانا غير مقرفة
…
أمينة الجيب لم نعلم لها خضعا
فيمن رماها وكنتم معشرا أفكا
…
فى سىّء القول من لفظ الخنا شرعا
فأنزل الله وحيا فى براءتها
…
وبين عوف وبين الله ما صنعا
فإن أعش أجز عوفا عن مقالته
…
شرّ الجزاء إذا ألفيته تبعا
ولعل هذا الشّعر إن صحّ عن أبى بكر فيكون قاله قبل نزول قوله تعالى:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ)
الآية. فإنه قد صح أن أبا بكر قال عند نزولها:
والله إنّى أحبّ أن يغفر الله لى، ورجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا.
وقال محمد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار عن بعض رجال بنى النجار:
أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: ألا تسمع ما يقول
الناس فى عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أمّ أيوب فاعلة؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله؛ قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال أهل الإفك، ثم قال:(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً)
، أى فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته.
قال ابن إسحاق: وكان حسّان بن ثابت قال شعرا يعرّض فيه بصفوان بن المعطّل، فاعترضه صفوان فضربه بالسيف، ثم قال:
تلقّ ذباب السّيف عنك فإنّنى
…
غلام إذا هو جيت لست بشاعر
فوثب ثابت بن قيس بن شمّاس على صفوان بن المعطّل حين ضرب حسّان فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك «1» ! ضرب حسّان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله؛ فقال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله؛ قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فدعا حسّان وصفوان، فقال صفوان: يا رسول الله، آذانى وهجانى، فحملنى الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا حسّان، أتشوّهت «2» على قومى أن هداهم الله للإسلام» ؟ ثم قال:
«أحسن يا حسّان فى الذى قد أصابك» قال: هى لك؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا عنها بيرحا- وهى قصر بنى حديلة- كانت ما لا لأبى طلحة وتصدّق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسّان فى ضربته، وأعطاه
سيرين- أمة قبطيّة- فولدت له عبد الرحمن بن حسّان. قال: وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لقد سئل عن ابن المعطّل فوجدوه رجلا حصورا ما يأتى النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضى الله عنه.
وقال حسّان بن ثابت يعتذر من الذى كان منه فى شأن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها:
حصان رزان ما تزنّ بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1»
عقيلة حىّ من لؤىّ بن غالب
…
كرام المساعى مجدهم غير زائل «2»
مهذّبة قد طيّب الله خيمها
…
وطهّرها من كلّ سوء وباطل «3»
فإن كنت قد قلت الذى قد زعمتم
…
فلا رفعت سوطى إلىّ أناملى
وكيف وودّى ما حييت ونصرتى
…
لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلّهم
…
تقاصر عنها سورة «4» المتطاول
فإنّ الذى قد قيل ليس بلائط «5»
…
ولكنه قول امرئ بى ما حل «6»
وقد روينا عن البخارىّ رحمه الله بالإسناد المتقدم، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق عن عائشة