الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ابتداء دولة الملثمين وأخبارهم ومن ملك منهم
كان ابتداء أمرهم- على ما حكاه عز الدين أبو محمد عبد العزيز ابن شداد بن الأمير تميم بن المعز بن باديس فى تاريخه المترجم «بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان» بسند يرفعه إلى القاضى أبى الحسن على بن فنون قاضى مراكش: أن رجلا من قبيلة جدّالة من كبرائهم اسمه الجوهر أتى «1» من الصحراء إلى بلاد المغرب طالبا للحج، وذلك فى عشر الخمسين وأربعمائة «2» . وكان مؤثرا للدين، محبا فى الخير، مكرما للصالحين. فمر بفقيه يقرأ عليه مذهب الإمام مالك بن أنس وحوله جماعة. قال: والغالب أنه أبو عمران قاضى القيروان «3» . فآوى إليه وأصغى إلى ما يذكر فى مجلسه من علم الشريعة.
فأحب سماعه وأناب إليه قلبه. ثم استمر فى وجهته إلى الحج وقد أثر ذلك فى نفسه.
فلما حج وانصرف قصد المسجد الذى كان فيه الفقيه، وسمع الكلام فيما تقتضيه ملة الإسلام من الفرائض والسنن والأحكام.
فقال الجوهر: «يا فقيه، ما عندنا فى الصحراء من هذا الذى
تذكرونه شى إلا الشهادتين»
فى العامة، والصلاة فى بعض الخاصة» .
فقال الفقيه: «فاحمل معك «2» من يعلمهم عقائد ملتهم وكمال دينهم» . فقال له الجوهر: «فابعث معى أحد الفقهاء، وعلىّ حفظه وبره وإكرامه» . وكان للفقيه ابن أخ اسمه عمر، فقال له:
«اذهب مع هذا السيد إلى الصحراء فعلّم القبائل بها ما يجب عليهم من دين الإسلام، ولك الثواب الجزيل من الله عز وجل، والذكر الجميل من الناس» فأجابه إلى ذلك. فلما أصبح عمر من الغد جاء إلى عمه فقال له: «أعفنى من الدخول إلى الصحراء فإن أهلها جاهلية «3» ، قد ألفوا سيرا نشئوا عليها فمتى نقلوا عنها قتلوا من أمرهم بخلافها» . وكان من طلبة الفقية رجل يقال له عبد الله بن ياسين الكزولى فرأى الفقيه وقد عزّ عليه مخالفة ابن أخيه، فقال:«يا فقيه، أرسلنى معه والله المعين» . فأرسله معه «4» . وتوجها إلى الصحراء. وكان عبد الله بن ياسين فقيها عالما ورعا دينا شهما قوى النفس حازما ذا رأى وصبر وتدبير حسن.
فدخل «5» الجوهر وعبد الله بن ياسين إلى الصحراء. فانتهوا إلى قبيلة لمتونة، وهى على ربوة عالية. فلما رأوها نزل الجوهر عن جمله، وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين تعظيما لدين الاسلام. فأقبلت أعيان لمتونة وأكابرهم للقاء الجوهر والسلام عليه. فرأوه يقود الجمل فسألوه عنه فقال: «هو حامل سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاء «1» يعلم أهل الصحراء ما يلزمهم فى دين الإسلام» . فرحبوا به وأنزلوه أكرم نزل.
ثم اجتمعت طائفة كبيرة من تلك القبيلة فى محفل وفيهم أبو بكر ابن عمر. فقالوا: «تذكر لنا ما أشرت إليه أنه يلزمنا؟» فقص عليهم عبد الله عقائد الإسلام وقواعده وبيّن لهم حتى فهم ذلك أكثرهم. ثم اقتضاهم الجواب، فقالوا:«أما ما ذكرته من الصلاة والزكاة فذلك قريب. وأما قولك: من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنا يجلد، فأمر لا نلتزمه «2» ولا ندخل تحته. اذهب إلى غيرنا» .
فرحلا عنهم والجوهر الجدالى يجر زمام جمل عبد الله بن ياسين فنظر إليه شيخ كبير منهم فقال: «أرأيتم هذا الجمل؟ لا بد أن يكون له فى هذه الصحراء شأن يذكر «3» فى العالم» .
قال: وكان بالصحراء قبائل العرب، وهى لمتونة وجدالة ولمطة وانبيصر «4» وايتوارى «5» ومسوفة «6» وأفخاذ عدة، وكل قبيلة قد حازت أرضا تسرح فيها مواشيهم، ويحمونها بسيوفهم. وهذه القبائل ينسبون إلى حمير، ويذكرون أن أسلافهم خرجوا من اليمن فى الجيش الذى أنفذه أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى
الشام. وانتقلوا إلى مصر ثم توجهوا إلى المغرب مع موسى بن نصير «1» . وتوجهوا مع طارق إلى طنجة ثم اختاروا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها وأقاموا بها.
قال: وسار الجوهر حتى انتهى بعبد الله إلى قبيلة جدالة.
فخاطبهم عبد الله هم والقبائل المتصلة بهم. فمنهم من سمع وأطاع ومنهم من أعرض وعصى. ثم إن المخالفين لهم تحزبوا وانحازوا.
فقال عبد الله للذين قبلوا منه الإسلام: «قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق وأنكروا دين الإسلام. فاستعدوا لقتالهم، واجعلوا لكم حزبا، وأقيموا لكم راية، وقدموا لكم أميرا» . فقال له الجوهر:
«أنت الأمير» . فقال «2» عبد الله: «لا يمكننى هذا: إنما أنا حامل أمانة الشرع، أقص عليكم نصوصه وأبين لكم طريقه، وأعرّفكم سلوكه.
ولكن أنت الأمير» . فقال الجوهر: «لو فعلت هذا لتسلطت قبيلتى على الناس ولعاثوا فى الصحراء، ويكون وزر ذلك علىّ. لا رأى لى فى هذا» . فقال عبد الله: «فهذا أبو بكر بن عمر «3» رأس لمتونة وكبيرها، وهو رجل جليل القدر، مشكور الحال، محمود السيرة، مطاع فى قومه، نسير إليه ونعرض تقدمة الإمرة عليه، فلحب الرياسة يستجيب إلى ذلك بنفسه، ولمكان الجاه ستجتمع إليه طائفة من قبيلته نقوى بها على عدونا. والله المستعان» .