الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيين فى الدولة الأموية والدولة العباسية فقتل دونها
وذلك بعد مقتل الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما كان أول من رام ذلك منهم فى الدولة الأموية:
زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم وكان ظهوره فى سنة إحدى وعشرين ومائة، وقتل فى سنة اثنتين وعشرين فى أيام هشام بن عبد الملك بن مروان «1» . وقد اختلف فى سبب قيامه وطلبه الخلافة ما هو. فقيل «2» : إن زيدا هذا وداود بن على بن عبد الله بن عباس ومحمد بن عمر بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم قدموا على خالد بن عبد الله القسرى، وهو أمير العراق. فأجازهم وأكرمهم ورجعوا إلى المدينة. فلما ولى
يوسف بن عمر الثّقفى العراق كتب [إلى]«1» هشام بذلك. وذكر له أن خالدا ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم رد الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيّرهم إليه ففعل. فسألهم هشام عن ذلك، فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، وحلفوا فصدقهم. وأمرهم بالمسير إلى العراق، ليقابلوا خالد بن عبد الله. فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدقهم فعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم.
وقيل: بل ادعى خالد القسرى أنه أودع زيدا وداود بن على ونفرا من قريش مالا. فكتب يوسف الثقفى بذلك إلى هشام، فأحضرهم هشام من المدينة، وسيرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد. فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد:«إن خالدا زعم أنه أودعك مالا» . قال: «كيف يودعنى وهو يشتم آبائى على منبره؟» فأرسل إلى خالد فأحضره فى عباءة «2» . فقال: «هذا زيد قد أنكر أنك قد أودعته شيئا» . فنظر خالد إليه وإلى داود، وقال ليوسف:«أتريد أن تجمع مع إثمك فى إثما فى هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر؟» فقال لخالد «3» :
«ما دعاك إلى ما صنعت؟» فقال: «شدّد على العذاب فادّعيت ذلك، وأملت أن يأتى الله بفرج قبل قدومك» . فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة.
وقيل «1» : إن يزيد بن خالد القسرى هو الذى ادعى المال وديعة عند زيد. فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف، استقالوه خوفا من شر يوسف وظلمه. فقال:«أنا أكتب إليه بالكف عنكم» . وألزمهم بذلك، فساروا على كره. فجمع يوسف بينهم وبين يزيد، فقال يزيد:«ليس لى عندهم قليل ولا كثير» .
قال يوسف: «أفبى تهزأ أم بأمير المؤمنين؟» فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه. ثم أمر بالقرشيين فضربوا وترك زيدا. ثم استحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة. وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف:«والله، ما آمن إن بعثتنى إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين «2» أبدا» . قال: «لا بد من المسير إليه» .
وقيل «3» : كان السبب فى ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن «4» بن على فى وقوف «5» على ابن أبى طالب رضى الله عنه؛ زيد يخاصم عن بنى حسين، وجعفر
يخاصم عن بنى حسن. فكانا يتبالغان كل غاية «1» ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا. فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن حسن بن الحسن. فتنازعا يوما بين يدى خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة. فأغلظ عبد الله لزيد وقال: «يابن السندية» فضحك زيد وقال: «قد كان إسماعيل لأمة، ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم تصبر غيرها» . يعنى فاطمة ابنة الحسين أم عبد الله فإنها تزوجت بعد أبيه الحسن. ثم ندم زيد واستحيى من فاطمة وهى عمته، فلم يدخل عليها زمانا. فأرسلت إليه:
«يا ابن أخى إنى لأعلم أن أمك «2» عندك كأم عبد الله عنده» وقالت لعبد الله: «بئس ما قلت لأم زيد، أم والله لنعم دخيلة القوم كانت» .
