الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر اعتزال ابراهيم الملك وزهده وغزوه ووفاته
وكان سبب ذلك أن رسول الخليفة المعتضد بالله العباسى قدم عليه فى سنة تسع وثمانين «1» ومائتين من بغداد إلى تونس. فخرج إبراهيم إليه وضربت له فازة «2» سوداء فى سبخة تونس. فخلا بالرسول وكان بينهما محاورة ولم يأته بكتاب. وكان المعتضد قد أرسله على غضب وسخط لشكوى أهل تونس منه، وصياحهم على المعتضد، ووصفهم له ما صنع بهم إبراهيم، وقالوا:«أهدى إليك نساءنا وبناتنا» . فغضب المعتضد، وأمره باللحاق به وأن يعتزل عن إفريقية. وولى عليها ابنه أبا العباس.
فكره إبراهيم المسير إلى المعتضد. وأظهر التوبة، ورفض الملك، ولبس الخشن من الثياب. وأمر بإخراج من فى سجونه. وقطع القبالات «3» . وبعث إلى ابنه أبى العباس وهو بصقلية ليصير إليه الملك، ويخرج له من الأمر. فقدم عليه فى شهر ربيع الأول فسلم إليه الأمر وخرج من تونس. وأظهر أنه يريد الحج. ووصل إلى سوسة، ووجه رسله إلى بغداد بذلك. ثم بعث من يذكر رجوعه عن الحج وخروجه إلى الجهاد «4» خشية من بنى طولون لئلا تسفك بينهما الدماء. واستقر الناس، ودعاهم إلى الجهاد، ووسع على من أتاه.
وخرج من سوسة لئلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخرة.
فنزل نوبة ففرق الخيل والسلاح على أصحابه وأمر بالعطاء. فأعطى الفارس عشرين دينارا والراجل عشرة.
وخرج من نوبة إلى طرابنش «1» فى البحر. فأقام بها سبعة عشر يوما يعطى الأرزاق لمن معه.
ثم رحل فدخل مدينة بلرم «2» لليلتين بقيتا من شهر رجب.
وأمر برد المظالم. وأقام بصقلية أربعة عشر يوما يعطى أهلها ومن بها من البحريين الأرزاق.
وارتحل لتسع خلون من شعبان. فنزل على طبرمين «3» وحاصرها.
وكان بينه وبين أهلها قتال شديد حتى أثخنت الجراح فى الفريقين.
وهمّ المسلمون بالانحياز فقرأ قارىء: «هذان خصمان اختصموا فى ربهم» . الآية «4» فحمل حماة العسكر وأهل البصائر بنيات صادقة. فانهزم الكفرة هاربين. فقتلهم المسلمون أبرح قتل، وقفوا آثارهم فى بطون الأودية ورؤوس الجبال. ودخل إبراهيم ومن معه طبرمين فقتل وسبى.
وبعث زيادة الله ابن ابنه»
أبى العباس إلى قلعة ميقش «6» .
وبعث أبا الأغلب ولده بعسكر إلى دمنيش «1» . فوجد أهلها قد هربوا على وجوههم، فأخذ جميع ما كان بها «2» .
وبعث ابنه أبا حجر «3» إلى رمطة «4» . فطلب القوم الأمان.
وأجابوا إلى الجزية.
وبعث سعدون الجلوى بطائفة إلى لياج «5» فدعوا القوم جميعا.
فأجابوا إلى أداء الجزية. فلم يجبهم ولم يرضه إلا نزولهم عن الحصون، فنزلوا. وهدم جميع القلاع ورمى حجارتها إلى البحر.
ثم تمادى بالعساكر إلى مسّينى «6» فأقام بها يومين.
وأمر الناس بالتعدية إلى قلّورية «7» لأربع بقين من شهر رمضان وتمادى فى رحيله إلى أن قرب من مدينة كسنتة «8» . فجاءته الرسل يطلبون الأمان فلم يجبهم. وسار إلى أن وصل كسنتة وقدم العساكر وبقى فى الساقة لضعف أصابه. فنزلت العساكر بالوادى. وأمر الناس بالزحف لخمس بقين من شوال. وفرق أولاده وخاصته على
أبوابها، فقاتلوا «1» من كل ناحية، ونصبوا المجانيق.
