الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ابتداء دولة الموحدين وأخبارهم وسبب ظهورهم
أول من ظهر من ملوك هذه الدولة، وأسس قواعدها، وقام بأعبائها وأنشأها، المهدى محمد بن تومرت. وكان ابتداء أمره وظهوره فى سنة أربع عشرة وخمسمائة «1» . وسنذكر ابتداء حاله وكيف تنقلت «2» به الحال وما كان منه، إن شاء الله تعالى
ذكر أخبار المهدى محمد بن تومرت
هو أبو عبد الله محمد بن تومرت الحسنى «3» ، وقبيلته من المصامدة تعرف بهرغة فى جبل السوس، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير. وكان ابتداء أمر المهدى أنه رحل فى شبيبته إلى بلاد المشرق فى طلب العلم. وكان فقيها فاضلا محدّثا، عارفا بأصولى الدين والفقه، محققا لعلم العربية، وكان ورعا ناسكا. ووصل فى سفره إلى العراق. واجتمع بالغزالى والكيا الهراسى، وقيل: لم يجتمع بالغزالى. واجتمع بأبى بكر الطرطوشى «4» بالإسكندرية. وحج ورجع إلى المغرب.
قال: ولما ركب البحر من الإسكندرية مغرّبا غيّر المنكرات
فى المركب. وألزم من فيه بإقامة الصلاة وقراءة القرآن حتى انتهوا إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وذلك فى سنة خمس وخمسمائة. فنزل بمسجد وليس معه سوى ركوة «1» وعصا. فتسامع به أهل البلد فقصدوه يقرئون عليه أنواع العلوم. فكان إذا مر به المنكر أزاله وغيره. فلما كثر ذلك منه، أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء. فأعجبه سمته وكلامه فاحترمه وسأله الدعاء.
ثم رحل من المهدية وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين «2» مدة.
وسار إلى بجاية وفعل مثل ذلك. فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة «3» ، فلقيه بها عبد المؤمن. فرأى منه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم «4» والقيام بالأمر. فسأله عن اسمه وقبيلته. فأخبره أنه من قيس عيلان ثم من بنى سليم فقال محمد بن تومرت:«هذا الذى بشربه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: إن الله لينصر هذا الدين فى آخر الزمان برجل من قيس. فقيل: من أى قيس؟ فقال: من بنى سليم» .
واستبشر بعبد المؤمن وسرّ بلقائه. وكان مولد عبد المؤمن بمدينة
تاجرة «1» من أعمال تلمسان، وهو من بنى عائد قبيلة من كومة «2» نزلوا بذلك الإقليم فى ثمانين ومائة.
قال: ولم يزل المهدى يلازم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى أن وصل إلى مراكش، وهى دار مملكة على بن يوسف ابن تاشفين. فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه فى طريقه.
فزاد أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فكثر أتباعه وحسنت ظنون الناس فيه.
فبينما هو فى بعض الأيام فى طريقة، إذ رأى أخت أمير المسلمين فى موكبها ومعها عدة من الجوارى الحسان، وهن مسفرات. وكانت هذه من عادتهم «3» . فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن وأمرهن بستر وجوههن. وضرب هو وأصحابه دوابهن.
فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها. فرفع أمره إلى أمير المسلمين على بن يوسف. فأحضره الفقهاء لمناظرته، فأخذ يعظه ويذكّره ويخوفه، فبكى أمير المسلمين «4» . وأمر أن يناظروه فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته. وكان عند أمير المسلمين رجل من وزرائه «5» اسمه مالك بن وهيب «6» فقال له:
«يا أمير المسلمين إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إنما هو يريد إثارة فتنة والغلبة على بعض النواحى، فاقتله وقلّدنى دمه» . فلم يفعل ذلك فقال: «إذا لم تقتله فاحبسه وخلّده فى السجن وإلا أثار شرا لا يمكن تلافيه» . فأراد حبسه فمنعه من ذلك رجل من أكابر الملثمين يسمى بنيان بن عمران «1» . فأمر بإخراجه من مراكش.
