الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحياة منذ بدايتها، دائمة القوة، دائمة الشباب، دائبة الحركة والتطور والنمو، لا تعرف الضعف والشيخوخة، ولا ينالها فتور أو ركود أو تعطل.
وهي تندفع إلى الأمام مع "الأحياء" ذوي الهمم العالية، والعزائم الماضية والإرادات القوية، الذين أدركوا سر وجودهم في هذه الأرض، وامتلأت قلوبهم إيمانا بالقوة العظيمة الخالدة المبدعة التي لا يعدو الون أن يكون مظهر إعجازها، ولا تعدو الحياة أن تكون سرا باهرا من أسرارها، يشع الوعي في العقول: الوعي الذي يعرف الإنسان أن الحياة جهاد وبناء، وأن حياة المرء لا تعد بالعمر الذي يقضيه في هذا الوجود وإنما بما يحدثه فيه.
هكذا تصنع الحياة "بالأحياء".
أما "الأموات" أو "الأحياء الأموات" الذي قال الشاعر العربي فيهم:
فإن قلت: أموات، فلم تعد أمرهم
…
وإن قلت: أحياء، فلست مفندا
- فإنها تطرحهم عن طريقها، لأنهم خاملون جامدون، يقنعون بالموجود، ويرضون بالدون، لا تتجاوز آمالهم وطموحاتهم مواطئ أقدامهم
…
همهم أن يعيشوا حاضرهم بلا ماض ولا مستقبل
…
همهم أن يتغنوا بعظمة الأجداد ويتغنوا بذكراهم، ويقروا عينا بأنهم من نسلهم، همهم أن يعيشوا وإن كان ذلك من أجل أن يعدوا من الأحياء لا أكثر ولا أقل!!
هكذا تصنع الحياة "بالأحياء" و"الأموات".
إنها تطرح الغثاء، وتلفظ القشور، وتحفظ اللب!!
وليس معقولا أن تتخلف عن الحياة نفوس غالية كبيرة، خلقت للحياة، ولا ترضى من الحياة إلا بالعظائم، وتستروح إلا في الجهاد من أجل العظائم، طبعها التحفز والاقدام والتحرك.
ولم يكن معقولا أن تبقى مع الحياة نفوس صغيرة وهمم خاملة.
وكنوز الحياة أمام هذين الصنفين وافرة، وأبوابها كثيرة، آفاقها مشرقة.
وميادينها واسعة فسيحة، ولكنهما في وضعين مختلفين، وعلى طبيعتين متباينتين، ومن هنا كان الصنف "غثاء" وكان الصنف الآخر "لبا".
إن من قبيل التأكيد لا من قبيل التكرار والإعادة أن نقول أن الأحياء أدركوا سر وجودهم وفهموا أن مصيرهم بأيديهم، وعرفوا أن الحياة للجديرين بها الذين يجدون وراءها، ويطمحون إلى آفاقها البعيدة المشرقة، ويطرحون أبوابها المختلفة صباح مساء دون أن يملوا
…
ويصمدون في الميدان
…
ويواجهون الصعاب والمتاعب مستهنين بكل ما يعرض لهم من محن ومشاق لأنهم يعلمون أن الحياة صراع وبذل معاناة، وأن العاقبة فيها للعاملين الصابرين.
وهؤلاء يظلون مع الحياة يحتفظون بقوتهم وحركتهم وحرارتهم
…
وبالجذوة المقدسة التي وهبها الله لهم حتى تنتهي آجالهم فوق هذه الأرض، ومع هذه الحياة، ثم تبدأ حياتهم التاريخية التي لا تنتهي، فهم على الدوام أحياء أقوياء كالحياة لا يعرفون الضعف ولا الركود
…
ولا يموتون!
أما "الأحياء الأموات" فقد غفلوا عن سر وجودهم، وشغلوا عن السمو بالقعود والإسفاف، وعن المضي في الطريق الصاعد بالتردد، وعن العمل بالأماني والأحلام، وعن صنع الظروف بانتظار من يصنعها، فإذا هزتهم عاصفة، أو نزلت
بهم محنة أو تنكرت لهم الحياة - ولا مناص من تنكرها يوما - ندبوا حظهم، وشكوا دهرهم واتهموا القدر بالظلم والجور!!.
وهؤلاء يظلون في الحياة ومع الحياة أمواتا، فإذا انتهت آجالهم، اختفت أسماؤهم، كما اختفت أجسادهم فلا يعودون يذكرون إلا على ألسنة أقاربهم، فكأنهم لم يعيشوا يوما في مجتمع أو بين قوم
…
وهذان الصنفان من البشر يعيشان معا في هذه الأرض، ويتشابهان في كثير من الصور والمظاهر، وتجمعهما أماكن ومناسبات، وترى الواحد من هذا الصنف أو ذاك فلا تستطيع أن تنسبه إلى صنفه، بل قد تظن أنه من صنف واحد "الأحياء" العاملين المجدين لفطانته ونباهته، ولفصاحته وحسن هندامه، أو تظنه من صنف "الأموات" لدمامة وجهه، أو عدم التناسق في ثيابه.
ولكن حقيقة كل منهما تختلف جذريا عن حقيقة الآخر، وهذه الحقيقة هي السر الكامن في النفوس الذي عليه مناط النجاح، وعليه يتوقف المصير سواء أكان ذلك بالنسبة إلى الفرد أو إلى المجتمع.
فالكسل والخمول، والخلود إلى الراحة، والاكتفاء بما كان، والرضا بما تجود به الصدف والمناسبات، والانكماش والإنزواء في الزوايا والجحور يشل المجتمع ويضع في أقدامه القيود الثقيلة حتى لا يستطيع الحركة والنهوض
…
وهذا "مجتمع الأحياء الأموات"، أو الغثاء والقشور، والجد والنشاط، والطموح والرغبة الملحاحة في التغيير، واختراع الفرص واغتنامها، والنزوع إلى حياة أفضل، وكمال ممكن. كل هذا يجعل المجتمع طاقات حية لا تخمد جذوتها، ولا تفتأ تضيء وتفجر الحياة وتصنع العجاب.
وهذا مجتمع "الأحياء" أو مجتمع "الألباب".
وقد يكون من "الأموات" ملوك وأمراء يرتمون في أحضان العدو ولا يعنيهم غير الحفاظ على نفوذهم، وتنمية ثروتهم، وقد يكونوا من "الأموات" أناس هرأ السجود جباههم وهم أخطر على الإسلام والمسلمين من يهود تل أبيب، وقد يكونوا من "الأموات" أصحاب ملايين لا هم لهم إلا أن ينتجوا
…
ويكدسوا
…
ويهربوا إلى الخارج. وهم لا يفتأون يلهجون بالوطن والوطنية.
إن "الأموات" لا يحصون عددا في الأمة العربية، وخاصة بعد حرب الخليج التي ارتفعت فيها الأستار عن الوجوه وزالت المساحيق وظهر كل شيء على حقيقته. ثارت في نفسي هذه الخواطر والأفكار بعد أن تصفحت هذا الكتاب ـ[الجزائر الثائرة]ـ، لمؤلفه العالم الثائر، المجاهد الإسلامي الكبير، الأستاذ الفضيل الورتلاني، تصفحته لتقديمه إلى قراء العربية في طبعته الجديدة، وقد كنت قرأته منذ أكثر من عشرين سنة وكان أهداه إلى الأديب المصري الكبير المرحوم فريد أبو حديد بعد أن حدثني عنه في جلسة شاعرية في أصيل يوم من أيام الربيع بفناء الفندق الكبير بطرابلس الغرب، حدثني عنه حديث المعجب الذي يستروح من حديثه نسمة دافئة، ويتخيل من خلاله أنه مع المعجب به يراه وينساق معه في جيشان روحي لا حد له.
