الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معه فتوجهوا نحو القيروان. فلما صاروا بوادى القصارين قال لهم حفص: «قد يئسنا من المخلوقين فلا نيأس من الخالق» .
فسألوا الله وتضرعوا إليه، فدعوا الله على أبى العباس أن يمنعه مما أراده بالمسلمين ويكف جوره عنهم. ثم دخلوا «1» مدينه القيروان، فخرجت لأبى العباس قرحة تحت أذنه فقتلته فى اليوم السابع «2» من دعائهم واسود لونه. وكانت وفاته ليلة الجمعة لست خلون من ذى الحجة «3» سنة إحدى ومائتين.
فكانت مدة ولايته خمس سنين وشهرا واحدا وأربعة عشر يوما.
ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله ابن ابراهيم بن الأغلب
قال: ولما توفى أخوه أبو العباس صار الأمر إليه بعده. وهو أول من سمّى زيادة الله. وكذلك هبة الله بن إبراهيم بن المهدى، هو أول من سمى هبة الله.
قال: ولما ولى زيادة الله أغلظ على الجند، وأمعن فى سفك دمائهم، واستخف بهم، وحمله على ذلك سوء ظنه بهم لتوثّبهم على الأمراء قبله وخلافهم على أبيه مع عمران بن مجالد. وكان أبوه أغضى عن كثير من زلاتهم وصفح عن إساآتهم فسلك زيادة الله
فيهم غير سبيل أبيه. وكان أكثر سفكه وسوء فعله إذا شرب وسكر. فخرجوا عليه. وكان الذى هاجهم على الخروج عليه أنه ولى عمر «1» بن معاوية القيسى، وكان من شجعان الجند ورؤسائهم وأهل الشرف منهم، على القصرين وما يليهما. فتغلب على تلك الناحية وأظهر الخلاف عليه. وكان له ولدان يقال لأحدهما حباب والآخر سكنان «2» . فوجه إليه زيادة الله موسى مولى إبراهيم المعروف بأبى هارون، وكان قد ولاه القيروان.
فخرج إليه وحاصره أياما. فلما ضاق به الأمر ألقى بيده ونزل معه. وسار إلى زيادة الله هو وولداه. فلما قدموا عليه حبسهم عند غلبون ابن عمه. ثم نقلهم إلى حبسه من يومه وقتلهم.
فلما بلغ منصور بن نصر الطّنبذى «3» وهو من ولد دريد «4» ابن الصّمّة ذلك ساءه، وكان على طرابلس. فقال:«يا بنى تميم، لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد» . فكتب صاحب الخبر بكلامه إلى زيادة الله. فعزله واستقدمه، فقدم.
وكان غلبون معتنيا به فأصلح أمره عند الأمير زيادة الله، فخلى عنه. فأقام أياما يتردد إلى زيادة الله حتى ذهب ما بقلبه عليه. ثم استأذنه فى الوصول إلى منزله فأذن له. فخرج إلى تونس، وكان له بإقليم المحمدية قصر يقال له طنبذة، وبه لقب الطنبذى،
فنزل به. وجعل يراسل الجند ويذكر لهم ما يلقون من زيادة الله وما فعل بعمر بن معاوية وابنيه، ويخوفهم أن يفعل بهم وبأولادهم كفعله بعمر.
فبلغ ذلك زيادة الله فعرض الجند على عادته. ثم دعا محمد ابن حمزة فأخرجه فى خمسمائة «1» فارس بالسلاح كما عرضوا بين يديه. وقال له: «امض إلى تونس فلا يشعر منصور إلا وقد أخذته ومن معه، واقدم به موثقا» . فخرج ابن حمزة حتى أتى تونس فلقى منصورا غائبا بقصره، فنزل فى دار الصناعة «2» .
ووجه إى منصور شجرة بن عيسى القاضى وأربعين شيخا من أهل تونس، يرغبه فى الطاعة ويدعوه «3» إلى إتيانه.
فمضوا إليه وأبلغوه رسالة محمد بن حمزة فقال: «ما خلعت يدا من طاعة، ولا أحدثت حدثا، وأنا صائر إليه معكم. ولكن أقيموا علىّ يومى هذا حتى أعدّ لهولاء القوم ما يصلحهم» .
