الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
والقَلْسُ كالدَّمِ، يَنْقُضُ الوُضُوءَ منه ما فَحُشَ. قال الخَلَّالُ: الذي أجْمَعَ عليه أصحابُ أبِى عبد اللَّه عنه، أنه إذا كان فاحِشًا أعادَ الوُضُوءَ منه. وقد حُكِىَ عنه فيه الوُضُوءُ إذا مَلأ الفَمَ. وقِيل عنه: إذا كان أقَلَّ من نِصْفِ الفَمِ لا يَتَوَضَّأُ. والأَوَّل المَذْهَبُ. وكَذَلِكَ الحُكُمُ في الدُّودِ الخارِجِ مِنَ الجَسَدِ، إذَا كانَ كَثِيرًا نَقَضَ الوُضُوءَ، وإنْ كَانَ يَسِيرًا، لم يَنْقُضْ، والكَثِيرُ ما فَحُشَ في النَّفْسِ.
فصل: فأما الجُشَاءُ فلا وُضُوءَ فِيهِ. لا نَعْلَمُ فِيهِ خلافًا، قالَ مُهَنَّا: سألتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عن الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ الرِّيحُ مِثْل الجُشَاءِ الكَثيرِ؟ قالَ: لا وُضُوءَ عَلَيْه. وكذلك النُّخَاعَةُ لا وُضُوء فيها، سواء كانَتْ مِنَ الرَّأْسِ أو الصَّدْرِ؛ لأَنَّها طاهِرَةٌ، أَشْبَهتِ البُصَاقَ.
48 - مسألة؛ قال: (وأَكْلُ لَحْمِ الجَزُورِ)
وجُمْلَةُ ذَلكَ أنَّ أَكْلَ لَحْمِ الإِبِلِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ علَى كُلِّ حالٍ، نِيئًا ومَطْبُوخًا، عالِمًا كانَ أو جَاهِلًا. وبِهَذَا قالَ جابرُ بنُ سَمُرَةَ (1)، ومُحَمَّدُ بن إسْحَاق (2)، وأبو خَيْثَمة، ويَحْيَى بن يَحْيَى (3)، وابنُ المُنْذِر، [وهو أحدُ قَوْلَىِ الشَّافِعِىِّ] (4). قالَ الخطابِىُّ: ذَهَبَ إلَى هذَا عامّةُ أصْحَابِ الحدِيثِ. وقال الثَّوْرِىُّ، ومالِك، والشَّافِعِىُّ، وأصحابُ الرَّأْىِ: لَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ بِحَالٍ؛ لأنَّهُ رُوِى عَنِ ابنِ عَبَّاس، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قَالَ:"الوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لا مِمَّا يَدْخُلُ (5) ". ورُوِىَ عَنْ
(1) أبو خالد جابر بن سمرة بن جنادة السوائى، له صحبة مشهورة، ورواية أحاديث، توفى سنة ست وسبعين. سير أعلام النبلاء 3/ 186 - 188.
(2)
أبو عبد اللَّه محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى مولاهم المدنى، صاحب السيرة النبوية، توفى سنة خمسين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 33 - 55.
(3)
أبو زكريا يحيى بن يحيى بن بكر التميمي النيسابورى الحافظ، شيخ الإسلام، توفى سنة ست وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 512 - 519.
وهو غير أبى محمد يحيى بن يحيى بن كثير البربرى الأندلسى، صاحب الإمام مالك، كان كبير الشأن، وافر الجلالة، توفى سنة أربع وثلاثين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 519 - 525.
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
أخرجه الدارقطني، في: باب الوضوء من الخارج من البدن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني =
جابِرٍ، قالَ: كانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ. رَوَاهُ أبو داود (6). ولأنَّه مَأْكُولٌ أشْبَهَ سَائِرَ المأكُولاتِ، وقد رُوِىَ عَنْ أبِى عَبْدِ اللهِ أنَّه قالَ في الذِى يأكلُ مِنْ لُحُوم الإِبِلِ: إنْ كان لا يَعْلَمُ ليس عليْه وُضُوءٌ، وإنْ كانَ الرَّجُلُ قد عَلِمَ وسَمِعَ، فهذا عليه واجبٌ؛ لأنَّهُ قد عَلِمَ، فليس هو كمَنْ لا يَعْلَمُ ولا يَدْرِى. قال الخَلَّالُ: وعلَى هذا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أبِى عبدِ اللهِ في هذا الباب. ولنا ما رَوَى البَراءُ بنُ عازِبٍ، قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن لُحُومِ الإِبِلِ، فقال:"تَوَضَّؤُوا مِنْهَا". وسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الغَنَمِ، فقالَ:"لَا يَتَوَضَّأُ مِنْها". [رَوَاهُ أبو داود](7). ورَوَى جابرُ بنُ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، أخْرَجَه مُسْلِمٌ (8)، ورَوَى الإِمامُ أحمدُ (9) بإسْنادِه، عَنْ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْر، قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّؤُوا مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ، ولَا تَتَوضَّؤُوا مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ". ورَوَى ابنُ مَاجَه (10)، عن عبدِ اللَّه بنِ عَمْرو، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، قال أحمدُ، وإسحاقُ بنُ رَاهُويَه: فِيهِ حَدِيثانِ
= 1/ 151. والبيهقي، في: باب التوضى من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن البيهقي 1/ 159. والهيثمى، في: باب ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. مجمع الزوائد 1/ 252. وذكر أن الطبراني أخرجه في الكبير.