وأذكر أننا استعرضنا في هذه الجلسة طائفة من رجال الأمة الإسلامية الذين أضاءوا المصابيح أمام الأجيال المختلفة، وأزالوا الصخور عن طريقهم، ودفعوا بهم إلى معركة الإصلاح والتجديد، ومعركة المقاومة ضد الاستعمار بألوانه وأنواعه، أمثال شكيب أرسلان، والأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد الزهراوي، وعبد العزيز الثعالبي، ومحمد علي جناح، ومصطفى كامل، ويوسف العظمة، وعبد الحميد بن باديس، والإبراهيمي، والورتلاني، وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم.
وقد ذكرت إذ ذاك للأستاذ فريد أبي حديد أنني أعتزم إعداد كتاب عن رواد الإصلاح في الجزائر يكون منهم المجاهد الإسلامي الكبير الفضيل الورتلاني، فاهتز فرحا لهذه الفكرة وقال: أرجو أن يتمدد عمري حتى أرى هذا الكتاب وقد أديت فيه بعض ما يجب من حق هذا الرجل على رجال الفكر والقلم في الأمة العربية والإسلامية.
وظلت الفكرة تراودني من حين لآخر، ولكن أعمالا أدبية أو فكرية أخرى كانت تفرض نفسها ولا أستطيع الفكاك منها حتى جاءني في هذا الأسبوع نجل الأستاذ الفضيل ليُولِيني شرف تقديم كتاب والده، هذا الشرف الذي لا يؤهلني له إلا حسن الظن بي، وما لمسته في نجل الأستاذ الفضيل من رغبة جامحة، وإلحاح شديد، وعدته بالنظر في الأمر، وقبل الموعد اتصل بي أساتذة محترمون من الجزائر وقسنطينة يلحون علي في تقديم الكتاب ويقولون في شرف هذه المهمة ما جعلني ألبي رغبة النجل الكريم في أول لقائي به.
وعندما تصديت للكتابة شعرت بالتهيب
…
وعندما أمسكت بالقلم تضاعف تهيبي وتضخم لا لأني سأكتب مقدمة لكتاب دبجته براعة عبقري عاش للجزائر وللأمة الإسلامية كل حياته، وكان بذلك من عظماء "الأحياء"، ولا لأني أكتب عن رجل جاهد طويلا من أجل بلده ثم مات وفي قلبه حنين مبرح إلى رؤيته وقد تحققت حريته واستقلاله وانطلق يبني الحياة ويصنع التاريخ.
وإنما لأن هذا العبقري المصلح لم ينل من أهل الفكر والقلم حظه من العناية والتقدير، وتوارى عنا منذ أكثر من ثلاثين سنة فلم نر عنه إلا كلمات قليلة من الأوفياء نشرت أو ألقيت بمناسبات لا تعدو أن تكون لمعا تسطع في جهام النسيان تنبه وتذكر، وتنعش عواثر المنى.
وكان من حق الأستاذ الفضيل على رجال الفكر والقلم في الجزائر وفي غيرها من البلاد العربية والإسلامية أن يوفوا له ويقفوا على حياته وقفة الذاكر بالجميل،
المدين بالفضل، المفتون بالعبقرية، فيفرغوا في سمع الزمان الواعي آيات الإعجاب والتقدير، وأناشيد الحب والوفاء، وذلك قليل فيمن فهم الحياة نكرانا للذات، وجهادا في سبيل الحق حتى النهاية.
تفاقم تهيبي حينما أمسكت بالقلم لكتابة هذه المقدمة لأني أعلم أن إقبالا كبيرا سيقع على الكتاب يوم يصدر في هذه الطبعة الجديدة لأهميته ولمكانه مؤلفه المرموقة في مختلف الأوساط العلمية والأدبية والياسية في الجزائر وفي العالم العربي الإسلامي، ولأني أعلم أيضا أن معظم الذين سيقرأون هذا الكتاب يجهلون تاريخ هذا الرجل ولا يعرفون أكثر من أنه عالم جزائري ثائر ويودون لو أنهم يقفون على حياته مفصلة أو مجملة على الأقل، من هنا فهم لا محالة سيتعرفون عليه قبل أن يقرأوا كتابه - من خلال هذه المقدمة ومن هنا وجب أن تكون وافية بالمطلوب، وأن تتسم بثقة المطلع، ونزاهة المؤرخ، وخبرة الباحث.
ولا ننسى بجانب هذا مسؤولية القلم الكبيرة التي لا يقدرها في هذا العصر إلا القليل ممن يمارسون الكتابة، فصناعة القلم أكثر المهن العلمية حاجة إلى التفكير والتدبير والنظر في العواقب والآثار لاختلاف المشارب والأذواق، والأخلاق - والكاتب عندما يجر قلمه على القرطاس يجب أن يعلم ماذا يرضى قراء أو يفيدهم ويطابق حاجاتهم ويوافق أذواقهم ولهذا السبب عطل بعض أهل العلم والأدب أقلامهم مع قدرتهم على الكتابة.
وقبل هذا أو ذاك فهناك قلم التسجيل الذي يراقب بدقة كل ما يقال أو يكتب، وبخاصة عمن تواروا عنا ليقول فيهم التاريخ كلمته، وما أصعب أن يجدوا المنصف البريء الذي يكتب كلمته ونصب عينيه قول الشاعر:
وما من كتاب سيبلى
…
ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب لنفسك غير شيء
…
يسرك في القيامة أن تراه
وتعظم مسؤولية القلم - هذه - وتتضخم عندما تكون الكتابة عن (علامة التمييز) بين الرجال "الأحياء" الذين هم في هذا الوجود كالزهور في الغابة لقلتهم، والنجوم المتلألئة في السماء لعلو مكانتهم، كلهم أدركوا سر وجودهم في هذه الحياة وكلهم جاهدوا من أجل هذا السر حتى غادروا هذه الحياة تاركين فيها بصمات تدل عليهم وتنطق بأثارهم على الدوام، ولكن لكل واحد منهم (علامة التمييز) التي تميزه عن غيره وتعطيه معالمه وتضعه في وضعه الصحيح.
وعندما أكتب هذه المقدمة لكتاب واحد أدلاء الطريق الذي صنعهم الله للناس ليستقيموا على هديهم، إنما أحاول أن أضع هذه (العلامة المميزة) على قدر الطاقة وبحسب الظروف النفسية الي يعيشها الخليج العربي، - هذه الأيام - فإن وفقت في ذلك فلي أجران وإن تجافني التوفيق - ولست أول من تجافاه - فلي أجر من اجتهد وأخطأ.
لعل أول ما يلاحظ في حياة الأستاذ الفضيل الورتلاني أنه ولد في (بني ورتلان) بالقبائل الصغرى على جبل شامخ من جبال هذه المنطقة الجميلة التي توافرت في موقعها وطبيعتها ومظاهر الحسن والروعة والجلال.
