الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجىء مماليك أمير المسلمين إليهم ثم خافوا على نفوسهم فامتنعوا فى الجبل وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم منه.
فقويت عند ذلك نفس المهدى ثم أرسل أمير المسلمين جيشا كثيفا. فحصرهم فى الجبل وضيق عليهم ومنع عنهم الميرة. فقلّت الأقوات عند أصحابه، فكان يطبخ لهم الحساء فى كل يوم، وجعل قوت الرجل منهم أن يغمس يده فى ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها فهو قوته فى ذلك اليوم.
فاجتمع أهل تينمل وأرادوا إصلاح حالهم مع أمير المسلمين فبلغه ذلك فأعمل «1» من الحيلة عليهم ما نذكره.
ذكر خبر أبى عبد الله الونشريسى
«2»
قال: كان مع المهدى إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريسى، وهو يظهر الوله «3» وعدم المعرفة بشىء من العلم والقرآن، وبصاقه يجرى على صدره، وهو كالمعتوه، والمهدى يقربه ويكرمه ويقول:«إن لله سرا فى هذا الرجل سوف يظهر» .
هذا والونشريسى يشتغل بالقرآن والعلم فى السر بحيث لا يعلم به أحد.
فلما كان فى سنة تسع عشرة وخمسمائة، خاف «4»
المهدى من أهل الجبل. فخرج يوما لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانا طيب الرائحة، فأظهر أنه لا يعرفه وقال:«من هذا؟» قال: «أنا أبو عبد الله الونشريسى» . فقال له المهدى: «إن أمرك لعجيب» . ثم صلى. فلما فرغ من صلاته نادى فى الجبل. فاجتمع الناس وحضروا إليه. فقال لهم:
«إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريسى، فانظروه وحققوا أمره» .
فلما أضاء النهار عرفوه. فقال له المهدى: «ما قصتك؟» قال: «إننى أتانى الليلة ملك من السماء، فغسل قلبى، وعلمنى القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث» . فبكى المهدى بحضرة الناس ثم قال: «نمتحنك؟» فقال: «افعل» .
وابتدأ بقراءة القرآن فقرأه قراءة حسنة من أى موضع سئل.
وكذلك الموطأ وغيره وكتب الفقه والعلوم والأصول. فعجب الناس من ذلك واستعظموه.
فسار المهدى والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر. ووقف عند رأسها وصلى وقال: «يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله قد زعم كيت وكيت» . فسمع من أسفل البئر: «صدق، صدق» وكان قد رتب بها رجالا يفعلون ذلك. فلما تكلموا قال المهدى: «إن هذه البئر بئر مطهّرة مقدّسة قد نزل إليها
الملائكة، والمصلحة أن تطمّ «1» لئلا يقع فيها نجاسة» .
فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها.
ثم نادى فى الجبل بالحضور للتمييز ومعناه العرض. فكان الونشريسى يعمد إلى الرجل الذى تخاف ناحيته فيقول: «هذا من أهل النار» . فيلقى من الجبل، وإلى الشاب الغر ومن لا يخشاه فيقول:«هذا من أهل الجنة» . فيترك عن يمينه.
فكانت عدة القتلى سبعين ألفا. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه. هذا هو المشهور عنه فى التمييز.
وقيل إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد فى الجبل أحضر شيوخ القبائل وقال لهم: «إنكم لا يصلح لكم دين ولا تقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإخراج المفسدين من بينكم، فابحثوا عن كل من عندكم من أهل الشر والفساد فانهوهم، فإن انتهوا وإلا فأثبتوا أسماءهم وارفعوها إلىّ لأنظر فى أمرهم.
ففعلوا ذلك وكتبوا له «2» أسماء المفسدين من كل قبيلة.
ثم أمرهم بذلك مرة ثانية «3» وثالثة. ثم جمع أوراقهم وأخذ منها ما تكرر من الأسماء «4» وأثبته عنده. ودفع ذلك إلى الونشريسى المعروف بالبشير. وأمره أن يعرض
القبائل، وأن يجعل أولئك من جهة الشمال، ومن عداهم فى جهة اليمين، ففعل ذلك. وأمر المهدى أن يكتف من على شمال الونشريسى فكتّفوا. ثم قال:«إن هؤلاء أشقياؤكم قد وجب قتلهم» . وأمر كل قبيلة بقتل أشقيائها.
فقتلوا عن آخرهم.
قال: ولما فرغ من التمييز رأى من بقى من أصحابه على نيات خالصة وقلوب متفقة على طاعته. فجهز جيشا وسيّرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع كبير «1» من المرابطين. فقاتلوهم فانهزم أصحاب ابن تومرت «2» ، وكان أميرهم الونشريسى. وقتل كثير منهم. وجرح عمر أنتات «3» وهو الهنتاتى، وكان من أكبر أصحاب المهدى وسكن حسّه ونبضه. فقالوا:«مات» . فقال الونشريسى:
«لم يمت ولا يموت حتى يملك البلاد» . فبعد ساعة فتح عينيه وعادت قوته إليه. فافتتنوا به ورجعوا إلى ابن تومرت فوعظهم وشكر صبرهم.
ثم لم يزل بعد ذلك يرسل السرايا فى أطراف البلاد فإذا رأوا عسكرا تعلقوا بالجبل فأمنوا على أنفسهم.
وعلا أمر المهدى فرتب أصحابه على طبقات.