فأقاموا. فوجه إلى ابن حمزة ببقر وغنم وعلف وأحمال نبيذ.
وكتب إليه: «إنى قادم بالغداة مع القاضى» . فركن إلى قوله، وأخذ هو ومن معه فى الأكل والشرب.
فلما أمسى منصور قبض على القاضى ومن معه، وحبسهم فى قصره. وجمع خيله ورجله ومضى إلى تونس. فما شعر به محمد بن حمزة حتى ضرب طبوله على باب دار الصناعة. فقام
ابن حمزة وأصحابه لأخذ سلاحهم وقد عمل الشراب فيهم.
فأوقع بهم منصور وأصحابه فقتلهم. ولم يسلم منهم إلا من ألقى نفسه فى البحر فسبح. وأصبح منصور، فاجتمع إليه الجند. وكان عامل زيادة الله على تونس إسماعيل بن سفيان ابن سالم «1» من أهل بيت زيادة الله، فقتله منصور وقتل ابنه.
فلما اتصل بزيادة الله قتل ابن عمه وولده ورجاله، جمع صناديد الجند، ووجّههم مع غلبون. وركب بنفسه مشيّعا له.
فلما ودع الجند قال لهم زيادة الله: «انظروا كيف تكونون وكيف تناصحون. فبالله أقسم إن انصرف إلىّ أحد «2» منكم منهزما لا جعلت عقوبته إلا السيف» . فكان ذلك مما ساءت به نفوس القوم حتى هموا بالوثوب على غلبون. فمنعهم من ذلك جعفر بن معبد وقال: «لا تحملكم إساءة زيادة الله فيكم أن تغدروا بمن أحسن إليكم وفك رقابكم» . وكان غلبون يعتنى بأمر القواد عند زيادة الله. فانصرفوا عن رأيهم فيه ومضوا حتى صاروا بسبخة تونس. فكاتب القواد الذين مع غلبون منصورا وأصحابه وأعلموهم أنهم منهزمون عنه. فلما التقوا حمل منصور وأصحابه عليهم فانهزموا بأجمعهم. ثم اجتمعوا بعد الهزيمة إلى غلبون واعتذروا وحلفوا أنهم ناصحون واجتهدوا. وقالوا: «نحن لا نأمن على أنفسنا. وإن أصبت لنا ما نأمن به قدمنا إن شاء الله» . وتفرقوا
عنه. وسار كل «1» منهم إلى جهة فتغلب عليها. واضطربت إفريقية فصارت نارا تتّقد.
وصار الجند كلهم إلى منصور الطنبذى، وأعطوه أزمة أمورهم، وولوه على أنفسهم. وقدم غلبون على زيادة الله فأعلمه الخبر.
فكتب الأمانات وبعث بها إلى الجند والقواد. فلم يقبلوها وخلعوا الطاعة.
ثم جمعوا جمعا ووجه عليهم منصور عامر بن نافع. فعقد زيادة الله لمحمد بن عبد الله بن الأغلب، ووجه معه جيشا كثيفا وأوعب فيه من رجاله ومواليه. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم محمد ابن عبد الله وقتل جماعة من وجوه أصحابه، منهم محمد بن غلبون، وعبد الله بن الأغلب، ومحمد بن حمزة الرازى، وغيرهم، وقتلت الرّجالة عن آخرهم. وتتبع الجند أصحاب زيادة الله فقتلوهم.
فعند ذلك زحف زيادة الله بنفسه ونزل بين القيروان «2» والقصر وخندق هناك. وكانت بينهم وقعات كثيرة تارة لهؤلاء وتارة لأولئك. ثم انهزم منصور ومن معه حتى لحقوا بتونس. وكان أهل القيروان أعانوا منصورا على قتال زيادة الله، فقال له أصحابه «ابدأ بها واقتل من فيها» . فقال: «إنى عاهدت الله تعالى إن
ظفرت أن أعفو وأصفح «1» » . فعفا عنهم إلا أنه هدم سور القيروان ونزع أبوابها.