وإذا كانت البيئة تؤثر في تكوين الأجسام، وصبغ الألوان، وتوفير الصحة، وغرس الطباع وهو المقرر المشاهد فإنها تؤثر أيضا في العقيدة إيجابا وسلبا، ومعنى هذا بإيجاز أن أهل البيئة البدوية أقرب إلى الإيمان من أهل البيئة الحضرية، فسكان البادية لا تتفتح أعينهم صباح مساء إلا على الآيات الكونية الناطقة بالقدرة الإلهية، الموحية للعقل، المفجرة للشعور والإحساس. من جبال شامخة، وأنهار جارية، وينابيع متدفقة، وشمس ساطعة، وقمر منير ..
كل هذا يبعث على التأمل والتفكر وينزع بالقلب إلى الإيمان بالله تعالى.
أما أهل العواصم والمدن فهم بمعزل - تقريبا - عن هذه الآيات، ومن هنا فهم في غفلة من التفكير فيها، والاستدلال بها، وكل ما يحيط بهم صنعه الإنسان بيديه فلا يستشعرون في رؤيته عظمة الخالق سبحانه وتعالى كما يستشعرها أهل البادية ليل نهار!!
وقد يقول قائل، أليست شمس البوادي والقرى هي شمس العواصم والمدن؟ والليل هو الليل، والقمر هو القمر؟ أجل إن الأمر كذلك ولكن شتان بين اجتلاء هذه الأشياء وهي غارقة في ضوضاء العواصم، وجلبتها وصخبها ومبانيها الشامخة، وشوارعها المزدحمة واجتلائها في مطالعها ومجاليها واضحة سافرة لا يخفيها شيء ولا يحجبها حاجب!!.
في هذه البيئه الجبليه، وهذه المنطقة الطبيعية الجميلة الناطقة بعظمة الكون وعجائبه ولد العلامة الفضيل الورتلاني يوم 06 فبراير 1900 في أسرة دينينة متواضعة قطبها العلامة الشيخ الحسين الورتلاني صاحب الرحلة المعروفة باسمه، وصاحب مصنفات أخرى مفيدة. وترعرع الأستاذ الفضيل في هذه الأسرة وحفظ القرآن الكريم مبكرا وتلقى في مسقط رأسه دراسته الأولى على علماء اشتهروا بالفقه وعلوم القرآن وانقطعوا لخدمة الإسلام والمسلمين في هذه الجبال رغم قساوتها الطبيعية، فغرسوا فيه الأخلاق الكريمة والصفات النبيلة، وعلموه أن حياة المسلم يجب أن تكون جهادا متواصلا، وأن العالم المسلم يجب أن يكون كالكوكب السيار يرسل ضياءه لينير سبل الحياة، وكالعافية للأبدان.
ونكتفي بذكر واحد منهم هو العلامة السلفي الشيخ السعيد البهلولي مؤلف كتاب (الرد على القائلين بوجوب تلقين الأوراد) الذي لقي استحبابا ونال رضى في أوساط الطلبة وعلماء الإصلاح.
وهكذا كانت الأرضية التي انطلقت منها حياة الأستاذ الفضيل والعوامل البارزة المميزة التي رسمت نهجه وحددت اتجاهه، وجعلته الغصن الذي يطول، والزهور والثمار التي تعد!!
وفي سنة 1935 عقد العزم على الالتحاق بقسنطينة، وكانت آنذاك مهوى القلوب، ومطمح النفوس، ومعقد الأمال، فالمحظوظ من الطلبة من ساعدته الظروف على الانتظام في الثكنة المحمدية لجند الله، التي قائدها المصلح الثائر عبد الحميد بن باديس، وأسلحتها العلم والتربية، وغايتها صنع الانسان الذي يؤمن بالله ويثبت لرجف الزلزال
…
ويقدر على الحياة الكريمة في ظلمات الخطوب ويكون المنار الذي يرتفع في طريق الدعوة المحمدية في أرض الجزائر.
وندع رفيقه الراحل الأستاذ بعزيز بن عمر في كلمة يتحدث فيها عن هذه الفترة وعن لقائه به ويقول:
"عرفت الأخ الورتلاني أيام الطلب بقسنطينة، وهو شاب يتقد ذكاء، ويفيض نبلا وإحساسا، يبسم للحياة فلا نراه إلا متفائلا بالمستقبل، ويتطلع نحو الآفاق البعيدة، فتبدو أمامه العقبات الكبيرة، ولكنه ليس الذي يرهب العقبات فيجبن عن اقتحامها بل أن له من عزمه ما يذهب كل عقبة، ومن نفسه الوثابة وما يتغلب به على كل ما تقيمه الحياة المتجهمة في طريق العاملين الخلصين"(1).
والغالب على الظن أنه انتظم في سلك الطبقة الثانية عند التحاقه بدروس الإمام وهذا ما ذكره الأستاذ الراحل الشيخ على مرحوم وهو يتحدث عن نشاطه وبعض خصائصه الذاتية.
(1) - البصائر، العدد 8 س 1 السلسلة 2 سبتمبر 26 سنة 1947.
"حينما التحقت بالدروس المشار إليها، وجدت الشمخ الفقيد ضمن الطبقة الرابعة - في أكتوبر سنة 1932 - وقد لاحظت منذ أول لحظة عرفته فيها أنه يتجلى بروح قوية، ويمتاز بحيوية دافقة، ونشاط ذاتي، وحماس متزايد وكان يسعى دوما لربط صلاته بطلاب الشيخ الواردين من مختلف مناطق الجزائر ويتمثل لنا يومئذ كأنه الأخ الأكبر لأولئك الطلاب، يريد أن يخرجهم من حالة الخمول التي جاءوا عليها في أقصر مدة وأن يبعث فيهم الحيوية والنشاط والثقة بالنفس قبل أن يتاح لهم ذلك عن طريق دروس شيخهم"(1).
وكان الأستاذ الفضيل لما حباه الله من مواهب فكرية خصبة، وقيم روحية عالية سريع التأثر بتربية الإمام ابن باديس، والاستجابة لرغباته الملحة في بناء نهضة إصلاحية تعيد إلى الإسلام شبابه وازدهاره في الجزائر، وترى المسلمين فيها طريق العز والمجد والكرامة ..
وكان لا يفارقه على الدوام بغزارة العلم، وصدق الملاحظة، وقوة الروح، وبعد النظر ونفوذ البصر، والخبرة الواسعة بتاريخ الأمم والشعوب صعودا وهبوطا، ورقيا وانحطاطا، وتعلم الأستاذ الفضيل من أستاذه كيف يتخذ الجهاد في سبيل العلم والإسلام والعربية عقيدة، وإذا لم يكن للجزائر سلاح تقاوم به الاستعمار الفرنسي البغيض حتى تكتسحه من أرضها فإن لها العقول التي تصنعه، هذه العقول التي يجب بذل الكثير بلا كلل أو فتور من أجل ترقيتها وإضاءة الطريق أمامها.
ويقول عنه العلامة الأستاذ البشير الإبراهيمي في هذا المنحى:
"لازم إمام النهضة عبد الحميد بن باديس فتأثر بمنازعه الخطابية ومواقفه في حرب الضلال، وسقيت ملكته بغيث ذلك البيان فأصبح فارس منابر، وحضر اجتماعات
(1) - الثقافة الحدد 34 شعبان / رمضان 1946.
جمعية العلماء العامة والخاصة فاكتسب منها الصراحة في الرأي، والجرأة في النقد، والاحترام للمبادئ لا للأشخاص، ثم لابس السياسيين وغشي مجتمعاتهم، فرأى من زيغ العقيدة، وزيف الوطنية، وانحلال الأخلاق ما جعله يثور عليهم" (1).
