الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر فتوح افريقية
كان فتوحها فى سنة سبع وعشرين «1» ، وذلك أن عثمان ابن عفان- رضى الله عنه- لما ولى الخلافة عزل عمرو بن العاص عن مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وهو أخو عثمان لأمه. فكان عبد الله يبعث المسلمين فى جرائد الخيل «2» فيصيبون من إفريقية. ويكتب بذلك إلى عثمان.
فلما أراد عثمان أن يغزى إفريقية استشار الصحابة، فكلّهم أشار عليه بإنفاذ الجيش إليها إلا أبا الأعور سعيد بن أبى يزيد «3» فإنه كره ذلك. فقال له عثمان:«ما كرهت يا أبا الأعور من بعثة الجيش؟» قال: «سمعت عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يقول: لا أغزيها أحدا من المسلمين ما حملت عينى الماء «4» ولا أرى لك خلاف عمر» وقام. ثم دعا عثمان زيد بن ثابت ومحمد ابن مسلمة واستشارهما. فأشارا بإنفاذ الجيش.
فندب الناس إلى الغزو. فكان هذا الجيش يسمى جيش
العبادلة «1» . خرج فيه من بنى هاشم: عبد الله بن عباس وكان واليا على المسلمين وعبيد الله بن عباس «2» ؛ ومن بنى تيم:
عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق، رضى الله عنهما، وعبد الرحمن بن صبيحة «3» فى عدّة من قومه، ومن بنى عدى:
عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب «4» وعبيد الله بن عمر، وعاصم بن عمر فى عدة منهم؛ ومن بنى أسد ابن عبد العزّى: عبد الله بن الزّبير فى عدة من قومه؛ ومن بنى سهم: عبد الله بن عمرو بن العاص والمطّلب بن السّائب بى أبى وداعة «5» ، فى عدة منهم. وخرج فى الجيش مروان بن الحكم، وأخوه الحارث، وجماعة من بنى أميّة، والمسور بن مخرمة ابن نوفل، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعدة من بنى زهرة؛ ومن بنى عامر بن لؤى بن غالب: السائب بن عامر
ابن هشام «1» ، وبسر بن أرطاة؛ وعدة من بنى هذيل، منهم أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلى- وتوفى بإفريقية وواراه فى قبره عبد الله بن الزبير- وعبد الله بن أنيس «2» وأبو ذر الغفارى، والمقداد بن عمرو البهرانى «3» ، وبلال بن الحارث المزنى، وعاصم، ومعاوية بن حديج، وفضالة بن عبيد، ورويفع بن ثابت «4» ، وجرهد بن خويلد «5» وأبو زمعة البلوى، والمسيّب بن حزن، وجبلة بن عمرو الساعدى، وزياد بن الحارث الصّدائى، وسفيان بن وهب، وقيس بن يسار بن مسلمة «6»
وزهير بن قيس، وعبد الرحمن بن صخر «7» ، وعمرو بن عوف وعقبة بن نافع الفهرى. وخرج من جهينة ستمائة رجل، ومن أسلم حمزة بن عمرو الأسلمى «8» ، وسلمة بن الأكوع فى
ثلاثمائة رجل، ومن مزينة ثمانمائة رجل، ومن بنى سليم أربعمائة رجل «1» ، ومن بنى الدّيل وضمرة وغفار خمسمائة رجل، ومن غطفان وأشجع وفزارة سبعمائة «2» رجل، ومن كعب ابن عمرو أربعمائة رجل «3» ، وكانوا آخر من قدم على عثمان، والناس معرّسون بالجرف، والجرف على ثلاثة أميال من المدينة «4» وأعان عثمان الجيش بألف بعير من ماله، فحمل عليها ضعفاء الناس، وحمل على خيل، وفرق السلاح، وأمر للناس بأعطياتهم. وذلك فى المحرم سنة سبع وعشرين.
