الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مولده بمكّة، ومهاجره يثرب؛ قال: وهذا قبل أن يظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما روى عن عبد الله بن ساعدة الهذلى أنه قال:
كنا نعبد صنما يقال له سواع، وكانت لى غنم فجربت فسقتها إليه وأدنيتها منه أرجو بركته، فسمعت مناديا من جوف الصّنم يقول: العجب كل العجب، سدلت الحجب، ورميت الجن بالشّهب، وسقطت النّصب، ونزل خير الكتب، على خير العرب؛ قال: فسقت غنمى وعدت إلى أهلى، وقد بغّضت إلىّ الأوثان، فجعلت أنقّب عن الحوادث حتى بلغنى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأسلمت.
وسنذكر إن شاء الله تعالى فى خبر إسلام الجن ما هتفوا به فأسلم بسببه من أسلم لمّا سمعوا- ما تقف عليه هناك.
وحيث ذكرنا ما ذكرنا من المبشّرات، فلنذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم.
ذكر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بدئ به من النبوّة
روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوّة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة «1» ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فى نوم إلا جاءت كفلق الصّبح «2» ، وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده.
وروى محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبى عن عبد الملك بن عبيد الله «1» بن أبى سفيان ابن العلاء بن حارثة «2» الثقفىّ، وكان واعية «3» ، عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوّة؛ كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت «4» ، ويفضى إلى شعاب «5» مكّة وبطون «6» أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة؛ فمكث صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء فى شهر رمضان.
وعن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة ويوم، فأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فى حراء، وهو أوّل موضع نزل فيه القرآن.
وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن محمد بن موسى الخوارزمىّ قال: بعث نبينا صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. فكان من مولده إلى أن بعثه الله عز وجل أربعون سنة ويوم.
وعن عبد الله بن الزبير وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور فى حراء [شهرا «1» ] من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به- إذا انصرف من جواره- الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه من كرامته ما أراد، من السنة التى بعثه فيها، وذلك فى شهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء «2» كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءنى وأنا نائم بنمط «3» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ؛ [قال «4» ] : قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى «5» به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع. فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)
. قال: فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى، وهببت من نومى، فكأنّما كتب «6» فى قلبى كتابا؛ قال:
فخرجت حتى إذا كنت فى وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسى أنظر [إلى السماء «7» ] ؛ فإذا جبريل فى صورة رجل صافّ قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا
جبريل، [قال «1» ] : فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى [عنه «2» ] فى آفاق السماء، فما أنظر فى ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدّم أمامى وما أرجع ورائى حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا [أعلى «3» ] مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف فى مكانى ذلك؛ ثم انصرف عنى.
وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها [مضيفا إليها «4» ] فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلى فى طلبك حتى بلغوا [أعلى «5» ] مكة ورجعوا إلىّ، فحدّثتها «6» بالذى رأيت، فقالت: أبشر يا بن عمّ واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لأرجونّ «7» أن تكون نبىّ هذه الأمة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى «8» ، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر فى الجاهلية وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، والذى نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبىّ هذه الأمة، فقولى له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو
يطوف بالكعبة فقال: يا بن أخى، أخبرنى بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له ورقة: والذى نفسى بيده إنك لنبىّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنّه، ولتؤذينّه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنّه «1» ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم، لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبّل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
وذكر الإمام العدل سليمان التّيمى فى سيره «2» أن النبى صلى الله عليه وسلم حين أخبر خديجة عن جبريل، ولم تكن سمعت باسمه قطّ، ركبت «3» إلى بحيرا الرّاهب إلى الشام، قال الزهرىّ هو حبر من يهود تيماء، فسألته عن جبريل، فقال لها: قدّوس قدّوس، يا سيدة نساء قريش، أنّى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلى ابن عمّى أخبرنى أنه يأتيه، فقال: قدّوس قدّوس ما علم به إلا نبىّ، فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشياطين لا تجترئ «4» أن تتمثّل به ولا تتسمّى به.
وكان غلام لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس اسمه عدّاس من أهل نينوى «5» مدينة يونس عليه السلام، عنده علم من الكتاب أرسلت تسأله عن جبريل فقال: قدّوس [قدّوس «6» ] أنّى لهذه البلاد بذكر جبريل يا سيدة نساء قريش؟ فأخبرته بقول النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عدّاس مثل قول الراهب.
وروى البخارىّ- رحمه الله فى صحيحه «1» بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة «2» الجرس وهو أشدّه علىّ، فيفصم «3» عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلّمنى فأعى ما يقول.
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم «4» عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
وبسنده «5» عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنّث فيه، وهو التعبّد الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاء الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال:
قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطّنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثانية حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلنى فقال:
اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال:
زمّلونى زمّلونى، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد
خشيت على نفسى، فقالت خديجة: كلّا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصّر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانىّ «1» ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجىّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا؛ ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى.
قال ابن شهاب «2» : وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارىّ قال وهو يحدّث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: بينا أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسىّ بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلونى زمّلونى، فأنزل الله:(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)
، فحمى الوحى وتتابع.
قال محمد بن إسحاق «3» :
وحدّثنى إسماعيل بن أبى حكيم مولى آل الزّبير أنه حدّث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أى ابن عم، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا
الذى يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرنى به، فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءنى قالت: قم يابن عم فاجلس على فخذى اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاقعد «1» على فخذى ايمنى، قال: فتحوّل فقعد «2» على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس فى حجرى، فتحوّل فجلس فى حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم:
قال: فحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت يابن عمّ: اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك، ما هذا بشيطان.
وكانت خديجة رضى الله عنها أوّل من آمن بالله وبرسوله وصدّق بما جاء به.
وحكى أبو عمر بن عبد البر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ أمره ثلاث سنين ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه.
قال: وقال الشعبى: أخبرت أن إسرافيل تراءى له ثلاث سنين. وروى ابن عبد البر بسنده إلى الشعبىّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين، ووكّل به إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل عليه السلام. وفى رواية عنه:
ثم بعث إليه جبريل بالرسالة. وعنه أيضا قال: أنزلت عليه النبوّة وهو ابن أربعين، فقرن نبوّته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، وكان يعلّمه الكلمة والشىء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة.