الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم فى أضيق حال. فتقاسموا هذه الغنائم على ما قرروه بينهم إلا الطبول والبوقات والفازات بأبغالها «1» ، فإنهم حملوها إلى تميم.
فردها ولم يقبلها، فعزّ ذلك على العرب وقالوا:«نحن خدمك بين يديك» فقال: «ما فعلت هذا انتقاصا بكم وإنما المانع منه أننى لا أرضى أخذ سلب ابن عمى» . وظهر عليه من الحزن بقوة العرب ما لم يوصف.
ذكر بناء مدينة بجاية والسبب فيه
قال: ولما كانت هذه الواقعة بين بنى حماد والعرب، وبلغ الناصر ما نال ابن عمه تميم من الألم والحزن، وكان وزيره أبو بكر بن أبى الفتوح محبا فى دولة تميم، فقال «2» للناصر:«يا مولاى، ألم أشر عليك ألا تقصد ابن عمك، وأن تتفقا على العرب. فلو اتفقتما لأخرجتما العرب» . فصدقه الناصر ورجع إلى قوله، وقال له:
«أصلح ذات بيننا» . فأرسل الوزير رسولا من عنده إلى تميم يعتذر ويرغب فى الإصلاح. فقبل تميم قوله.
وأراد أن يرسل رسولا إلى الناصر، فاستشار أصحابه. فاتفقوا على إرسال محمد بن البعبع، وقالوا:«هذا رجل غريب، قد شمله إحسانك وبرك، وقد اقتنى من إنعامك الأموال والأملاك، وهو لا يعرف صنهاجة. فما يصلح لهذا الأمر سواه» . فأحضر تميم محمد بن
البعبع وأمر له بعبيد وخيل وكسا ودنانير. وأوصاه وأرسله وأجاز الرسول الواصل.
وخرجا معا إلى أن وصلا إلى بجاية، وهى حينئذ منزل ينزله رعية البربر. فنظرها ابن البعبع وتأملها، وقال فى نفسه:«هذا المكان يصلح مدينة ومرسى وصناعة للسفن» . وتمادى إلى أن وصل إلى القلعة ودخل على الناصر، وقد علم ابن البعبع أن الوزير محب فى دولة تميم.
فلما انبسط ودفع المكاتبة، قال للناصر:«يا مولاى، معى وصية إليك فأحب أن يخلى المجلس» . فقال الناصر: «ليس هنا إلا الوزير، وأنا لا أخفى عنه أمرا» . فقال: «بهذا أمرنى «1» سيدنا تميم» . فقال الناصر لوزيره: «انصرف» . فلما خرج، قال محمد للناصر: «يا مولاى، إن الوزير مخامر عليك مع تميم، وهو لا يخفى عنه من أمورك شيئا، وتميم مشغول مع عبيده النصارى.
قد «2» استبد بهم واطرح صنهاجة وتلكاتة وجميع القبائل. فو الله، لو وصلت بعسكر إلى المهدية ما بتّ إلا فيها لبغض الأجناد والرعية فى تميم، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها. وقد عبرت الآن ببجاية فرأيت فيها مرافق من صناعة وميناء وجميع ما يصلح لبناء مدينة. فاجعلها لك مدينة، يكون فيها دار ملكك وتقرب من جميع بلاد إفريقية. وأنا أنتقل إليك بأهلى وولدى، وأترك مالى بالمهدية من الرياع، وأخدمك حق الخدمة» . فأجابه الناصر إلى ذلك واستراب من وزيره.
وخرج الناصر من ساعته ومعه ابن البعبع إلى بجاية، وترك الوزير بالقلعة. فوصلا إليها. ورسم ابن البعبع المدينة والصناعة والميناء وموضع القصر واللؤلؤة. وأمر الناصر من ساعته «1» بالبناء والعمل.
وشكره وأثنى عليه، وعاهده على وزارته. ورجعا جميعا إلى القلعة.
وأحضر الوزير وقال: «هذا محب لدولتنا ناصح فى خدمتنا.
وقد أشار علينا ببناء بجاية. وعزم على الانتقال إلينا «2» بالأهل والولد. فاكتب له جواب كتبه إلى تميم» . وأمر له بألف دينار، وأربع وصائف، وأربع بغال من مراكبه.
وسار ابن البعبع فوصل إلى المهدية بكتب ناقصة وصلة تامة.