وخطب عثمان الناس ورغّبهم فى الجهاد. وقال لهم: «قد استعملت عليكم الحارث بن الحكم «5» إلى أن تقدموا على عبد الله بن سعد، فيكون الأمر إليه. واستودعتكم الله» . وساروا حتى أتوا مصر.
فجمع عبد الله بن سعد جيشا عرمرما، وضمه إليه. فبلغ عسكر المسلمين «6» عشرين ألفا. واستخلف على مصر عقبة بن نافع، وتوجّه.
وحكى الزّهرى عن ربيعة بن عباد الدّيلى قال: لما وصلنا قدّم عبد الله الطّلائع والمقدمات أمامه. وكنت أنا أكثر ما أكون فى الطلائع. فو الله إنا لبطرابلس قد أصبنا من بها من الروم قد تحصنوا منا فحاصرناهم، ثم كره عبد الله أن يشتغل بذلك عما قصد إليه، فأمر الناس بالرحيل «1» . فنحن على ذلك إذا مراكب قد أرست إلى الساحل «2» فشددنا عليها، فترامى من بها إلى الماء. فأقاموا ساعة ثم استأسروا فكتفناهم، وكانوا مائة «3» . حتى لحق بنا عبد الله فضرب أعناقهم، وأخذنا ما فى السفن. فكانت هذه أول غنيمة أصبناها.
ومضى حتى نزل بمدينة قابس فحاصرناها. فأشار عليه، الصحابة أن لا يشتغل بها عن إفريقية، فسار وبثّ السرايا فى كل وجه. وكان يؤتى بالبقر والشاء والعلف. قال: وكان ملكهم يدعى جرجير «4» ، وسلطانه من طرابلس إلى طنجة وولايته من قبل هرقل «5» . فلما بلغه الخبر بورود الجيوش الإسلامية، جمع وتأهب للّقاء، فبلغ عسكره عشرين ومائة ألف «6»
قال: ثم ذهبنا قاصدين عسكره على تعبئة، فأقمنا أياما تجري بيننا وبينهم الرسل: ندعوه إلى الإسلام، وهو يستطيل ويتجبر وقال:«لا أقبل هذا أبدا» . فقلنا له «فخراج تخرجه كل عام» .
فقال: «لو سألتمونى درهما واحدا لم أفعل» . «1» . فتأهبنا للقتال بعد الإعذار منا «2» . فعبأ عبد الله بن سعد ميمنته وميسرته والقلب.
وفعل ملك الروم مثل ذلك. وتلاقى الجمعان فى فحص «3» متسع يسمى بعقوبة «4» ، بينه وبين دار ملك الروم مسيرة يوم وليلة، وهى المدينة المسماة سبيطلة «5» ، وكذلك مدينة قرطاجنّة، وهى مدينة عظيمة، شامخة البناء، أسوارها من الرخام الأبيض، وفيها العمد والرخام الملون ما لا يحصى.