واشتدت علة إبراهيم، وكانت علته البطن. وعرض له الفواق فأيس أصحابه منه. فقلدوا الأمر إلى زيادة الله بن ابنه أبى العباس سرا. وكانت وفاة الأمير إبراهيم فى ليلة السبت لاثنتى عشرة «2» ليلة بقيت من ذى القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فركب القواد إلى أبى مضر زيادة الله، وهو أكبر أولاد أبى العباس بن إبراهيم، فقالوا له:«تولّ هذا الأمر حتى تصل إلى أبيك» . فقال لعمه أبى الأغلب «3» : «أنت أحق بحق أخيك» . فلم يتقدم على زيادة الله، وكان يحب السلامة.
ثم طلب أهل كسنتة الأمان، وهم لا يعلمون بوفاة الأمير، فأمّنوا.
وأقام المسلمون حتى قدم عليهم من كان توجه إلى الجهات. فلما قدموا ارتحلوا بأجمعهم وعادوا إلى مدينة بلرم. ونقلوا إبراهيم معهم فدفنوه بها «4» . وبنى على قبره قصر. وعادوا إلى إفريقية بأجمعهم.
وكان مولد إبراهيم يوم الأضحى سنة خمس وثلاثين ومائتين.
فكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وأحد عشر شهرا وأياما «5» . ومدة
ولايته إلى حين وفاته ثمانى وعشرين سنة وستة أشهر واثنى عشر يوما «1» .
وكان لإبراهيم محاسن ومساوى ذكرها ابن الرقيق، ونحن نذكر لمعة من محاسن أفعاله ومساوئها، تدل على ما كان عليه. ونترك الإطالة جريا على القاعدة «2» فى الاختصار.
قال: كان على حالة محمودة من الحزم والضبط للأمور. وأقام سبع «3» سنين من ولايته، وهو على ما كان عليه أسلافه من حسن السيرة وجميل الأفعال، إلى أن خرج لمحاربة العباس بن طولون. فلما كفى مؤنته تغيرت حاله وحرص على جمع الأموال. ثم اشتد أمره فأخذ فى قتل أصحابه وكفاته وحجابه. ثم قتل ابنه وبناته وأتى بأمور لم يأت غيره بمثلها.
فمن محاسن أعماله أنه كان أنصف الملوك للرعية، لا يرد عنه متظلم يأتيه «4» . وكان يجلس بعد صلاة الجمعة، وينادى مناديه:
«من له مظلمة» . فربما لم يأته أحد لكفّ بعض الناس عن بعض.
وكان يقصد ذوى الأقدار والأموال فيقمعهم ويقول: «لا ينبغى أن يظلم إلا الملك، لأن هؤلاء إذا أحسوا من أنفسهم قوة بما عندهم من الأموال لم يؤمن شرّهم وبطرهم. فإذا كف الملك عنهم وأمنوا دعاهم ذلك إلى منازعته وإعمال الحيلة عليه. وأما الرعية فهم مادة الملك،
فإن أباح ظلمهم لم يصل إليه نفعهم، ولحقه الضرر، وصار النفع لغيره» .
ووقف له رجلان من أهل القيروان، وهو بالمقصورة فى جامع رقادة. فأدناهما إليه وسألهما عن حالهما فقالا له:«كنا شريكين للسيدة. «يعنيان أمه» فى جمال وغيرها. فاحتبست لنا ستمائة دينار» .