قال: فذكر أن خالدا قال لهما: «اغدوا علينا غدا. فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما» . فباتت المدينة تغلى كالمراجل يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا. فلما كان من الغد، جلس فى المسجد واجتمع الناس، فمن بين شامت ومهموم. فدعا بهما خالد، وهو يحب أن يتشاتما. فذهب عبد الله يتكلم. فقال زيد:«لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا» ثم أقبل على خالد فقال له: «أجمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما كان يجمعهم عليه
أبو بكر أو عمر؟ «1» فقال خالد: «أما لهذا السفيه أحد؟» فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: «يا ابن أبى تراب، وابن حسين السفيه، أما ترى لوال عليك حقا ولا طاعة؟» فقال زيد «اسكت أيها القحطانى، فإنا لا نجيب مثلك» . قال: «ولم ترغب عنى؟ فو الله إنى لخير منك، وأبى خير من أبيك، وأمى خير من أمك» . فتضاحك زيد وقال: «يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، أفتذهب الأحساب؟ فو الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم» . فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: «كذبت والله أيها القحطانى، فو الله لهو خير منك نفسا وأما وأبا ومحتدا» . وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفا من حصباء فضرب بها الأرض ثم قال:«إنه والله ما لنا على هذا من صبر» . وقام.
وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له فيرفع إليه القصص «2» . فكلما رفع قصة يكتب هشام فى أسفلها «ارجع إلى منزلك «3» » . فيقول زيد: «والله، لا أرجع إلى خالد أبدا» . ثم أذن له يوما بعد طول حبس، ورقى علّية طويلة.
وأمر خادما «4» أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول. فصعد زيد، وكان بادنا، فوقف فى بعض الدرجة فسمعه يقول: «والله،
لا يحب الدنيا أحد إلا ذل» ثم صعد إلى هشام فحلف له على شىء. فقال: «لا أصدقك» فقال: «يا أمير المؤمنين إن الله لم يرفع أحدا عن أن يرضى بالله، ولم يضع أحدا عن أن لا يرضى بذلك منه» فقال هشام: «لقد بلغنى يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها.
ولست هناك وأنت ابن أمة» . قال زيد: «إن لك جوابا» قال: «فتكلم» قال: «إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة من نبى ابتعثه.
وقد كان إسماعيل عليه السلام ابن أمة وأخوه من صريحة. فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر. وما على أحد من ذلك إذا كان جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت أمه» . قال له هشام:
«اخرج» قال: «أخرج ثم لا أكون «1» إلا بحيث تكره» فقال له سالم «2» : «يا أبا الحسين، لا يظهرن هذا منك» .
فخرج من عنده وسار إلى الكوفة. فقال له محمد بن عمر بن أبى طالب: «أذكّرك الله يا زيد، لما لحقت بأهلك، ولا تأت أهل الكوفة فإنهم لا يفون لك» . فلم يقبل وقال: «خرج بنا أسرى على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى تيس ثقيف يلعب بنا» . وقال «3» :
بكرت تخوّفنى الحتوف كأننى
…
أصبحت من غرض الحياة بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
…
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
إن المنية لو تمثّل مثّلت
…
مثلى إذا نزلوا بضيق المنزل
فاقنى حياءك لا أبا لك واعلمى
…
أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل
ثم قال زيد: «أستودعك الله، وإنى أعطى الله عهدا أن [لا] دخلت يدى فى طاعة هؤلاء ما عشت» .
وفارقه وأقبل إلى الكوفة. فأقام بها مستخفيا يتنقل فى المنازل.
وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعة «1» . فيايعه جماعة منهم سلمة ابن كهيل، ونصر بن خزيمة العبسى، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصارى، وناس من وجوه أهل الكوفة. وكانت بيعته:
«إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفىء بين أهله بالسواء، ورد المظالم، وإقفال المجمر «2» ونصرة أهل البيت. أتبايعون على ذلك؟» فإذا قالوا: «نعم» . وضع يده على أيديهم ويقول: «عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم لتفينّ ببيعنى، ولتقاتلن عدوى، ولتنصحن لى فى السر والعلانية» فإذا قال: «نعم» . مسح يده على يده.