قال: ودامت الحرب بين الفريقين وطالت، وانقطع خبر المسلمين عن عثمان. فأنفذ عبد الله بن الزبير «6» وصحبته اثنا عشر فارسا من قومه. فسار يجد السير حتى قدم على المسلمين فوصل ليلا. فسروا به ووقع فى العسكر ضجة «7» ، خافت الروم منها، وظنوا أنهم يحملون عليهم، فباتوا بشر ليلة. وأرسل ملكهم جاسوسا يستعلم الخبر. فأعلمه أن نجدة وصلت إلى المسلمين. وكان المسلمون
يقاتلون الروم فى كل يوم إلى الظهر، ثم ترجع كل طائفة إلى معسكرها وتضع الحرب أوزارها. فلما أصبح عبد الله بن الزبير، صلى الصبح وزحف مع المسلمين وقاتل. فلقى الروم فى يومهم أشد نكال. ولم ير ابن الزبير عبد الله بن سعد فى الحرب فسأل عنه. فقالوا:«هو فى خبائه وله أيام ما خرج منه» . ولم يكن ابن الزبير اجتمع به، فمضى إليه، وسلم عليه، وبلغه وصية عثمان وسأله عن سبب تأخره. فقال:«إن ملك الروم أمر مناديا فنادى باللغة الرومية والعربية «1» : معاشر الروم والمسلمين: من قتل عبد الله بن سعد زوّجته ابنتى، ووهبت له مائة ألف دينار» وكانت ابنته بارعة الجمال، تركب معه فى الحرب، وعليها أفخر ثياب، وتحمل على رأسها مظلة من ريش الطاووس «وغير خاف عنك من معى، وأكثرهم حديثو عهد «2» بالإسلام، ولا آمن أن يرغّبهم ما بذل لهم جرجير فيقتلونى، فهذا سبب تأخرى» . فقال له ابن الزبير: «أزل هذا من نفسك، وأمر من ينادى فى عسكرك ويسمع الروم: معاشر المسلمين والروم:
من قتل الملك فله ابنته ومائة ألف دينار «3» ، وواحدة بواحدة» .
ففعل ذلك. فلما سمع ملك الروم النداء، انتقل ما كان عبد الله يجده من الخوف إليه. وبقى القتال على ما كان عليه.
فعنّ لعبد الله بن الزبير رأى. فأتى عبد الله بن سعد ليلا وقال له:
«إنى فكّرت فيما نحن فيه فرأيت أمرا يطول والقوم فى بلادهم والزيادة
فيهم والنقصان فينا. وقد اتصل بى أنه نفّذ إلى جميع نواحيه بالحشد والجمع. وقد رأيت أصحابه إذا سمعوا الأذان أغمدوا سيوفهم ورجعوا إلى مضاربهم، وكذلك المسلمون، جريا على العادة. والرأى عندى أن تترك غدا إن شاء الله أبطال المسلمين فى خيامهم بخيلهم وعددهم، وتقاتل ببقايا الناس على العادة، وتطوّل فى القتال حتى تتعب القوم.
فإذا انصرفوا ورجع كلّ «1» إلى مضربه وأزال لأمة «2» حربه، يركب المسلمون ويحملون عليهم والقوم على غرة. فعسى الله سبحانه أن يظفرنا بهم وينصرنا عليهم، وما النصر إلا من عند الله» . فلما سمع عبد الله بن سعد ذلك، أحضر عبد الله بن عباس وإخوته والصحابة ورؤوس القبائل، وعرض عليهم ما أشار به ابن الزبير فاستصوبوا رأيه واستخاروا الله. وكتموا أمرهم وباتوا على تعبئة.
ولجئوا إلى الله تعالى وسمحوا بنفوسهم «3» فى إعزاز دين الله وإظهار كلمته.
وأصبح أبطال الإسلام فى خيامهم «4» ، وخيولهم قائمة معهم فى الخيام. وخرج لفيف الناس إلى القتال، ومعهم عبد الله بن سعد وابن الزبير، فقاتلوا أشد قتال «5» وكان يوما حارا فلقى الفريقان فيه التعب العظيم. وركب ملك الروم ومعه الصليب، وكان متوجا عندهم، عظيم القدر فيهم. وحرض أصحابه على القتال. فاشتد
الأمر فى القتال حتى أذّن الظهر «1» فهم الروم بالانصراف جريا على على العادة. فداوم ابن الزبير القتال ساعة أخرى. فاشتد الحر وعظم الخطب حتى لم يبق لأحد من الفريقين طاقة بحمل السلاح فضلا عن القتال به. فعند ذلك رجعوا «2» إلى خيامهم، ووضعوا أسلحتهم، وسيّبوا خيولهم وألقوا أنفسهم على فرشهم.