فأرسل إليها خادما فقالت: «نعم هو كما ذكرا إلا أن بينى وبينهما حسابا. وإنما احتبست هذا المال حتى أحاسبهما. فإن بقى عليهما شىء وإلا دفعت مالهما إليهما» . فقال للخادم: «ارجع إليها وقل لها: والله لئن لم توجهى بالمال وإلا أوقفتك الساعة معهما بين يدى عيسى بن مسكين» . فوجهت بالمال إليه. فدفعه إليهما وقال:
«أما أنا فقد أنصفتكما فيما ادعيتما، فاذهبا واقطعا حسابها وإلا فأنتما أعلم» .
وكان إذا تبين له الظلم قبل أحد من أهل بيته وولده بالغ فى عقوبته والإنصاف منه. فكان ولده ورجاله يوم الخميس يأمرون «1» عبيدهم ورجالهم أن يطوفوا فى الأزقة والفنادق، ويسألوا: هل أتى شاك أو متظلّم من عبد أو وكيل؟ فإذا وجدوا أحدا أتوا به إلى دار ولد الأمير أو قرابته فينصفه.
ومن مساوىء أفعاله أنه أسرف فى سفك دماء أصحابه وحجابه حتى يقال إنه افتقد منديلا كان يمسح به فمه من شرب النبيذ- وكان قد سقط من يد بعض جواريه فأصابه خادم- فقتله وقتل بسببه ثلاثمائة خادم. وهذا غاية فى الجور ونهاية فى الظلم.
وقتل ابنه المكنى بأبى الأغلب «1» لظنّ ظنّه به، فضرب عنقه بين يديه صبرا. وقتل ثمانية إخوة كانوا له رجالا، ضربت أعناقهم بين يديه صبرا. وكان أحدهم ثقيل البدن فسأله واسترحمه. فقال:
«لا يجوز أن تخرج عن حكم الجماعة» . وقتله. ثم قتل بناته.
وأتى بأمور لم يأت بها أحد قبله ولم يتقدمه إلى مثلها ملك ولا أمير.
فكانت أمه إذا ولد له ابنة من أحد جواريه أخفتها عنه وربتها حتى اجتمع عندها منهن ست عشرة جارية. فقالت له ذات يوم، وقد رأت منه طيب نفس:«يا سيدى، قد ربيت لك وصائف ملاحا، وأحب أن تراهن» . فقال: «نعم، قرّبيهن منى» . فأدخلتهن إليه فاستحسنهن. فقالت: «هذه ابنتك من جاريتك فلانة، وهذه من فلانة» . حتى عدّتهن عليه. فلما خرج قال لخادم له أسود كان سيافا يقال له ميمون: «امض فجئنى برؤوسهن» . فتوقف استعظاما منه لذلك. فسبّه وقال: «امض وإلا قدمتك قبلهن» . فمضى إليهن.
فجعلن يصحن ويبكين ويسترحمن، فلم يغن ذلك عنهن شيئا. وأخذ رؤوسهن وجاء بهن معلقة بشعورهن، فطرحها بين يديه.
ومن قبيح «2» أفعاله ما كان عليه من أمر الأحداث، وكان له نيّف وستون حدثا. وقد رتب لكل واحد منهم مرقدا ولحافا. فإذا جاء وقت النوم، طاف عليهم الموكل بهم فسقى كل واحد منهم ثلاثة أرطال، وينام كل واحد منهم فى مكانه. فبلغه أن بعضهم يمشى فى الليل إلى بعض. فجلس بباب القصر على كرسى وأمر بإحضارهم.
فبعضهم أقر وبعضهم جحد، حتى مر به صبى كان يحبه فقال:
«والله يا مولاى ما كان من هذا شىء» . فضربه بعمود من حديد فطار دماغه. وأمر بتنور فأحمى. فكان يطرح فيه كل يوم خمسة أو ستة حتى أفناهم. وأدخل عددا منهم الحمام وأغلق عليهم البيت السخن، فماتوا من ساعتهم.