ثم قال: «اللهم اشهد» . فبايعه خمسة عشر ألفا، وقيل:
أربعون ألفا. وأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل من يريد أن يفى له ويخرج معه يستعد ويتهيأ. فشاع أمره فى الناس. هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس.
وأما على قول من زعم أنه أتى الكوفة إلى يوسف بن عمر لمقابلة خالد بن عبد الله القسرى أو ابنه يزيد بن خالد، فإنه يقول: إنه أقام بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن على بن عبد الله بن عباس. وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد، وتأمره بالخروج، ويقولون:«إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور، وأن هذا الزمان هو الذى يهلك فيه بنو أمية» . فأقام بالكوفة.
وجعل يوسف بن عمر الثقفى يسأل عنه، فيقال:«هو هاهنا» . ويبعث إليه ليسير فيقول: «نعم» ويعتل بالوجع.
فمكث ما شاء الله. ثم أرسل إليه يوسف ليسير، فاحتج بأنه يبتاع أشياء يريدها. ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم بعض آل طلحة بن عبيد الله فى ملك بينهما بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها.
فلما رأى جد يوسف فى أمره سار حتى أتى القادسية وقيل الثّعلبية. فتبعه أهل الكوفة وقالوا: «نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد، نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة بعض قبائلنا تكفيهم بإذن الله تعالى» . وحلفوا بالأيمان المغلظة، فجعل يقول:«إنى أخاف أن تخذلونى وتسلمونى كفعلكم بأبى وجدى» فيحلفون له. فقال له داود بن على:
«يا ابن عم، إن هؤلاء يغرونك من نفسك، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك: جدك على بن أبى طالب حتى قتل، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه، ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ فلا ترجع معهم» فقالوا لزيد: «إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم» فقال زيد لداود: «إن عليا كان يقاتله معاوية بدهائه ومكره، وإن الحسين قاتله يزيد والأمر مقبل عليهم» . فقال داود: «إنى خائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم» . ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
فلما رجع زيد، أتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقه فأحسن. ثم قال له:«نشدتك الله: كم بايعك؟» قال: «أربعون ألفا» قال: «فكم بايع جدك؟» قال: «ثمانون ألفا» . قال: «فكم حصل معه؟» قال:
«ثلاثمائة» قال: «نشدتك الله: أنت خير أم جدك؟» قال:
«جدى» . قال: «فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟» قال:
«ذلك القرن» . قال: «أفتطمع أن يفى لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟» قال: «قد بايعونى ووجبت البيعة فى عنقى وعنقهم» . قال: «أفتأذن لى أن أخرج من هذا البلد، فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسى» . فأذن له فخرج إلى اليمامة.
وكتب عبد الله بن الحسن «1» بن الحسن إلى زيد: «أما
بعد، فإن أهل الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هرج فى الرخاء «1» ، جزع فى اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم. ولقد تواترت إلى كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم وألبست قلبى غشاء عن ذكرهم يأسا منهم واطراحا لهم. وما لهم مثل إلا ما قال «2» على بن أبى طالب رضى الله عنه: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم «3» خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم» فلم يصغ زيد إلى شىء من ذلك وأقام على حاله يبايع الناس ويتجهز للخروج.
وتزوج بالكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمى. وتزوج أيضا ابنة عبد الله بن أبى العنبس الأزدى. وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت تتشيع، فأتت زيدا تسلم عليه، وكانت جميلة حسنة قد دخلت فى السن ولم يظهر عليها. فخطبها زيد إلى نفسها «4» . فاعتذرت بالسن وقالت له:«لى بنت «5» هى أجمل منى وأبيض وأحسن دلا وشكلا» فضحك زيد ثم تزوجها وكان ينتقل بالكوفة تارة عندها، وتارة عند زوجته الأخرى، وتارة فى بنى عبس، وتارة فى بنى نهد، وتارة فى بنى تغلب «6» وغيرهم إلى أن ظهر.