الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إفريقيا الشمالية باستيل القرن العشرين (9)
دولة الحرية والإخاء والمساواة
تحارب الحرية والإخاء والمساواة وتعتدي على الأديان والأعراض والأموال
وقع اختيار جمعية الإتحاد العربي في هذا العام على الدكتور محمد عبد السلام العبادي عضو مجلس إدارة جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية مندوبا لها في المؤتمر الطبي العربي الذي انعقد بحلب، وكان للدكتور - من زهاء سنتين - اقتراح رسمي في الجبهة للسعي إلى جعل المؤتمر الطبي ينعقد في إحدى بلاد إفريقيا الشمالية (تونس أو الجزائر أو المغرب) وبذل في ذلك مجهودا مشكورا. فمن سعيه لدى بعض النواحي الحكومية، إلى سعيه لدى كثير من زملائه الأطباء، إلى خطب ألقاها في بعض المناسبات، إلى بعض كتابات في الموضوع، حتى سنحت له فرصة تمثيل الإتحاد العربي في هذا العام فعقد العزم على بذل كل ما يمكنه من جهود في سبيل حمل المؤتمر على اتخاذ قرار بذلك، وفعلا تم له ذلك من ناحية المؤتمر والحمد لله.
فبهذه المناسبة أحببت أن أشرح للقراء لونا خطرا من ألوان سياسة فرنسا في هذه البلاد. فالذي تهدف إليه - منذ وضعت أقدامها في أرض المغرب المجاهد وعرفت شدة شكيمة أهله ومبلغ آبائهم - أمران: إما إذلالهم لدرجة لا يبقى معها أحد عنهم يفكر في حرية واستقلال، وذلك بإفشاء الجهل والفقر في جميع الطبقات حتى ينسوا الحرية والاستقلال تحت ضغط الحاجة إلى القوت وسد الرمق وإما بإقامة سد حائل بينهم وبين ماضيهم ثم تحويلهم إلى فرنسيين مادة وروحا، وذلك بتحويلهم عن لغتهم ودينهم وتقاليدهم، فمن أجل ذلك جعلت اللغة الفرنسية الرسمية في جميع فروع الحياة حتى في روضة الأطفال، وشرعت في
محاربة العربية بهمة تزري بهمة حكومة مصر في محاربة المخدرات، ثم جاءت بفكرة الظهير البربري الذي طبق فعلا في الجزائر قبل أن يعرفه الناس في مراكش، والغرض منه الظاهر صد المسلمين عن دينهم الذي عاشوا عليه أربعة عشر قرنا، بالنار والحديد لتتم لهم عمليه المسخ المبيتة، وفتح باب التجنس على مصراعيه مصحوبا بالترغيب والترهيب ففشلت فيه فشلا ذريعا. ثم أطلقوا العنان للمبشرين وزودوهم بأموال أوقاف المسلمين لتنصير الجائعين الجاهلين من سكان القرى والفلاحين، وإلى جانب ذلك كله أنشأوا كل ما عرفته مدنية القرن العشرين عن ألوان الفجور من لهو وعهر وخمر الخ. ويلاحظ أن أكثر بلاد الله إنتاجا للخمر هي الجزائر بسبب هذه المكيدة، حتى أن خمر الجزائر كانت أزمة خطيرة في يوم من الأيام بين مسعتمري الجزائر وحكومة فرنسا أدت إلى أن بعض المستعمرين المتطرفين طلبوا استقلال الجزائر والانفصال عن فرنسا، وسبب ذلك أن الجزائريين المغالين في التمسك بدينهم لم ترج في أوساطهم مكيدة قتل عقولهم بالخمر، فاضطر المستعمرون إلى تصديره إلى بلاد فرنسا، فزاحمت خمر فرنسا، وحصلت تلك الأزمة.