وكان الأستاذ الفضيل - وهو ما يزال يسير على ضوء دروس الإمام - ثورة على البدع والخرافات، ودعوة إلى الإسلام الصحيح، وإحياء اللغة العربية لغة الدين والوطن وحملة شعواء على الطريقة الضالة، والشعوذة المخربة، وإنصاف الرجال الذين باعوا أنفسهم وضمائرهم وألسنتهم لفرنسا، ووقفوا أجسامهم وعقولهم على خدمتها، فكانوا لها عيونا وأعوانا، وجنودا وعبيدا ..
هكذا كان ثورة ودعوة وحملة فى كل مكان، في أوساط الطلبة والمجالس الخاصة والعامة بالجزائر وقسنطينة، في الشارع، وفي المقهى، وفي المطعم وفي كل مكان يحتضنه .. وكان يردد كلمة أستاذه كلما شعر بخطورة الموقف، أو تأزم الوضع، أو ظلام الليالي الحوالك يضرب على الأفق فيخفي صوى الطريق ومعالم الحياة: "من رام أن يحول بيننا وبين فكرتنا التي نؤمن بها فقد حاول عبثا قلب الحقائق فلن نتزحزح قيد شعرة مهما طمي سيل الكوارث على أمة لها ما للشعب الجزائري من الصفات المرغوب فيها، الكامنة كمون النور في الكهرباء (2).
واستهوى الأستاذ الفضيل الإمام المصلح بما امتاز به على أقرانه، من فصاحة اللسان وسعة الإدراك وقوة الحجة، وتوقد الفطنة، إلى شجاعة وجرأة ونشاط - فاختاره لتمثيل "شهاب" عبر الوطن، وكان ينتقل باسمها في أنحاء القطر الجزائري، يوضح خطتها ويكثر أنصارها، ويدعو إلى الإصلاح ومحاربة الضلال
(1) - الجزائر الثائرة.
(2)
- تراجم الأعلام المعاصرين، للأستاذ أنور الجندي ص:198.
والانحراف، وقد وجد ضالته المنشودة في هذه المهمة فقام بها خير قيام مما جعل اسمه يتردد على ألسنة الناس بالإعجاب والتقدير.
كما اختاره الأستاذ الإمام مساعدا له في التدريس لبعض المناهج المقررة من بداية السنة الدراسية 33/ 1934 فنهض بالمهمة أيضا خير نهوض وكان أبرز ما يميز دروسه أنه لا يكتفي بدرس المادة المقررة، بل يتناول ما شاء من الأدب والتاريخ والسياسة، وغيرها، يؤاتيه في كل ذلك لسان فصيح، وقريحة وقادة، وعبقرية في التفكير (1).
وكذا كان شأنه في مدرسة التربية والتعليم عندما أنيطت به هاذه المهمة هناك فكان منبعا فياضا وشعلة هادية، ومربيا ماهرا.
وعلم الطلبة في ندوات خطابية كان يشرف على تنظيمها حرمة البيان العربي وكيف يقتصدون في الكلام قولا وكتابة فإن خير الكلام ما قل ودل، وكيف يرتادون طريق الكلمة قبل تسجيلها بالصوت أو المداد، لأن للسان والقلم مسؤوليتهما ولا بد من رعايتها، ومراعاة مسؤولية اللسان والقلم هي الفرق بين صناع الكلمة وهي الضمان لإجادة التعبير.
وكانت العلاقة بينه وبين الطلبة تقوم على الصحبة والمودة والتقدير وكان كل طالب منهم يشعر بأن الأستاذ الفضيل والد له يكن له الخير ويريد له النفع، ويعمل لتكوينه فكريا وروحيا ووطنيا، ومن ثم فقد كان الطلبة لا يشعرون معه بسيطرة أو سطوة أو رهبة، وإنما يشعرون معه بما يشعر به الأبناء مع والديهم مما جعل الفترة التي قضوها معه خصيبة غنية المردود فيذكرونها بالرضا والتقدير.
(1) - مقال بمجلة الثقافة للشيخ علي مرحوم العدد 34 أغسطس - سبتمبر 1976.
ولقد دفع الأستاذ الفضيل بالطلبة إلى العمل الجاد في متابرة وصبر، وعمق في نفوسهم حب الله والوطن، وهيأ لهم الجو الذي يسمح لهم بالتفكير الحر، والحوار البناء، وكان يهيب بهم أن يقرؤوا التاريخ ويستنطقوه عن الأمم والشعوب ليعرفوا قيمتهم وقيمة أمتهم في هذا الوجود ويعرفوا أنها محقة حينما تطلب الحياة الكريمة وتتعشق الحرية وتستهين بالموت في سبيلها وكان يلفت أنظارهم إلى أمجاد الأمة الإسلامية ويستحثهم على ترسم خطاهم والتجلي بأخلاقهم والاعتزاز بهم، وكان يحبب إليهم اللغة الوطنية لغة القرآن الكريم، ويحرضهم على التحدث بها وينزع بهم إلى النطق بها سليمة صحيحة، ويؤكد لهم أن من يتحدث بغير لغته من غير ضرورة فهو في خليقته وعقيدته ونمط تفكيره لا يختلف عن أهل تلك اللغة، وهو محكوم عليه بالتبعية المدنية والعبودية الأدبية، والوجود "الملفق" دون أن ينسى أن يحثهم في الوقت نفسه على تعلم ما أمكن من اللغات الأجنبية فإن المرء يتعدد بتعدد اللغات التي يجيدها شريطة أن تكون لغته الوطنية (العلامة المميزة) لوجودد والمظهر الصادق لاستقلاله ووطنيته.
وقد نال الأستاذ الفضيل بمواهبه الفكرية وجهوده البناءة المتميزة سواء في حقل التربية والتعليم، أو في مختلف المجالات الإصلاحية الأخرى رضا أستاذه الإمام فكان يصطحبه في جولاته عبر الوطن التي كان يعقدها من حين لآخر لنشر الإصلاح وتكوين الجمعيات، وتأسيس المدارس فتمكن الأستاذ الفضيل من رؤية الوضع في الجزائر على حقيقته، وسماع ما يثير دفائن الأسى والحسن من مهازل الاستعمار الفرنسي وفظائعه، واتضح له أن واقع الأمة الجزائرية بين عدوين جائرين أحدهما في الداخل وهو الذي يتمثل في البدع والخرافات والمفاهيم الخاطئة التي تنخر في كيان الإسلام، والآخر من الخارج وهو الاستعمار الفرنسي الفاجر الأعوج الذي يلح على الأمة بالقهر والفقر، والعذاب والخراب مما ظهر أثره بعد ذلك في مقالاته ومحاضراته المختلفة في الشرق والغرب.
وينبغي أن نلاحظ للحقيقة والتاريخ، ولزيادة التوضيح أيضا أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان الأستاذ الفضيل أحد أبنائها البررة كان لها الأثر العظيم في مجال اليقظة والإصلاح في الجزائر، كما كان لها الفضل الكبير في تكوين رجال صالحين أبرز ما يميزهم الإخلاص للجمعية، والتفاني في خدمة مبادئها، والسير على نهج رائدها المصلح ابن باديس الذي علمهم أن ليس بينهم وبين الغاية - وإن كانت بعيدة - إلا أن يسلكوا إليها طريقها بلا تردد أو خوف!!.