فاستراب به تميم. وسأله عن بناء بجاية وسببه، فقال:«يا مولاى، مالى بهذا علم. أنا رجل غريب» . فتحقق تميم أنه الذى أشار عليه ببنائها. وخرج ابن البعبع إلى داره خائفا وجلا.
وكان لما فارق الناصر سأله أن ينفّذ معه رجلا من ثقاته ينفذ معه ما يعاين من الأخبار. فنفّذ معه رجلا. فلما خرج إلى داره كتب إلى الناصر: «إننى لما وصلت إلى تميم لم يسألنى عن شىء قبل سؤاله عن أمر بجاية، إنه قد وقع على قلبه منها أمر عظيم. وقد اتهمنى فانظر من تثق به من العرب ممن يصل «3» إلى أولاد عكابش، فإننى خارج إليهم مسرعا، وقد عاهدتهم «4» على ذلك «5» . فتنفذ من بنى هلال
من تثق به. وقد أوثقت شيوخ زويلة وغيرها على طاعتك. فالله الله أسرع إلى بمن ذكرت» .
قال: فمضى الرسول بالكتاب فقرأه الناصر وأوقف الوزير أبا بكر عليه. فاستحسن الوزير ذلك منه وقال: «لقد خدم هذا الرجل ونصح» . فقال الناصر: «خذ الكتاب إليك، وجاوب الرجل عنه، وانظر فى إنفاذ العرب إليه قولا وفعلا، ولا تؤخر ذلك عنه» . فمضى الوزير إلى داره وكتب نسخة كتاب ابن البعبع، وحكاها حتى كأنها هى، خشية أن يسأله الناصر عن الكتاب بعد ذلك.
وأنفذ كتابه الذى بخطه إلى تميم وكتب كتابا منه يصف الحال من أوله إلى آخره.
فلما وقف تميم على ذلك، عجب منه وبقى يتوقع له ما يأخذه به.
وجعل عليه من يحرسه فى ليله «1» ونهاره من حيث لا يشعر. فأتاه بعض الحرس وأخبره أن ابن البعبع صنع طعاما وأحضر عنده الشريف الفهرى- وكان هذا الشريف من خواص تميم- فلما أصبح استدعاه تميم. فحضر وقال: «يا مولاى، ما كنت إلا واصلا إليك» .
وحدثه أن محمد بن البعبع دعانى وقال لى: «أنا فى ذمامك وحسبك، أحب أن تعرفنى من أين أخرج من المهدية «2» ، فأنت أعرف الناس بذلك» . فقلت له:«ولم تفعل ذلك، وأنت فى هذه المنزلة الكبيرة مع مولانا تميم؟» فقال: «إنه اتهمنى أننى أشرت على الناصر ببناء بجاية، وقد خفت» . فقلت له: «يا أبا عبد الله،
إن كنت سالما من قول قلته أو أمر أبرمته فلا تبال، فسيدنا تميم رجل رؤوف لا يؤاخذ بقول ولا بظن» . فقال لى:«دعنى فلا قدرة لى على المقام» . فقلت له: «أنا أنظر فى هذا الأمر بالغداة إن شاء الله وأعرفك بمن تثق به من العرب» . فأخذ يدى على ذلك.
قال: فأخرج تميم كتاب ابن البعبع الذى بخطه إلى الناصر وأوقف الشريف عليه. ثم قال له: «أحضره إلى» . فمضى الشريف إليه وقال له: «سيدنا تميم أمر بحضورك معى ولا يكون إلا خيرا» فلبس ثيابه وخرجا. فلقيهما ماضى بن عكابش فقال له: «يا أبا عبد الله، الهلاليون قد وصلوا إلينا البارحة، وهذه كتب قد وصلت إليك منهم» «1» . فتناولها الشريف من يده فقال له ابن البعبع:
«استر على ستر الله عليك» . وسأله. فدخلا القصر وابن البعبع يسأله فيها. فقال: «خذها فو الله ما ينفعك أخذها» . فتناولها.
وخرج تميم إليهما فجزع ابن البعبع حتى سقطت الكتب من يده وإذا عنوان أحدها: «من الناصر بن علناس إلى شيخنا وخليلنا» فقال له تميم: «من أين هذه الكتب؟» فسكت. فقرأها تميم فوجد فيها الحجة عليه. فقال ابن البعبع: «العفو يا مولانا» . فقال «لا عفا الله عنك؟» وأمر بضرب عنقه وتغريق جثته «2» .