فسار إلى أغمات ولحق بالجبل. وسار منه حتى التحق بالسوس الذى فيه قبيلته هرغة وغيرهم من المصامدة، وذلك فى سنة أربع عشرة وخمسمائة. فأتوه واجتمعوا حوله. وتسامع به أهل تلك النواحى فوفدوا إليه، وحضر أعيانهم بين يديه. فجعل يعظهم، ويذكرهم شعائر الإسلام وما غيّر منها وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا تجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل بل الواجب قتالهم ومنعهم مما هم عليه. فأقام على ذلك نحو سنة. وتابعته قبيلة هرغة.
وسمى أتباعه الموحدين. وأعلمهم أن النبى صلى الله عليه وسلم بشر بالمهدى الذى يملأ الأرض عدلا، وأن مكانه الذى يخرج منه المغرب الأقصى. فقام إليه عشرة رجال منهم عبد المؤمن فقالوا:
«لا يوجد هذا إلا فيك، وأنت المهدى» . وبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين فجهز جيشا من أصحابه لقتاله.
فلما قربوا من الجبل الذى هو فيه قال لأصحابه: «إن هؤلاء يريدوننى وأخاف عليكم منهم. والرأى أن أخرج إلى غير هذه البلاد لتسلموا
أنتم» . فقال له ابن توفيان «1» من مشايخ هرغة: «هل تخاف شيئا من السماء؟» فقال: «بل من السماء تنصرون» . فقال ابن توفيان: «فليأتنا كل من فى الأرض» . ووافقته جميع قبيلته. فقال المهدى عند ذلك: «أبشروا بالنصر والظفر «2» بهذه الشرذمة. وبعد قليل تستأصلون دولتهم وترثون أرضهم» . فنزلوا من الجبل ولقوا «3» جيش أمير المسلمين، فهزموهم وأخذوا أسلابهم. وقوى ظنهم بصدق المهدى حيث ظفروا كما أخبرهم.
فأقبلت إليه أفواج القبائل من الجبال التى حوله شرقا وغربا فأقبل عليهم واطمأن إليهم، وأتته رسل أهل تينملّ «4» بطاعتهم وطلبوه إليهم. فتوجه إلى جبل تينمل وأقام به واستوطنه.
وبايعته قبيلة هنتاتة، وهى من أقوى القبائل. وألف كتابا فى التوحيد، وكتابا فى العقيدة. ونهج لمن معه طريق الأدب مع بعضهم بعضا، والاقتصار على لباس الثياب القليلة الثمن. وهو فى خلال ذلك يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم. وبنى له مسجدا بتينمل خارج المدينة، فكان يصلى فيه الصلوات الخمس هو وجميع من معه، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة.
فلما رأى كثرة أهل البلد وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه. فأمرهم أن يحضروا عنده بغير سلاح. ففعلوا ذلك عدة أيام. ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فقتلوهم فى ذلك المسجد.
ثم دخل المدينة فقتل فيها «1» وأكثر، وسبى الحريم، ونهب الأموال. فكانت عدة القتلى خمسة عشر ألفا. وقسم المساكن والأرض بين أصحابه. وبنى على المدينة سورا وقلعة على رأس جبل تينمل، وهو جبل عال فيه أشجار وزرع «2» وأنهار جارية، والطريق إليه صعب.
وقيل: إنه لما خاف أهل تينمل، نظر إلى أولادهم فرآهم شقرا زرقا، والذى يغلب على الآباء السمرة، فقال لهم:
«مالى أراكم سمر الألوان وأولادكم شقرا زرقا؟» فقالوا: «إن لأمير المسلمين «3» عدة من المماليك الفرنج والروم، وإنهم يصعدون إلى هذا الجبل فى كل عام مرة، يأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة من جهة السلطان، فيسكنون البيوت، ويخرجون أصحابها منها» فقبّح الصبر على هذا وأزرى عليهم وعظّم الأمر عندهم. فقالوا له:«فكيف الحيلة فى الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟» فقال: «إذا حضروا عندكم فى الوقت المعتاد وتفرقوا فى مساكنكم، فليقم كل رجل إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم فإنه لا يرام» . ففعلوا ذلك عند