ولا يمكن إدراك عملها الضخم، وتصور جهادها الخطير إلا بإدراك خطورة الوضع، ومرارة الواقع الذي برزت فيه الجمعية وتصدت لتغييره، فالاستعمار الفرنسي قد جند كل ما يملك من حيلة وقوة للقضاء على الإسلام واللغة العربية في الجزائر، وطبق قوانين قاسية جائرة غايتها جعل أبناء الوطن عبيدا بل أنعاما للمحتلين يمضون أعمارهم في العمل الوضيع، أو الكسل المذيب، أو الملل المميت، وبجانب الاستعمار بعض الطرقين الذين أخذوا من العلم قشورا فظنوها لبابا، وكانوا للاستعمار خرافا وظنوا أنفسهم أسودا، لم يعرفوا من الإسلام إلا أنه مظاهر مألوفة، وملابس موروثة، وخضوع لأولي الأمر في كل ما يأتون وما يدعون كأنه تنزيل من السماء، وجعلوا الإسلام جسما بلا روح، وطقوسا هزيلة باهتة، ولقاءات نكر، وحفلات "شطح" أو جذب وكانوا بذلك أكبر أعوان الاستعمار على تدمير القيم الإسلامية ومسخ الإنسان الجزائري.
وكانت ثورة ابن باديس ورجال جمعية العلماء ضد الجهل والاعتقاد الزائف، والفكر الجامد، وثورة على الطرقية الضالة والشعوذة المخدرة، وثورة على المهازل السياسية الاستعمارية الفرنسية وقد أعلن عن إصراره على مواصلة الجهاد ضد هذه الجبهات مهما كانت الظروف وكانت المؤامرات والعراقيل وكان يقول:
"تستطيع الظروف أن تكيفنا ولكنها لا تستطيع أن تتلفنا".
وكان الأستاذ الفضيل من أبرز رجال الجمعية، ومن مشاهير مناضليها المخلصين الذين وقفوا ضد تلك الجبهات مواقف شجاعة تذكر بالإعجاب والتقدير، وكانوا مثلا يقتدى في حب الوطن والغيرة على الدين واللغة العربية والتفاني في العمل الجاد بكل تجرد ونزاهة.
وكانت الوشائج والأواصر التي تربط الإمام المصلح برجال الجمعية هي الأواصر التي تربط كل جمعية أو طائفة نهضت لنصرة الحق، ومحارجة الباطل، ولذا انتصرت وحققت في الجزائر إنقلابا فكريا كانت ثماره فى الثورة التحريرية وفي العهد الجديد.
تلك الأواصر تربط بين أفراد الجمعية وفي الوقت نفسه كانت حوافز وضوامن ومحققات، فهي تحفز الهمم وتحدد الغاية، وتضمن الاستقامة على الجادة، وتحقق النجاح.
فالآصرة الأولى هي آصرة الأخوة والمحبة والألفة والإيثار التي لا يعرف سرها إلا من عرف سر التألف والمحبة بين بلال (العبد) وأبي بكر (السيد) وسر هذا أو ذاك في قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63).
والآصرة الثانية هي آصرة الفكرة والهدف وهي التي تجعل الإنسان يمضي في الطريق المختار غير مكترث بما يلاقيه من متاعب ومشاق، وقد يعذب أو يسجن أو يموت ولكن كل ذلك هين في نظره. والآصرة الثالثة هي آصرة التنظيم لأن الجمعية أو الطائفة التي لا نظام لها تسير عليه لا يمكن أن يكتب لعملها النجاح أو تقوم لدعوتها قائمة، والتنظيم يتطلب قبل كل شيء حسن القيادة ..
والقيادة الحسنة تقوم على الشخصية القوية، والكفاءة المرموقة، وعلى الحزم بعد الشورى، وهذا ما توفر في الإمام المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس حتى تمكن
من جمع أهل العلم المتنورين حوله والتعاون معهم على النهوض بالحركة الإصلاحية، والتجديد، واليقظة الإسلامية بالجزائر.
وبتلك الأواصر الوثقى التي لا تنصر الطائفة المصلحة إلا بها، والتي نستشفها أو نستروحها من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي الله بأمره" استطاع كل واحد من أقطاب الجمعية أت يتقمص روح الإمام وشخصيته ويسير بكل إخلاص، وبكل جهد على النهج الذي رسمه، وبالروح التي كان يمتاز بها. فإذا بالإبراهيمي، والميلي، والتبسي، والورتلاني يحملون لواء الدعوة كما حملها رئيسهم بعزيمة قوية، وإرادة صارمة، ورغبة لا يختلط في نبعها حق بباطل، ولا نور بظلمة، ولا لون بلون لأن ارتباط كل واحد بالجمعية، وارتباطه برئيسها ارتباط روح بروح، وقلب بقلب، ومبدأ بمبدأ، وهدف بهدف، ومصير بمصير، وهو أن تتحرر الأمة من الجهل والجمود، والإستعمار وأن تنطلق في بناء الحياة ووضع التاريخ.
ومن عمق النظر في مواهب الفضيل وخصائصه وتتبع مختلف حياته الجهادية تبين لهم الأفق البعيد المشرق الذي يجمع الفضيل بأستاذه الإمام وأيقن أن القدوة الحسنة تصنع في الإنسان ما لا يصنعه التعليم، فقد كان الإمام في نظر الفضيل المثال الأعلى لما يجب أن يكون عليه المصلح المجدد: عقيدة راسخة، وتفكير عميق، ونظرة بعيدة، وشخصية قوية، واستماتة في خدمة الإسلام واللغة العربية، وحياة كلها جهاد متواصل لا يعرف الفتور.
رأى الفضيل كل ذلك في أستاذه الإمام وتأثر به ونزعت نفسه أن يكون مثله فكان!!.
ولا ضرو أن يكون .. فهو مرشح ومتهيء لذلك منذ طفولته وشبابه المبكر.
أليس فرعا من الدوحة المباركة الراسية العررق، والمتهدلة الأغصان، والمتفيئة الظلال، ومن سلالة الأشراف من بني ورتلان؟
أليس ما قوم لسانه وأطلق لهاته، وقدح في حنايا ضلوعه حب العلم والمعرفة هو كتاب الله؟ ألم يكن أول تعلمه على فقهاء المنطقة الذين أدركوا جوهره الخالص، وعنصره الحي فغرسوا فيه أخلاق النبل، وصفات الكمال؟
كان الإمام المصلح الشيخ عبد الحميد يقدر في ابنه الروحي مواهبه الفكرية وإخلاصه في جهاده التربوي والإصلاحي، ويرتاح لنجاحه الباهر الذي يشكر كلما يذكر، وكانت له في الجزائر سمعته الواسعة، ومكانته البارزة، مما يدعو إلى البقاء في الجزائر ومواصلة الكفاح بجانب أستاذه وإخوانه العلماء، ولكنه رأى - وهو الذي أعده القدر لحياة كلها صراع وجهاد ونصب وسهر، وتنقلات مضيئة، وأسفار مكدية من أجل تخفيف متاعب الناس وآلامهم وإضاءة جوانب الحياة أمامهم - رأى أن يغادر الجزائر إلى فرنسا ويلتحق بجاليات الجزائر الذين (استهوتهم أرض فرنسا وربوعها الجميلة ومدينتها اللامعة، فأشفق عليهم أن يبتعدوا عن وطنهم وأجسامهم وأرواحهم معا). ويصبحوا فيها مرتعا عريض الكلأ تخور فيه السوائم الغربية بفكرها وتمسيحها وتمسيخها، فشد الرحيل إلى فرنسا في منتصف سنة 1936 مزود بنصائح الإمام وتوجيهاته، مسلحا بعقيدته وإيمانه تاركا أهله ووطنه.