وقتل بناته وجواريه بأنواع من العذاب: منهن من بنى عليها البناء حتى ماتت جوعا وعطشا، ومنهن من أمر بخنقها، ومنهن من ذبحها، حتى لم يبق فى قصره أحد. فدخل على أمه فى بعض الأيام فقامت إليه ورحبت به. فقال لها:«إنى أحب طعامك» . فسرت بذلك وأحضرت الطعام. فأكل وشرب وانبسط. فلما رأت سروره قالت له: «إن عندى وصيفتين ربيتهما لك وادخرتهما لمسرتك. وقد طال عهدك بالأنس بعد قتل الجوارى وهما يحسنان القراءة بالألحان.
فهل لك أن أحضرهما للقراءة بين يديك؟» . قال: «افعلى» .
فأمرت بإحضارهما فأحضرتا. وأمرتهما بالقراءة فقرأتا أحسن قراءة. ثم قالت له أمه: «هل لك أن ينشداك الشعر؟» قال:
«نعم» . فغنتا بالعود والطنبور أبدع غناء حتى عمل فيه الشراب وأراد الانصراف. فقالت له: «هل لك أن تمشيا خلفك حتى تصل إلى مكانك ويقفا على رأسك ويؤنساك، فقد طال عهدك بالأنس» . قال:
«نعم.» فمضى وهما خلفه. فلم يكن إلا أقل من ساعة حتى أقبل خادم وعلى رأسه طبق وعليه منديل. فظنت أنه وجه إليها بهدية.
فوضع الخادم الطبق بين يديها ورفع المنديل، وإذا برأسيهما.
فصرخت أمه وغشى عليها. وأفاقت بعد ساعة طويلة، وهى تدعو عليه وتلعنه. وأخباره فى أمثال «1» هذا طويلة.
وفى أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعى الداعى، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله عز وجل.
ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن ابراهيم «2» ابن أحمد بن محمد بن الأغلب
ولى الأمر كما قدمناه فى حياة أبيه ثم استقل بالأمر بعد وفاته.
وكان على خوف شديد من أبيه لسوء أخلاقه وجرأته على قتل من قرب منه أو بعد. فكان يظهر له من الطاعة والتذلل أمرا عظيما. فكان إبراهيم يكرمه ويفضله على سائر أولاده.
وكانت ولايته بعد أبيه فى يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فجلس للناس للمظالم «3» .
وليس الصوف، وأظهر العدل والإحسان والإنصاف. ولم يسكن قصر أبيه. ولكنه اشترى دارا مبنية بالطوب فسكنها إلى أن اشترى داره التى عرف بها.
وخاف من قيام ابنه زيادة الله عليه فحبسه هو وخلقا من رجاله.
وولى أبا العباس محمد بن الأسود الصدينى «1» قضاء القيروان والأحكام والنظر فى العمال وجباة الأموال. فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكان قويا فى قضائه، شديدا على رجال السلطان، رفيقا بالضعفاء والمظلومين. ولم يكن واسع العلم، فكان يشاور العلماء، فلا يقطع حكما إلا برأى ابن عبدون «2» القاضى. وكان يظهر القول بخلق القرآن فكرهه العامة.
ولم تطل أيام أبى العباس حتى وثب به ثلاثة من خدمه كان زيادة الله قد وضعهم عليه، فقتلوه وهو نائم. وأتوا بحداد إلى زيادة الله ليقطعوا قيده ويسلموا عليه بالإمارة. فخاف أن يكونوا دسيسا عليه من أبيه، فأبى ذلك. فمضوا إلى أبيه فقطعوا رأسه وأتوا به فى الليل.
فلما رأى ذلك أمر بقطع قيوده وخرج. وكان مقتل أبى العباس فى ليلة الأربعاء آخر شعبان «3» سنة تسعين ومائتين. فكانت إمارته من حين خروج أبيه وإلى أن قتل سنة واحدة واثنين وخمسين يوما، ومنذ استقل بالأمر بعد أبيه تسعة أشهر وثلاثة عشر يوما «4» .
وكان رحمه الله شجاعا بطلا عالما «5» بالحرب، حسن النظر فى الجدل «6» . وأستاذه فى ذلك عبد الله بن الأشج «7» .