(6)
في: باب ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 43. والترمذي، في: باب في ترك الوضوء مما غيرت النار، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 112. والنسائي، في: باب ترك الوضوء مما غيرت النار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 90.
(7)
في م: "رواه مسلم وأبو داود". وانظر ما يأتى.
وحديث البراء بن عازب أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن أبى داود 1/ 41. والترمذي، في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذى 1/ 112. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 288، 303.
(8)
أخرجه مسلم، عن جابر بن سمرة، في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 275. وأخرجه أيضًا، عن جابر، ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 86، 88، 92، 93، 97، 98، 100، 101، 102، 105، 106، 108. كما أخرجه عن ذى الغرة، في: المسند 4/ 67، 5/ 112.
(9)
في: المسند 4/ 352. وأخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166.
(10)
في الموضع السابق.
صَحِيحانِ عنِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم؛ حَدِيثُ البَرَاءِ، وحَدِيثُ جَابرِ بنِ سَمُرَةَ. وحَدِيثهُم عنِ ابنِ عَبَّاسٍ لا أصْلَ له، وإنَّما هو مِنْ قَوْلِ ابنِ عَبَّاس، مَوْقُوفٌ عليه، ولو صَحَّ لوَجَبَ تَقْدِيمُ. حَدِيثِنَا عليه؛ لِكَوْنِه أصَحَّ منه وأخَصَّ، والخاصُّ يُقَدِّمُ علَى العامِّ، وحَدِيثُ جابِرٍ لا يُعَارِضُ حَدِيثَنا أيضًا؛ لِصِحَّتِه وخُصُوصِه. فإنْ قِيلَ: فحَدِيثُ جابرٍ مُتَأَخِّرٌ، فَيَكُونُ ناسِخًا. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ النَّسْخُ بهِ لوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ؛ أحدها، أنَّ الأمْرَ بالوُضُوءِ من لُحُومِ الإِبِلِ مُتَأخِّرٌ عن نَسْخِ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النارُ، أو مُقَارِنٌ له؛ بدَلِيلِ أنَّه قَرَنَ الأمْرَ بالوُضُوءِ من لحومِ الإِبِلِ بالنَّهْىِ عن الوُضُوءِ من لُحُومِ الغَنَمِ، وهى مِمَّا مَسَّتِ النارُ، فإمَّا أنْ يكونَ النَّسْخُ حَصَلَ بهذا النَّهْىِ، وإمَّا أنْ يكونَ بِشَىءٍ قَبْلَه؛ فإنْ كان به، فالأمْرُ بالوُضُوءِ مِن لُحُومِ الإبِلِ مُقَارِنٌ لِنَسْخِ الوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النارُ، فكيف [يجوزُ أنْ](11) يكونَ مَنْسُوخًا به؟ ومِنْ شُرُوط النَّسْخِ تأَخُّرُ النَّاسِخِ، وإنْ كان النَّسْخُ (12) قَبْلَهُ، لم يَجُزْ أنْ يُنْسَخَ بِما قبلَهُ. الثاني، أنَّ أكْلَ لُحُومِ الإِبِلِ إنَّما نَقَضَ؛ لِكَوْنِه مِنْ لُحُومِ الإبِلِ، لا لِكَوْنه مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، ولِهَذَا يَنْقُضُ وإنْ كَانَ نِيئًا، فنَسْخُ إحْدَى الجِهَتَيْنِ لا يَثْبُتُ به نَسْخُ الجِهَةِ الأُخْرَى، كما لو حُرِّمَتِ المَرْأةُ للرَّضاعِ، ولِكَوْنها رَبِيبَةً، فنَسْخُ التَّحْرِيمِ بالرَّضَاعِ لَمْ يكنْ نَسْخًا لتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ. الثَّالِثُ، أنَّ خَبَرَهُم عامٌّ وخَبَرُنَا خَاصٌّ، والعامُّ لا يُنْسَخُ بهِ الخاصُّ؛ لأَنَّ مِنْ شَرْطِ (13) النَّسْخِ تَعَذُّرَ الجَمْعِ، والجَمْعُ بينَ الخاصِّ والعامِّ مُمْكِنٌ بتَنْزِيلِ العامِّ علَى ما عدا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ. الرَّابِعُ: أنَّ خَبَرَنَا صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ، ثَبَتَتْ له قُوَّةُ الصِّحَّةِ والاسْتِفاضَةِ والخُصُوص، وخَبَرُهُمْ ضَعِيفٌ؛ لعَدَمِ هذِه الوُجُوهِ الثَّلَاثةِ فِيهِ، فلا يجوزُ أنْ يكونَ ناسِخًا لَهُ. فإن قِيلَ: الأمْرُ بالوُضُوءِ في خبرِكم يَحْتَمِلُ الاسْتِحْبابَ، فنَحْمِلُه عليه. ويَحْتَمِلُ أنَّهُ أرَادَ بالوُضُوءِ [قبلَ الطَّعَامِ وبعدَه](14) غَسْلَ اليَدَيْنِ (15)؛ لأنَّ الوُضُوءَ إذَا أُضِيفَ إلى الطَّعَامِ، اقْتَضَى
(11) سقط من: م.