ورغم ما تمتاز به الحياة في فرنسا من سحر وجمال، وما تنفتح عليه العين صباح مساء من مفاتن الدنيا ومغرياتها التي تجلب الألباب وتخطف الأبصار فإن الأستاذ الفضيل لم يجعل نصب عينيه سوى رسالته، ولم يكن يشغله أبناء وطنه الذين أمسوا كالأيتام في مأدبة اللئام، فلم يفكر في جولة أو راحة أو استجمام، هو الذي ظل في الجزائر مدة طويلة لا يعرف الراحة، وما أن وقف على أوضاعهم المختلفة
التي تبعث على الأسى والحزن حتى عزم على إنقاذهم، والنهوض بهم إلى المستوى اللائق مهما واجهه في ذلك من متاعب ومشاق، صحيح أنها مغامرة قد تبوء بالفشل ولكن ذلك لم يكن يهمه بقدر ما يهمه فعل ما أمكن من جهد فمن بصيص اليقين ما يبدد الظلام، ومن قليل الحق ما يكتسح الباطل، فالمهما عنده أن يتحرك ويحاول ويبذل الجهد
…
وما هي إلا أشهر قليلة حتى جمع كلمة العمال الجزائريين وأخذ يعلمهم الإسلام الصحيح، ويرشدهم إلى الطريق الأمينة، وقام بحركة أدبية دينية تهذيبية كان لها أثرها العميق في نفوس أبناء الجزائر!!
وكان الأستاذ الفضيل يتعرف على مختلف الشرائح الجزائرية، ثم يحاول أن يقف على ما في عقولهم من نزوعهم إلى الحق، وما في نفوسهم من طموح إلى الخير، وما في أذواقهم من صبوة إلى الجمال، فينميها حسب طاقاتها، ويتيح لها المجال، ويعطيها من تجربته وخبرته، ما ينعشها ويعدها للحياة، وتلك طريقته في معالجة النفوس التي أشفق عليها أن تذوي كما يذوي النبات المكروب والأمل المخيب!!
نفخ فى أبناء الجزائر هناك الروح الوطنية الصادقة، وطهر عقولهم مما نقلوه من زائف المدينة، وجراثيم الإلحاد، وسخافات اجتماعية بالية قذرة!!
وبعد جهاد شاق متواصل وعمل دائب منتظم ظهرت مدارس وأندية في مختلف المدن الفرنسية باسم (التهذيب) وانطلقت تؤدي رسالتها التربوية والتعليمية، من تنظيم المحاضرات الدينية وإلقاء الدروس التربوية، وفي هذه الرحلة الميمونة، والنهضة المباركة البناءة في أرض فرنسا يقول المرحوم الشيخ البشير الإبراهيمي: " .. جاوز البحر سنة 1936 بموافقة من الأستاذ الرئيس، ومني ليرد على الضالين من أبناء قومه هداية الإسلام، ويرد على الناشئين هناك من أبنائهم ما أضاعه الوسط من دين
ولغة، وليزرع في قلوب الآباء والأبناء معا حب الدين، والجنس واللغة، والوطن، وليعيد إلى الجزائر بذلك كله قلوبا قد تنكرت لها، وأفئدة هوت إلى غيرها، وغراسا أضماهم الاستعمار في مغارسه، فالتمس الربى والنماء في غيرها، فتتبعهم الفضيل في مطارح اغترابهم وجمع شملهم على الدين وقلوبهم على التعارف والأخوة، وجمع أبناءهم على تعلم العربية وأسس في باريس وضواحيها بضعة عشر ناديا عمرها هو ورفاقه الذين أمدته بهم جمعية العلماء، بدروس التذكير للآباء والتعليم للأبناء، والمحاضرات الجامعة في الأخلاق والحياة، ونجح الفضيل في أعماله كلها نجاحا على المسلمين في فرنسا بالخير والبركة.
ونجح الفضيل هذا النجاح الباهر الأنه كان مؤمنا بالله وكان أيضا قويا .. وقوة الفضيل تكمن في العقل والروح، وفي اللسان والقلم، فقد كان قوي الحجة صحيح الدليل، عميق الفكرة، بعيد النظرة، يصقل روحه بالقرآن، ويمحصها بالارتياض والتأمل والصيام، وكان إلى ذلك كله بارز الشخصية قوي الرجولة، جريئا في كل رأي يراه، وفي كل عمل يتولاه، مجتهدا في الفهم، يحاول اكتشاف الآفاق البعيدة والنظر الثاقب، والإدراك النافذ ..
أما قوته في اللسان والقلم فقد كان بليغا فصيحا - كما ذكرنا -
فإذا كانت الخطابة من أقوى وسائل الإقناع ومن أهم أدوات النضال السياسي والثقافي والاجتماعي فإن الأستاذ الفضيل كان في طليعة الخطباء المصاقع وكانت له مميزات الخطيب ومواهبه: شخصية قوية، وذهنية خصبة، وعقلية قوية، وبديهة حاضرة، ولفظ مختار، وقدرة على الارتجال لا تبارى!!
إذا نهض يخطب في النوادي والمحافل، نهضت معه القلوب، وثارت معه الخواطر، وانشدت إليه المشاعر والأحاسيس طالما هو يتكلم، وكانت قدرته على
الخطابة واللغة الأمازيغية لا تقل عن قدرته بالعربية وقد قيل أنه ألقى خطابا ذات يوم في حشود من أبناء الجزائر بفرنسا، سحر القلوب، وخلب الألباب، ولما نزل من المنصة ارتفعت أصوات من القاعة باللغة الأمازيغية تبدي الأسف من غموض الخطاب، فصعد إلى المنصة مرة أخرى فألقى خطابا بالأمازيغية اهتزت له القاعة.
وهكذا كانت الخطابة أحد العناصر الأولية البارزة التي نبغ بها الفضيل بفرنسا وبلغ بها مكان الزعامة في الشرق العربي. وحقق بها نجاحا باهرا في مختلف الأوساط ..
ولما اتسعت الحركة بفرنسا وثقلت الأعباء على الأستاذ الفضيل، أمده أستاذه بنخبة من رجال العلم والإصلاح فشدوا أزره، ورفعوا جميعا صوت الإسلام والعروبة عاليا بأرض فرنسا وساروا على المنهجية التي رسمها االأستاذ الفضيل وكلهم إيمان بأن كافة معارفهم وأفكارهم وجهودهم يجب أن تكون في خدمة الإسلام والمسلمين، وأن الظلمات التي ترين على القلوب والعقول لا تزول إلا بالنور: نور العلم ونور الدعوة الصادقة، والجهد المتواصل.
وظل الأستاذ الفضيل في فرنسا يؤدي رسالة جمعية العلماء المسلمين، بكل ما أوتي من شجاعة قلب، ومضاء عزيمة، وقوة بيان، وزاد حركة الفضيل دعم وامتداد انضمام شخصيات علمية شرقية إليها، فاجتمع الشمل على إحياء المسلمين هناك وتواجد الصف، وانطلقوا جميعا في طريق الدعوة والإصلاح مدفوعين بإرادة قوية، ورغبة في الجهاد الفكري والقلم جامحة، وكان ممن انتظموا في الحركة بدروسهم ومحاضراتهم: الشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ محمد دراز، وهما من كبار علماء مصر، والأستاذ عمر بهاء الأميري السوري.
