الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بما فيه من زيادات ابن عبد البرّ؛ خلا أبناءهم الذين خرجوا معهم صغارا، ومن ولد هناك اثنان وتسعون رجلا، وثمانى عشرة امرأة، والأبناء الصغار سبعة.
والله أعلم.
ذكر إرسال قريش إلى النجاشىّ فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وطلبهم منه وإسلامه
عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشىّ، [أمنّا «1» ] على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشىّ فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشىّ هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وقالوا لهما:
ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشىّ فيهم، ثم قدّما إلى النجاشىّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلّمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشى، ونحن عنده بخير دار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشىّ، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلّمهم إلينا ولا يكلمهم، فقالوا: نعم، ثم إنهما قدّما هدايا هما إلى النجاشىّ فقبلها، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد
ضوى «1» إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع إلى كلامهم النجاشىّ، فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فأسلمهم لهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم، قالت «2» :
فغضب النجاشىّ وقال: لا ها الله! إذا لا أسلّمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى، ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى؛ حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان فى أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم «3» ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا أجبتموه «4» ، قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا نبيّنا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشىّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله؛ سألهم فقال: ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى؛ ولا فى دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذى كلّمه جعفر بن أبى طالب فقال: أيها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام [ونأكل «5» ] الميتة، ونأنى الفواحش، ونقتطع «6» الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوىّ
منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة [و «1» ] الأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدّد عليه أمور الإسلام، فصدقناه، وآمنّا به واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا [ما «2» ] حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء، قال: نعم، قال: فاقرأه علىّ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص)
«3» ، قال: فبكى والله النجاشى حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلّت مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فلا والله لا أسلّمهم إليكما، ولا يكادون.
قالت: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينّه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبى ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم
عبد. قالت: ثم غدا عليه [من «1» ] الغد فقال: يأيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه، فأرسل إليهم فسألهم عنه. قالت أمّ سلمة: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟، قالوا: نقول والله كما قال الله، وما جاءنا به نبينا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشىّ بيده إلى الأرض، ثم أخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ممّا قلت هذا العود. فناخرت «2» بطارقته من حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم، والله أنتم شيوم بأرضى- والشّيوم: الآمنون- من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم! وما أحب أن لى دبرا من ذهب، وأنى آذيت رجلا منكم- والدّبر بلسان الحبشة الجبل- ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علىّ ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيعهم فيه.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
قال الزهرىّ: فحدثت عروة بن الزبير حديث «3» أمّ سلمة قال: هل تدرى ما قوله:
«ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ علىّ ملكى. فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» ؟ قلت: لا، قال: فإن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها حدثتنى
أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشىّ، وكان للنجاشىّ عمّ له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها:
لو أنا قتلنا أبا النجاشىّ، وملّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثنى عشر رجلا يتوارثون «1» ملكه من بعده، فغدوا على أبى النجاشىّ فقتلوه وملّكوا أخاه، فمكثو على ذلك حينا، ونشأ النجاشىّ مع عمه، وكان لبيبا حازما، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت:
والله لقد غلب «2» هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملّكه علينا قتلنا أجمعين، لقد عرف أننا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمّه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنّا قد خفناه على أنفسنا، قال:
ويلكم! قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من دياركم، فخرجوا به إلى السوق؛ فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينته وانطلق به حتى إذا كانت العشاء من ذلك اليوم؛ هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزع الحبشة إلى ولده، فاذا هو محمّق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلّموا والله أن ملككم «3» الذى لا يقيم أمركم غيره للذى بعتم «4» غدوة، فان كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه، قال: فخرجوا فى طلبه، فأخذوه من الرجل الذى باعوه له، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير
الملّك وملكوه، فجاءهم التاجر الذى باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى، وإما أن أكلمه: فى ذلك، قالوا: لا نعطيك شيئا، قال: فإذا والله أكلمه، قالوا: فدونك. فجاء فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم فى السوق بستمائة درهم، فأسلموا إلىّ غلامى، وأخذوا دراهمى، حتى إذا سرت بغلامى؛ أدركونى فأخذوه منّى، ومنعونى دراهمى، فقال لهم النجاشىّ: لتعطنّه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده؛ فليذهبن به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: «ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ على ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» . قال: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه، وعدله فى حكمه.
قال ابن إسحاق، وحدثنى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشىّ: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعلها «1» فى قبائه عند المنكب الأيمن «2» ، وخرج إلى الحبشة وصفّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أنّ عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله فقال النجاشىّ ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى