الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى أيامه قوى أمر أبى عبد الله الشيعى، وكان قد ظهر فى أيام جده إبراهيم بن أحمد، فاستفحل الآن أمره. وكثرت أتباعه، واشتدت وطأته. ففارق زيادة الله تونس إلى رقادة ونزلها خوفا من الشيعى أن يخالفه إليها. ولما نزلها زيادة الله عمر سورها، فلم يغن ذلك عنه شيئا لأن الشيعى لما قوى أمره بكتامة، انضمت إليه القبائل واجتمعت له الرجال، وهزم جيوش زيادة الله مرة بعد أخرى وقتل جموعه.
واستولى على البلاد: فبدأ بميلة ثم بمدينة سطيف ثم غلب على البلاد والمدن بلدا بلدا ومدينة مدينة، إلى أن غلب على مدينة الأربس، وهزم إبراهيم بن أبى الأغلب «1» . وكان زيادة الله قد جهزه لقتاله فى جيوش عظيمة، وهو آخر جيش جهزه زيادة الله. فهزمه الشيعى، وذلك فى جمادى الآخرة سنة ست وتسعين «2» ومائتين، على ما نذكره إن شاء الله مبينا فى أخبار الدولة العبيدية المنسوبة للعلوية.
ذكر انهزام زيادة الله الى المشرق وانقراض دولة بنى الأغلب
قال: ولما بلغت هزيمة إبراهيم بن الأغلب زيادة الله- وكان هذا الجمع آخر جمع جمعه- فتّ ذلك فى عضده. وكان برقادة فأظهر أنه أتاه الفتح وأرسل إلى السجون فأتى برجال منها. فضرب أعناقهم وأمر أن يطاف برؤوسهم فى القيروان والقصر القديم.
وأخذ في حمل «1» أثقاله وأمواله. وأرسل إلى خاصة رجاله وأهل بيته يعرّفهم الحال وأنذرهم بالخروج معه. فأشار عليه وزيره ابن الصائغ بالمقام. وقال له: «العساكر تجتمع إليك، فأخرج العطاء يأتيك الناس. والشيعى لا يجسر أن يقدم عليك» . وشجعه وقواه وذكّره بحروب جده زيادة الله، فلم يرجع إلى قوله. فلما ألح عليه ابن الصائع، قال له زيادة الله: «هذا يصدق ما قيل عنك:
إنك كاتبت الشيعى وأردت أن تمكنه منى» . فتبرأ من ذلك وأمسك عنه.
وأخذ زيادة الله فى شد الأموال والجواهر والسلاح وما خف من الأمتعة النفيسة، وفعل رجاله كذلك واتعدوا إلى الليل. ثم انتخب زيادة الله من عبيده الصقالبة ألف خادم وجعل على وسط كل خادم ألف دينار. وحمل من يعز عليه من جواريه وأمهات أولاده.
ولما عزم على الرحيل، قامت إليه جارية من قيانه، وأخذت العود واندفعت تغنى:
لم أنس يوم الرحيل موقفها
…
وجفنها فى دموعها غرق «2»
وقولها، والركاب سائرة
…
تتركنى سيدي وتنطلق «3»
فدمعت عيناه وأمر بحط حمل مال عن بغل وحملها عليه «1» .
وكانت الهزيمة بلغته بعد صلاة العصر، فما أذّن مؤذن العشاء الآخرة إلا وقد رحل من رقادة «2» . واتبعه الناس قوما بعد قوم يهتدون بالمشاعل. وأخذ طريق مصر.
وخرج عبد الله بن الصائغ بعده بثقله وحشمه وأمواله. فقصد جهة لمطة، وقد كان أعد هناك مركبا لنفسه، ليركب فيه إلى صقلية ويفارق زيادة الله خوفا على نفسه من رجاله أن يحملوه على قتله، لأنه كان معاديا لأكثرهم ورموه بمكاتبة الشيعى؛ ولم يكن كذلك.
قال: ولما علم الناس بهروب زيادة الله، أسرعوا إلى رقادة، وانتهبوا ما فيها، واحتووا على قصور زيادة الله، حتى صاروا إلى البحث عن المطامير وانتزاع حديد الأبواب وحمل الأسرّة ونقل الماعون.
وأقاموا على ذلك ستة أيام، حتى تراءت خيل الشيعى. وتخلف عن زيادة الله كثير من رجاله وعبيده وأصحاب الدواوين، فافترقوا فى البلدان.
وأما إبراهيم بن أبى الأغلب، فإنه وافى القيروان فى جماعة من انضم إليه. فلما علموا بهروب زيادة الله، تفرقوا عنه وقصد كل قوم إلى ناحيتهم. وقصد إبراهيم دار الامارة فنزل بها. ونادى مناديه بالأمان، وسكّن الناس. وأرسل إلى الفقهاء ووجوه أهل القيروان، فاجتمع على بابه خلق كثير وسلموا عليه بالإمارة. فذكر لهم أحوال
زيادة الله، وما كان عليه من سوء الحال، وأن ذلك أخل بدولته وأجلب عدوه وسلبه ملكه. وذكر الشيعى وكتامة وشنّع عليهم أقبح الأشانيع. وطلب من الناس الإعانة. وقال:«إنما قصدت المجاهدة عن حريمكم ودمائكم وأموالكم، فأعينونى على ذلك بالسمع والطاعة، وأمدونى بأموالكم ورجالكم، وادفعوا عن حريمكم ومهجكم» . فقالوا:
فراجعهم فى ذلك وراجعوه، حتى قال لهم:«فانظروا ما كان فى أيديكم من أموال الأحباس والودائع فأعطونى ذلك سلفا، فأنادى بالعطاء فيجتمع إلى الناس» . قالوا: «وما يغنى عنك ذلك، ولو مددت يدك إليها لأنكر الناس عليك» .
فلما يئس منهم صرفهم والناس مجتمعون حول دار الإمارة لا يعلمون ما كان الكلام. فلما خرجوا أخبروهم بما كانوا فيه. فصاحوا به: «اخرج عنا، فما لنا بك من حاجة، ولا نسمع ولا نطيع لك» .
وجلب الغوغاء وصاحوا به وشتموه. فلما سمع ذلك، وثب من كان «2» معه فى سلاحهم واقتحموا الباب. فهرب من كان على الباب.
ومضوا يركضون دوابهم، والناس يركضون وراءهم ويرجمونهم