الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سمعت شيئا تكرهه. قال: «أجل» ، ثم أخبره بما قال ابن أبىّ، فقال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا. وكانت مقالة عبد الله بن أبىّ هذه قبل تلفظه بالإسلام، وسنورد إن شاء الله تعالى من أخباره فى الغزوات، وانحيازه عن المسلمين بثلث الناس يوم أحد، وما قاله فى غزوة المريسيع وغيرها ما تقف عليه فى مواضعه، مما تستدل به على صحة نفاقه، وإصراره فى الباطن على كفره. وأما أبو عامر فإنه أبى إلا الإصرار على كفره، وفارق قومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وهو أوّل من أنشب الحرب يوم أحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان أبو عامر قد أتى النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الذى جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال: فأنا عليها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنك لست عليها» ، قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها، قال:«ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية» ، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا- يعرّض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أى إنك ما جئت بها كذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فمن كذب يفعل الله به ذلك» ، فكان هو ذاك؛ خرج إلى مكة، فلما افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات به طريدا غريبا وحيدا.
ومن المنافقين من أحبار يهود
ممن تعوّذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق: سعد ابن حنيف، وزيد بن اللّصيت، ونعمان بن «1» أوفى، وعثمان بن أبى أوفى. وزيد
ابن اللّصيت هو الذى قاتل عمر بن الخطاب بسوق بنى قينقاع، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء، ولا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه الخبر بما قال ودلّه الله عليها-:«إن فلانا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدرى أين ناقته، وإنى والله لا آتيكم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى الله عليها، وهى فى هذا الشّعب، قد حبستها شجرة بزمامها» ، فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وصف. ومنهم رافع بن حريملة وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات:«قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين» . ورفاعة [بن زيد «1» ] بن التابوت، وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هبت ريح وهو قافل من غزوة بنى المصطلق واشتدّت، حتى أشفق منها المسلمون:«لا تخافوا، فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد رفاعة بن زيد مات ذلك اليوم الذى هبت فيه الريح. وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا.
وكان هؤلاء يحضرون المسجد يسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون منهم، ويستهزئون بدينهم. قال ابن إسحاق: فاجتمع يوما منهم فى المسجد ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدّثون بينهم بأقصى أصواتهم «2» ، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا؛ فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس احد بنى النجار- وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية- فأخذ برجله يسحبه حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجنى يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة! ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلبّبه
بردائه، ثم نتره «1» نترا شديدا، ولطم وجهه وأخرجه، وهو يقول: أفّ لك منافقا خبيثا! أدراجك «2» يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام عمارة ابن حزم إلى زيد بن عمرو- وكان رجلا طويل اللحية- فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه، ثم جمع عمارة يديه فلدمه «3» بها فى صدره لدمة خرّ منها، فقال:
خدشتنى يا عمارة، قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعدّ الله لك من العذاب أشدّ من ذلك، فلا تقر بن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد مسعود ابن أوس من بنى النجار إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلاما شابا ولا يعلم فى المنافقين شاب غيره، فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه. وقام عبد الله ابن الحارث من بلخدرة «4» رهط أبى سعيد الخدرىّ إلى الحارث بن عمرو، وكان ذا جمّة، فأخذ بجمّته فسحبه بها سحبا عنيفا على مامر به من الأرض حتى أخرجه، فقال له: لقد أغلظت يابن الحارث، فقال له: إنك أهل لذلك- أى عدوّ الله- لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخيه زوىّ بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا، وأفّف «5» منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره.
قال: فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين؛ وفى هؤلاء من المنافقين، وفى أحبار يهود أنزل الله تعالى صدر سورة البقرة إلى المائة منها؛ والله أعلم.
فالذى منها مما يختص بالمنافقين قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)
«6» إلى قوله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
«7» . وقوله:
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)
«1» أى شك فزادهم الله شكا. وقوله: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
«2» لأنهم كانوا يقولون:
إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وقوله: (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ)
أى من تهود (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)
أى على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)
«3» أى إنما نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. ثم ضرب الله لهم مثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)
«4» الآية؛ أى يبصرون الحقّ ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله فى ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حقّ. ثم قال تعالى:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
«5» أى عن الخير، لا يرجعون إلى هدى. وقوله:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)
«6» الصّيّب: المطر. قال ابن إسحاق:
أى هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل، على الذى هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وصف، من الذى هو فى ظلمة الصّيّب، يجعل أصابعه فى أذنيه من الصواعق حذر الموت. (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)
أى منزل ذلك بهم من النقمة. قوله: (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)
أى لشدة ضوء الحقّ (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا)
أى يعرفون الحقّ ويتكلمون به، فهم من قولهم على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)
«7» أى لما تركوا الحقّ بعد معرفته. والله تعالى أعلم بالصواب.