فاستنهض عبد الله أبطال المسلمين. فلبسوا دروعهم وركبوا خيولهم فى خيامهم. وتقدم عبد الله بن الزبير فى زى رسول، وقد لبس ثوبا فوق درعه. وقال:«إذا رأيتمونى قد قربت من خيام الروم فاحملوا حملة رجل واحد» . فلما قرب من الخيام كبر المسلمون وهلّلوا، وحملوا فأعجلوا الروم عن لبس دروعهم أو ركوب خيولهم. فانهزمت الروم، وقتل ملكهم، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة وهرب من سلم منهم إلى المدينة، وغنم المسلمون ما فى معسكرهم.
وأسرت ابنة الملك وأتى بها إلى عبد الله بن سعد. فسألها «3» عن أبيها.
قالت: «قتل» . قال: «أتعرفين قاتله؟» قالت: «نعم، إذا رأيته عرفته» . وكان كثير من المسلمين ادعوا قتله. فعرض عليها من ادعى قتله «4» . فقالت: «ما من هؤلاء من قتله» . فأحضر ابن الزبير. فلما أقبل، قالت:«هذا قاتل أبى» . فقال له ابن سعد:
«ما منعك أن تعلمنا بذلك لنفى لك بما شرطناه؟» فقال:
«أصلحك الله! ما قتلته لما شرطت، والذى قتلته له يعلم ويجازى
عليه أفضل من جزائك، ولا حاجة لى فى غير ذلك» . فنفّله ابن سعد ابنة الملك، فيقال إن ابن الزبير اتخذها أم ولد «1» .
ثم نزل المسلمون على المدينة، وحاصروها حصارا شديدا حتى فتحها الله عليهم. فأصابوا فيها خلقا كثيرا، وأكثر أموالهم الذهب والفضة. فجمع عبد الله بن سعد الغنائم وقسمها بعد أن خمسها.
فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار «2» .
وبثّ السرايا والغارات من مدينة سبيطلة فبلغت خيوله إلى قصور قفصة. فسبوا وغنموا. وجازوا إلى مرمجنّة «3» .
فأذلت تلك الوقعة من بقى من الروم. وأصابهم رعب شديد فلجئوا إلى الحصون والقلاع. واجتمع أكثرهم بفحص الأجم «4» حول الحصن، وهو من أعظم حصون إفريقية. وراسلوا عبد الله بن سعد أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار ذهبا «5» على أن يكفّ عنهم ويخرج من بلادهم. فقبل ذلك منهم بعد امتناع. وقيل: إنه صالحهم
على ألفى ألف وخمسمائة ألف «1» . وقبض المال. وكان فى شرط.
صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهولهم، وما أصابوه بعد التّرداد «2» ردوه عليهم.
ودعا عبد الله بن سعد عبد الله بن الزبير وقال: «ما أحد أحقّ بالبشارة منك، فامض وبشّر عثمان والمسلمين بما أفاء الله تعالى عليهم» .
فتوجه عبد الله يجدّ المسير. فبعض الناس يقول: دخل المدينة من سبيطلة فى عشرين ليلة، وبعضهم يقول: وافى المدينة يوم أربعة وعشرين «3» ، ولا يستغرب ذلك من مثله. فلما وصل المدينة أمره عثمان أن يصعد المنبر فيعلم الناس بما فتح الله عليهم. فبلغ الزبير. فجاء إلى المسجد ونال من عثمان بكلمات، وقال:«بلغ من عبد الله بن الزبير أن يرقى موضعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأه بقدمه! وددت والله أنّى متّ قبل هذا» ! وقيل: إنّ عبد الله لم يرق المنبر، وإنما وقف بإزائه وخطب، وعثمان على المنبر جالسا.
قال: وكان فعل عبد الله بن الزبير فى القتال بإفريقية كفعل خالد ابن الوليد بالشام، وعمرو بن العاص بمصر، رضى الله عنهم أجمعين.
قال: ثم انصرف عبد الله بن سعد إلى مصر إثر سفر ابن الزبير.