قال: ثم اجتمع لمنصور أصحابه وقوى أمره. ولم يبق فى يد زيادة الله من إفريقية كلها إلا الساحل وقابس «2» . فكتب الجند إلى زيادة الله: «أن ارحل حيث شئت وخلّ عن إفريقية، ولك الأمان فى نفسك ومالك وما ضمه قصرك» . فاستشار أصحابه فى ذلك. فقال له سفيان بن سوادة: «أيها الأمير، أمكّنى من ديوان رجالك حتى أنتقى مائتى فارس ممن أثق به» . فدفع إليه الديوان فاختار منه «3» مائتى فارس «4» ، وأعطاهم وأفضل عليهم «5» ثم خرج حتى أتى نفزاوة وعليها من الجند عبد الصمد بن جناح الباهلى. فدعا سفيان بربر ذلك الموضع فأجابوه. فاجتمع إليه خلق كثير من زناتة وغيرهم وسائر القبائل. ففتح البلاد بلدا بلدا حتى بلغ قسطيلية. ثم قدم على زيادة الله فى سنة ثمانى عشرة ومائتين. فكان سعيد «6» يقول:«والله، ما رأيت أعظم بركة من تلك المائتى فارس» .
ووقع الشتات والحسد بين الجند. ووقع الخلاف بين منصور وعامر بن نافع. فحاصره عامر بقصره بطنبذة. فجرت بينهما السفراء على أن يؤمن منصورا على نفسه وماله وحشمه «1» ، ويركب سفينة «2» فيتوجه فيها إلى المشرق، فأجابه عامر إلى ذلك. فقال له بعض أصحابه:«تفعل ذلك بنفسك ويسومك الضيم؟ انهض إلى الأربس فإنهم سامعون مطيعون» . فوافق على ذلك وخرج من القصر ليلا وسار إلى الأربس. فلما أصبح عامر لم يره بقصره، فسار فى إثره إلى الأربس وحاصره. وآخر الأمر أنه عاد سأل «3» الأمان على أن يتوجه إلى المشرق ويركب فى سفينة من تونس. وخرج إلى عامر فوجه معه خيلا. وأمر صاحب الخيل أن يأخذ به على طريق قرنة «4» وأن يصيّره فى سجنها. ففعل ذلك وحبسه بها عند حمديس بن عامر «5» . ثم كتب عامر إلى ابنه أن يضرب عنقه ففعل. وضرب عامر عنق أخى منصور.
وصار أمر الجند إلى عامر بن نافع فظن أن الأمور تستقيم له.
فكتب إليه زيادة الله كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان.
فكتب إليه عامر يعدد عليه مساوئ أفعاله، ويقول فى آخره:
«ما بينى وبينك موادّة حتى تضع الحرب أوزارها ويحكم الله
بيننا وهو خير الحاكمين» . ثم اختلف الجند على عامر، وانتقض عليه أمره، ووجد عليه قواد المضرية، لما صنع بمنصور وأخيه، فنافروه وحاربوه. وخالفه عبد السلام بن المفرّج «1» ، وكان قد استولى على باجة وبايع له جماعة من الجند. وزحف إلى عامر فاقتتلوا، فانهزم عامر، ومضى إلى قرنة، وتفرق شمل الجند وأمر زيادة الله يعلو.
ثم اعتل عامر فلما أيقن بالموت استدعى بنيه وقال لهم:
«يا بنى، ما رأيت فى الخلاف خيرا. فإذا أنا مت ودفنتمونى فلا تعرّجوا على شى حتى تلحقوا بزيادة الله، فهو من أهل بيت عفو. وأرجو أن يسركم «2» ويقبلكم أحسن قبول» . فلما مات، فعلوا ذلك وأتوا زيادة الله. وجعل الجند يتسالون «3» إلى زيادة الله ويستأمنون، وهو يؤمنهم ويحسن إليهم.
وأما عبد السلام فقاتلته عساكر زيادة الله وحصروه وضايقوه فوجد ميتا فقيل مات عطشا. فبعثوا برأسه إلى زيادة الله.
واستقامت إفريقية وصفت بعد أن دامت الفتنة ثلاث عشرة سنة.