ولكن هذه الحركة لاقت معارضة ومناهضة من بعض المغرضين الذين يقلقهم النور، وحاولوا أن ينالوا منها بحيادهم ومكائدهم ومناوراتهم، ولكن أنى لهم ذلك والحركة قائمة على الجهاد المستمر الواعي تحبط المناورات وتكتسح المكائد والعقبات، وتستمد عونها وقوتها من الله رب العالمين ..
ولما لاح في الأفق السياسي الغربي بوادر الحرب العالمية الثانية، غادر الأستاذ الفضيل فرنسا إلى مصر - لاسيما والسلطات الفرنسية تتعقب كل تحركاته، وتأخذ بمتنفسه تمهيدا لإلقاء القبض عليه وكان ذلك في أواخر سنة 1938.
والتحق بالجامع الأزهر معقل العروبة والإسلام، وتابع الدراسة فيه إلى أن أحرز على الشهادة العالمية الأزهرية وهي أعلى شهادة تمنح في الأزهر.
وكان الأستاذ الفضيل حريصا على متابعة أخبار الجزائر بحس مرهف، وتلهف ظامئ في كل مكان يحل به، فيطرب للإيجاب منها وينتشي ويتأثر للسلبي ويعتصره الألم وكان إذا رأى جزائريا فتح له قلبه، وثارت معه ذكرياته وحن إلى الجزائر حنين الآلف فارقه القرين.
آثر البقاء بالقاهرة مركز الثقافات المختلفة، وملتقى النازحين من أبناء العروبة والإسلام ومجمع العلماء والمفكرين ورجال السياسة وأحرار الفكر، الذين نبت بهم ديارهم، وطوحت بهم مضايقات الاستعمار ليحملوا لواء الغضبة المقدسة في وجه العدو خارج بلادهم.
وجد الجو ملائما، بل مشجعا على مواصلة الجهاد من أجل الجزائر والقضايا العربية والإسلامية الأخرى، فاستأنفه بإرادة أقوى، وعزيمة أمضى، ونفس لا تعرف الكلل أو الفتور، وبالرغم من بعده عن الجزائر فإنه كان يقلق المستعمرين الفرنسيين، وينغص حياتهم، ويكدر صفوهم، بموافقة الدفاعية عن الجزائر، ومقالاته الصحفية الجريئة التي ينذرهم فيها بالويل والثبور ..
وزار الأستاذ الفضيل الورتلاني كثير من الأقطار العربية والإسلامية كالكويت وإيران، والمملكة السعودية، والبحرين، والباكستان، كما زار بلدان مختلفة في أوروبا كاليونان، وإيطاليا، وسويسرا، وإسبانيا، والبرتغال، وكان له في كل بلد يزوره أو يقيم به نشاط مكثف واسع. وصلات بمختلف الجمعيات والهيئات، ورجال العلم والفكر والقلم والدعوة ..
وكان الأستاذ الفضيل يحمل بين جوانبه في كل سفر سافره وفي كل بلد يحل به، وفي كل عمل يقوم به، ثورة ملتهبة لا تدعه يهدأ أو يغفل أو ينام قرير العين، فهو على الدوام يعيش بين لجج الظلمات يحاول أن يبدلها ويكتسحها ويبعث فيها نور هادئ فيه الأمن، وفيه الهداية، وفيه الطمأنينة، إنها ثورة ضد أوضاع المسلمين عامة في الشرق والغرب، تلك الأوضاع الرهيبة الفاجعة التي صنعها الاستعمار وعملاؤه وأذنابه، الذين استحلوا حياة الذل والاستخذاء تحت سيطرة المحتلين والحكماء والمستبدين ..
ولم تكن هذه الثورة التي تتأجج في حنايا ضلوعه - وهو بالجزائر أو بمصر، أو هو متنقل بين مختلف البلدان الشرقية أو الغربية - قد أوقدتها رغبة في منصب أو وظيف أو ألهبتها نزعة إلى سمعة أو شهرة، بحيث إذا تحققت الرغبة أو حصل المأمول.
بدأت الثورة وانطفأت، بل هي ثورة مقدسة قدستها كلمة الله، ودعوة محمد بن عبد الله، وأضرمها حب الوطن وحب الإسلام والمسلمين، ووجه أقباسها وشعلها وشظاياها ابن باديس.
هذه الثورة التي ظلت تتأجج في أعماق الأستاذ الفضيل طوال عمره وكان من أجلها شعلة تبرم النار وتنير الطريق، وهي التي قال فيها الأستاذ الداعية سعيد رمضان:
"هي ثورة يجدها صاحبها في ذاته حين يخلو، فالسجن ينشرها، ولا يطويها، ويعرف أصحابها أن سلفهم حملوها تحت مطارق العذاب من كل لون، فالعذاب دائما يصل يومهم بأمسهم، وينزع كل دعي من قافلتهم حتى إذا أبلغ الأمر صداه فلم تعد عين الله تقع منهم إلا على صدق وهمة أشرق النور من خلال العتمة القاسية، وانبلج وجه الصبح بسنة الله التي لا تختلف حتى إذا استأيس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا (1).
ومن كلمات المجاهد الإسلامي الكبير الفضيل الورتلاني قول في مقال بعنوان: "اقتدوا بخصومهم أيها العرب":
"لعل أبرز صفة في اليهود وأقواها على نجاح سياستهم العالمية هي المهارة في استغلال الفرص بل وفي خلقها في كثير من الأحيان. فما من حادثة ذات أهمية تقع في جانب من جوانب الكرة الأرضية إلا وتجدهم أسبق الناس إلى دراستها ومحاولة الاستفادة من آثارها الحسنة والسيئة إلى السواء وعلى العكس من ذلك فلعل أبلد الناس في هذا المعنى بالذات هم حكام العرب .. "(2).
وقوله من مقال: تحت هذا العنوان: "هل يعرف العرب هذه الحقائق عن فلسطين؟ ".
"أيها العرب، أيها المسلمون، إليكم أسوق الكلام لمرة أخرى عن فلسطين، وأنا أعلم أنكم قد مللتم الكلام عن فلسطين لأنكم ألفتموه من عشرات السنين حتى ما بقي ضرب من ضروب البيان في النظم وللنشر إلا وقد مر على أسماعكم يحمل اسم فلسطين، ومآسات فلسطين وكارثة فلسطين، والدعوة إلى التضحية بالمال والأنفس في سبيل فلسطين وإلى غير ذلك من صراخ وبكاء
(1) - مجلة (المسلمون) ع. 1 م. 5 رمضان 1375 هـ نيسان 1956.
(2)
- البصائر العدد 290 سبتمبر 1954.
وعويل على فلسطين، على أننا نقوم بملء الفضاء بتلك الصيحات من الأقوال مزهويين، كأن اليهود يملأون بالأفعال صامتين ومتواضعين" (1).
وقوله في مقال بعنوان: (محنة اللغة في الجزائر):
"إن اللغة العربية مظهر مقدس من مظاهر كرامة الأمة التي تحترم نفسها وعنوان مجدها ووجودها ولا يجوز أن يقل اعتبار اللغة العربية في مجال الكرامة من اعتبار العلم والنشيد الوطنيين.
واللغة العربية ليست لغة الجزائريين وحدهم، وإنما هي لغة الأمة العربية قاطبة، وعنوان كرامتها ووجودها، فمن أهان اللغة العربية فإنما يهين العرب أجمعين، هذا هو المنطق يوم كان للمنطق سلطان على فكر الإنسان، وعلى أساس هذا المنطق أتحدث إليكم اليوم أيها العرب عما أصاب لغتكم من إهانة واضطهاد في عقر دارها .. في الجزائر، وعما ألحقه المستعمرون الفرنسيون في أرضها من ازدراء واحتقار (الجزائر الثائرة ص 82).