(12)
في م: "الناسخ".
(13)
في م: "شروط".
(14)
سقط من الأصل.
(15)
في الأصل: "اليد".
غَسْلَ اليَدِ، كما كانَ عليه السلام يأْمُرُ بالوُضُوءِ قبلَ الطَّعَامِ وبعدَه، وخُصَّ ذَلِكَ بلَحْمِ الإِبِلِ؛ لأنَّ فِيهِ مِن الحرارةِ والزُّهُومةِ (16) ما ليس في غيره. قُلْنا: أَمَّا الأوَّلُ فَمُخَالِفٌ للظَّاهِرِ مِن ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أحدُها، أنَّ مُقْتَضَى الأَمْرِ الوُجُوبُ. الثاني، أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن حُكْمِ هذا اللَّحْم، فأجابَ بالأَمْرِ بالوُضُوءِ منه، فلا يَجُوزُ حَمْلُه علَى غَيْرِ الوُجُوبِ؛ لأنَّه يَكونُ تَلْبِيسًا علَى السَّائِلِ، لا جوابًا. الثالثُ، أنَّه عليه السلام قَرَنَه بالنَّهْىِ عَنِ الوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ، والمُرَادُ بالنَّهْىِ ههُنا نَفْىُ الإِيجَابِ لا التَّحْرِيمُ، فيَتَعَّينُ حَمْلُ الأَمْرِ عليه (17) علَى الإِيجَابِ، ليَحْصُلَ الفَرْقُ. وأمَّا الثاني فلا يَصِحُّ لوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أحَدُها، أنَّه يَلْزَمُ منه حَمْلُ الأَمْرِ علَى الاسْتِحْبابِ، فإنَّ غَسْلَ اليَدِ بمُفْرَدِهِ غيرُ وَاجِبٍ، وقد بَيَّنَا فَسَادَهُ. الثاني، أنَّ الوُضُوءَ إذا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَجَبَ حَمْلُه علَى المَوْضُوعِ الشَّرعِىِّ دُونَ اللُّغَوِىِّ؛ لأنَّ الظاهِرَ منه، أنَّه إنَّما يَتَكَلَّمُ بمَوْضُوعَاتِهِ. الثالثُ، أنَّه خَرَجَ جَوابًا لسُؤالِ السَّائِلِ عَنْ حُكْمِ الوُضُوءِ مِنْ لُحُومِها، والصَّلَاةِ في مَبَارِكِها، فلا يُفْهَمُ مِنْ ذلك سوى الوُضُوء المُرَادِ للصَّلاةِ. الرابعُ، أنَّهُ لو أُرادَ غَسْلَ اليَدِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ لَحْمِ الغَنَمِ؛ فإنَّ غَسْلَ اليَدِ منهما مُسْتَحَبٌّ، ولِهَذَا قالَ:"مَنْ بَاتَ وَفِى يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ (18) فأَصَابَهُ شيءٌ، فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ (19) ". وما ذكروهُ مِنْ زيادةِ الزُّهُومَةِ فأمْرٌ يَسِيرٌ، لا يَقْتَضِى التَّفْرِيقَ. واللهُ أعلمُ. ثم لا بدَّ مِن دَلِيلٍ نَصْرِفُ به اللَّفْظَ عن ظَاهِرِهِ ويجبُ أنْ يكونَ الدَّلِيلُ له مِنَ القُوَّةِ بقَدْرِ قُوَّةِ الظَّواهِرِ المَتْرُوكةِ، وأقوَى مِنْها، وليس لهم دَلِيلٌ، وقِيَاسُهم فَاسِدٌ؛ فإنَّه طَرْدِىٌّ لا مَعْنَى فيه، وانْتِفاءُ
(16) الزهومة: ريح لحم سمين منتن.
(17)
سقط من: م.
(18)
الغمر: الدسم والزهومة من اللحم.
(19)
أخرجه أبو داود، في: باب في غسل اليد من الطعام، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 230. والترمذي، في: باب ما جاء في كراهية البيتوتة وفى يده ريح غمر، من أبواب الأطعمة. عازضة الأحوذى 8/ 47. وابن ماجه، في: باب من بات وفى يده ريح غمر، من كتاب الأطعمة. سنن ابن ماجه 2/ 1096. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 263، 344، 537.