قال: ثم أمر زيادة الله ببناء المسجد الجامع بالقيروان
وهدم ما كان بناه يزيد بن حاتم، وذلك فى جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين ومائتين. وذكر أن زيادة الله قال يوما لخاصته «إنى لأرجو رحمة الله، وما أرانى إلا أفوز بها إذا قدمت عليه يوم القيامة وقد عملت أربعة أشياء: بنيت المسجد الجامع بالقيروان وأنفقت عليه ستة وثمانين ألف دينار، وبنيت قنطرة باب أبى الربيع، وقصر المرابطين بسوسة، ووليت القضاء أحمد بن أبى محرز» .
وفى أيام زيادة الله فتحت صقلية، وذلك أنه وجه إليها أسد ابن الفرات القاضى فى عشرة آلاف. فزحف إليه ملكها فى مائة وخمسين ألفا. فهزمه وفتحها. واستعمل عليها زيادة الله محمد ابن عبد الله بن الأغلب.
وكانت وفاة زيادة الله فى يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت من شهر رجب سنة ثلاثة وعشرين ومائتين، وهو ابن إحدى وخمسين سنة. وكانت ولايته على إفريقية إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر وثمانية أيام.
وكان من أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم بيانا، وكان يعرب كلامه ولا يلحن من غير تشادق ولا تقعير. وكان يقول الشعر الحسن الجيد.
حكى «1» أن رسولا أتاه من أبى عبد الله المأمون بغير
يحب. فكتب جواب الكتاب وهو سكران، وفى آخره أبياتا، وهى:
أنا النار فى أحجارها مستكنّة
…
فإن كنت ممن يقدح الزّند فاقدح
أنا الليث يحمى غيله بزئيره
…
فإن كنت كلبا حان يومك فانبح
أنا البحر فى أمواجه وعبابه
…
فإن كنت ممن يسبح البحر فاسبح
فلما صحا بعث فى طلب الرسول ففاته. فكتب كتابا آخر فيه تلطف. فوصل الكتاب الأول والثانى. فأعرض المأمون عن الأول وأجاب عن الثانى بكل ما أحب.
وله حكايات حسنة تدل على عفوه وصفحه وحلمه. فمن ذلك أنه بلغ أمّه جلاجل أن أخت عامر بن نافع قالت: «والله لأجعلنّ جلاجل تطبخ لى الفول بيصارا» . فلما ظفر ابنها زيادة الله بالقيروان، أمرت جلاجل بفول فطبخ بيصارا وبعث منه إليها «1» مع بعض خدمها، فوضع بين يديها، وقالت الجارية التى أحضرته إليها:«سيدتى تسلم عليك وتقول لك: قد طبخت هذا لك لأبر قسمك» . فأوحشها ذلك وقالت: «قولى لها: قد قدرت فافعلى ما شئت» . فبلغ ذلك زيادة الله فقال لأمه: «قد ساءنى ما فعلت يا أم، إن الاستطالة
مع القدرة لؤم ودناءة، وقد كان أولى بك أن تفعلى غير هذا» .
قالت: «نعم، سأفعل ما يرضيك ويحسن الأحدوثة عنا» .
وبعثت إليها بكسوة وصلة وألطاف. ورفقت بها حتى قبلت ذلك وطابت نفسها.
ذكر ولاية أبى عقال «1» الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب
قال: ولما توفى زيادة الله ولى أخوه أبو عقال، وهو الملقب بخزر «2» . وكان فى مبدإ ولاية أخيه زيادة الله قد خافه على نفسه لأن الأغلب كان شقيق عبد الله. فخشى أن يطالبه زيادة الله بفعل أخيه فاستأذنه على الحج، فأذن له. فخرج وأخرج معه ابنى أخيه عبد الله، وهما محمد وإبراهيم. فحج وأقام بمصر. ثم كتب إلى زيادة الله «3» يستعطفه ويستميله. فقدم إليه «4» ، فأكرمه وأحسن إليه. وجعل أمور دولته بيده.
فلما مات زيادة الله وصار الأمر إليه، لم يكن فى أيامه حروب فأمن الجند وأحسن إليهم. وغير أحداثا كثيرة كانت للعمال، وأجرى على العمال الأرزاق الواسعة والعطايا الجزيلة. وقبض أيديهم عن أموال الناس، وكفّهم عن أشياء كانوا يتطاولون إليها.
وقطع النبيذ من القيروان.