وممن له بهم علاقة قوية من رجال العلم والفكر والقلم والسياسة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز وكيل الجامع الأزهر، والأستاذ محمد بدرة وزير الشؤون الإجتماعية بتونس، والأستاذ محمد محمود الزبيري وزير معارف الييمن، والأستاذ محمد الوزاني رئيس حزب الشورى بمراكش، والأستاذ محمد خيدر مندوت حزب الشعب الجزائري، والأستاذ محمد علي الطاهر رئيس اللجنة الفلسطينية بالقاهرة، والسيد أحمد حلمي رئيس حكومة فلسطين، (ذكرنا هؤلاء بمناصبهم في ذلك العهد) والشيخ فهمي هاشم الوزير الأردني في المملكة السعودية، الحاج الأمين الحسيني مفتي فلسطين، والأستاذ القليبي، والحبيب بورقيبة رئيس حزب
(1) - البصائر العدد 286 سبتمبر 1954.
الحر الدستوري التونسي، وشاعر العروبة وأندونيسيا علي أحمد باكير، والشاعر محمود جبر المعروف (بشاعر آل البيت)، والأستاذ كامل كيلاني، والأستاذ ساطع الحسري، والدكتور محمد عبد الله دراز والأستاذ حسن البنا.
والكلمة الجامعة هي أن للأستاذ الورتلاني صلات ودية بمشاهر العلم والقلم، ورواد النهضة الفكرية، ورجال السياسة في الشرق والغرب، وله مع الكثير منهم مكاتبات في مختلف الأغراض والمجالات، لا سيما فيما يخص تحرير الشعوب الإسلامية المستعمرة.
ذلك - قارئي العزيز - الأستاذ العلامة الفضيل الورتلاني أحد النماذج الإنسانية التي يبعثها الله في هذه الأمة كلما شاع المبطلون، وكثر الضالون، وطغى المفسدون، وتسلط المتجبرون، يبعثهم للجهاد في سبيله، والدفاع عن سننه ومقاومة الشر وأهله حتى يستقيم ميزان العدل، فينتصر بهم الضعيف، ويسعد بهم المجتمع، ويذل بهم الظالم، ويأمن الخائف ..
أدرك الفضيل رسالته في الحياة فحملها .. وأداها خير أداء .. وجاهد بالفكر الحر والكلمة الصريحة، وطرح جانبا حياة الراحة والنعيم، والأنس بالأهل في الوطن، وآثر عليه حياة التعب والسهر والغربة، واقتحام الصعاب، ومنازلة الخطوب، ومخاطر الأسفار، وكان بإمكانه أن يبقى بالجزائر مع زوجه وأهله، وقد كانت له فيها شهرة واسعة، ومكانة مرموقة، وأثر فعال في تنوير العقول، وتهذيب النفوس وحفز القرائح، ولكن الأستاذ الفضيل عرف نفسه حق المعرفة وتغلغل في أعماقها ليعرف ما يستطيع وما لا يستطيع، ورسم لحياته غاية اتخذ لها هذا الطريق الشاق الذي بغيره لا تتحقق هذه الغاية التي لا تعرف المحاباة ولا التزييف والحدود الضيقة أو المصطنعة.
وشاء القدر بعد عمر حافل بجلال الأعمال أن تكون النهاية في أنقرة يوم 12 مارس 1959 ولكن يخطئ من يظن أن للعظماء نهاية بموتهم، فالذين ينتهون بموتهم ويختفون باختفاء أجسامهم في التراب إنما هم "الأموات الأحياء" أما العظماء الذين تتجدد الحياة بجهادهم ونضالهم فإنهم لا يموتون، بل يبقون على الدوام في القلوب وعلى الألسن، وفي الأعمال التي خلفوها وراءهم.
دقات قلب المرء قائلة له
…
إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
…
فالذكر للإنسان عمر ثان
وفي يوم 12 مارس سنة 1987 نقل رفاة الأستاذ الفضيل الورتلاني من أنقرة إلى مسقط رأسه ببني ورتلان بالجزائر، وكان يوما مشهودا، وقف الناس حول نعشه وجوههم إلى الأرض وأفكارهم إلى الوراء، يستعيدون تاريخ هذا الرجل من يوم أن كان طفلا صغيرا يتعلم القرآن في كتاب القرية إلى يوم أن احتضنته قسنطينة طالبا في حلقات الإمام ابن باديس أو مساعدا له. أو معلما في التربية والتعليم إلى أن كون جمعية التهذيب بباريس لإنقاذ الآلاف من أبناء الجزائر من التفرنس والتمسيخ إلى رحلاته في مختلف الأقطار العربية والإسلامية من أجل الجزائر والإسلام والعربية وقضايا التحرر في العالم.
وكان يوم نقل رفاته يوما مشهودا انتصر فيه الأستاذ الفضيل وهو رفاة انتصارا باهرا له أبلغ المعاني وأسمى الدلالات: انتصر جهاده الطويل من أجل العربية والإسلام، ومن أجل أن تتحرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وانتصر إيمانه الذي طالما قهر التبشير والتنصير في الجزائر وفي فرنسا، وانتصرت إرادته التي طالما حاولت غلاة الاستعمار وطغاته، وانتصرت بلاغته التي طالما افحمت فرنسا الفصاحة والبيان.
وقف الناس حول نعشه فشعروا من الأعماق بالنخوة والكبرياء لأن هذا الرجل كان في حياته طاقة ثائرة .. وعنوانا صادقا على آمال هذه الأمة، وأصبح وهو رفاة معنى مقدسا من معاني المجد والخلود، ومثالا أمام الشباب يرون فيه الحياه جهادا ونضالا ومغامرة وإقداما، ولا تخضع إلا لمن يصنع مصيره بيديه ويختار طريقه بنفسه.
وبعد: فقد قلت بعض ما يمكن أن يقال في هذا الرجل العظيم، لأن حياته بحر لا ساحل له ولا قعر، فكلما غاص الباحث في أعماقه تجلت له لآلئ رآها أنفس وأجمل، وأجدر بالاهتمام. ولكن فيما ذكرت كفاية لأن الأستاذ الفضيل لا يريد منا أن نتغنى بجهاده بقدر ما يريد منا أن نترسم خطاه وأن نخلص للجزائر والعربية والإسلام التي عاش ومات من أجلها.
أما كتابه القيم ـ[الجزائر الثائرة]ـ فخير ما يقدمه إلى قراء العربية الكرام هو مؤلفه بما دبجته فيه يراعته من أشرق الصفحات في تاريخ الجزائر والأمة العربية والإسلامية، وبالروح الكبيرة التي أملت عليه ما دبج، وأملت على المعجبين به والمجاهدين بجانبه ما كتبوا عنه.
وإن الكتاب لخير ما يعكس حياة المؤلف الجهادية الخصبة ومواقفه البطولية المشرقة وخير هدية يقدمها نجله البر الأستاذ مسعود حسنين الورتلاني في هذه الطبعة الجديدة إلى قراء العربية.
وهنا أرفع القلم معترفا أن الكلام قد طال ومع ذلك فلم أقل إلا قليلا.
محمد الصالح الصديق
القبة / الجزائر في / 20 شعبان / 1411 هـ، 6 / مارس / 1991 م.