الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر غزوة الفرنج بالأندلس والوقعة الكبرى والثانية وحصر طليطلة
كانت هذه الغزاة المباركة فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وكان سببها أن الفنش «1» ملك الفرنج صاحب طليطلة كتب إلى أبى يوسف كتابا، نسخته «2» :
«باسمك اللهم، فاطر السموات والأرض.
أما بعد، أيها الأمير، فإنه لا يخفى على ذى عقل لازب، ولا ذى لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية «3» كما أنا أمير الملة النصرانية. وإنك لا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات. وأنا أسومهم سوم الخسف، وأسبى الذرارى، وأخلى الديار، وأمثّل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك فى التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك منهم القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم. والآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، وقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم «4» . ونحن الآن نقاتل عددا منكم
بواحد منا. ولا تقدرون دفاعا ولا تستطيعون امتناعا. ثم حكى لى عنك أنك أخذت فى الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاما بعد عام، تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى. ولا أدرى: الجبن أبطأبك أم التكذيب بما أنزل عليك؟ وحكى لى عنك أنك لا تجد سبيلا إلى جواز «1» البحر لعلة «2» ما يسوغ لك التقحّم بها فها أنا أقول لك ما فيه الراحة وأعتذر عنك. ولك أن توفينى بالعهود والمواثيق والأيمان:
أن توجّه بجملة من عبيدك «3» فى الشوانى والمراكب وأجوز إليك بجملتى. وأبارزك فى أعز الأماكن عندك. فإن كانت لك، فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهدية مثلت بين يديك. وإن كانت لى كانت يدى العليا عليك واستحققت إمارة المسلمين والتقدم على الفئتين.
والله يسهل الإرادة ويقرب السعادة بمنه، ولا رب غيره ولا خير إلا خيره» .
قال: فلما وصل كتابه وقرأه كتب فى أعلاه «4» : «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ
«5» » . وأعاده إليه. وجمع عساكره وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أنه لما صالح الفرنج فى سنة ست وثمانين على ما «6» ذكرناه، بقيت طائفة من الفرنج لم
ترض بالصلح. فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام فقتلوا وسبوا وأسروا وغنموا وعاثوا.
فانتهى ذلك إلى أبى يوسف. فجمع العساكر وعبر إلى الأندلس فى جيش يضيق به الفضاء. وجمعت الفرنج قاصيها ودانيها، وأقبلوا إليه مجدّين واثقين بالظفر لكثرتهم. والتقوا فى تاسع «1» شعبان من السنة شمالى قرطبة عند قلعة رباح بمكان يعرف بمرج الجديد «2» .
واقتتلوا قتالا عظيما. وكانت الحرب فى أولها على المسلمين ثم صارت الدائرة على الفرنج. فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم.
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفا «3» .
وأسر ثلاثة عشر ألفا «4» . وحاز المسلمون من الخيل ستة وأربعين ألفا «5» ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب نادى فى عسكره:«من غنم شيئا فهو له سوى السلاح» .
فأحصى ما حمل إليه، فكان يزيد على سبعين ألف لباس. وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفا. ولما انهزم الفرنج، اتبعهم أبو يوسف
فرآهم قد خلّفوا «1» قلعة رباح وساروا عنها. فملكها «2» وجعل فيها واليا وجندا. وسار إلى مدينة إشبيلية.
وأما الفنش فإنه حلق رأسه، ونكس صلبانه، وركب حمارا، وأقسم ألا يركب فرسا ولا بغلا حتى ينصر النصرانية. فجمع جموعا كثيرة. فبلغ الخبر إلى أبى يوسف، فأرسل إلى مراكش وغيرها من بلاد الغرب «3» يستنفر الناس من غير إكراه. فاجتمع إليه جمع عظيم. فالتقوا فى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة. وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك.
وتوجه أبو يوسف إلى مدينة طليطلة. فحصرها وقاتل من بها قتالا شديدا، وقطع أشجارها.
وشنّ الغارة على ما حولها من البلاد. وفتح عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وهدم أسوارها، وخرب دورها. فضعفت النصرانية حينئذ وعظم أمر الإسلام بالأندلس. وعاد إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، سار إلى الفرنج وفعل مثل فعله الأول والثانى. فذل العدو واجتمعت ماوك الفرنج وراسلوه فى الصلح، فأجابهم إليه بعد امتناع. وكان عزم على أن لا يجيبهم إلى