وأخيرا - ولعله ليس الأخير - طلعت فرنسا بمشروع خطير سمته "الإتحاد الفرنسي" فبهذه الوسائل وغيرها توسلت العملية لفرنسا ولم يتم لها ما تريد ولا بعضه، ولكن مع الأسف قد تم لها الكثير من الإفقار والتجهيل، لأنها كانت تعلم جيدا أن هذه النية الخبيثة - نية قتل أمة عريقة كهذه - قد تم بالإفقار والتجهيل إن لم يكن بالفرنسية والمسخ، لأن هذه الأدوار يكمل بعضها بعضا. وكانت تعلم أن ذلك لا يتم إلا في فترة طويلة، مع استعمال كل أساليب القسوة والمكر، وكانت تعلم كذلك أن ارتكاب جريمة كهذه بتلك الأساليب الفظيعة لا يجوز أن يتم على مشاهدة من العالم، وإلا لثارت عليها الدنيا ولو من الناحية
الإنسانية فقط فمن هنا - وهو محل الشاهد - جاءت فكرة عزل هذه الأمة عن الدنيا عزلا كاملا شاكلا لا تسمح فيه، ثم إجراء العملية المبينة في خلوة لا تطلع عليها إلا هذه القافلة القاسية ومن فوقها علام الغيوب الذي ينتقم ولو بعد حين وأخذت في حزم تقف دون كل راغب (وخاصة من أهل الشرق) في زيارة هذه البلاد، حتى ولو كان تاجرا أو عالما مستشفيا، وحتى لو كان بسيطا حاجا لا يملك من أسباب النفع والضر شيئا، وتمنع على العموم إيجاد أي صلة بينها وبين الشرق حتى ولو كانت النهاية في التفاهة وتشدد الرقابة الأخرى على سكانها أن يتسربوا إلى الشرق ولو لطلب العلم، طلب الرزق أو الزيادة، وتعرقل السفر حتى إلى الحج وإذا سمحت بالحج لعدد محدود من المتعبدين الطيبين، فإنها تحيطهم بجواسيسها ليعدوا عليهم أنفاسهم وهم في رحاب بيت الله الحرام.
أما الصحف والرسائل فدون دخولها وخروجها ما هو أمنع من خط ماجينو.
وهنا أحب أن ألفت نظر القراء إلى ظاهرة عجيبة، ذلك أنه في هذا العصر أصبحت الإنسانية من حيث تيسير أسباب الاتصال كعائلة واحدة لدرجة تكاد ترتفع معها عملية الإبعاد من حساب المزاورين، فهذه مؤتمرات تعقد في أقاصي أمريكا ويحضرها أهل الدنيا جميعا وتعقد مرة أخرى في أقاصي الشرق كالهند والصين فيشهدها أهل القارات طرا، ولكن هناك بلاد واحدة يلاحظ الناس لأنهم لا يشهدون شيئا من ذلك أبدا، هذه البلاد هي إفريقيا الشمالية (تونس، الجزائر، ومراكش).
ولقد انعقدت مؤتمرات في البلاد العربية الشقيقة نفسها لرجال المحاماة والصيدلة، والطب، والهندسة، والاقتصاد
…
الخ ويلاحظ الناس أيضا أن بلدا واحدا فقط حرم من الإشراك فيها (وهو المغرب العربي الذي يطوي بين جنبيه أكثر من ثلاثين مليونا) ولو قدر للمغاربة أن يخرجوا من هذا السجن، بل هذا الباستيل الحديدي لاستفادت الدنيا جميعا من رجولتهم وعبقريتهم.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد على سبيل المثال أن بعض رجال الإتحاد العربي أرادوا أن يزوروا إخوانهم في البلاد المغربية كما فعلوا مع البلاد العربية الأخرى فتبينوا أن دون ذلك خرط القتاد، وأكبر من ذلك أن الإتحاد العربي قدم في بعض المناسبات مذكرة لوزير فرنسا المفوض بمصر بشأن هذه البلاد وما يقع فيها من اضطهاد فثار ثائر الوزير وعدها تطاولا من الإتحاد على فرنسا ورد المذكرة ردا غير جميل، ممتنعا عن رفعها إلى حكومته زاعما بما مؤداه "أنها قليلة الأدب" وأن رفعها إلى حكومته قد يؤدي إلى توتر العلاقات بينها وبين مصر! وأبشع من ذلك أن أناسا من أهل البلاد المغربية يزاولون التجارة هنا في الشرق ولهم هناك في الوطن المغربي أملاك وأهل مصالح لا تعد، ويحملون جنسية بلادهم أبا عن جد ومعهم جوازات سفر فرنسية، وقد بذلوا جهد الجبابرة في سبيل زيارة أهلهم والوقوف على مصالحهم فعادوا بخفي حنين، لأن الفرنسيين الأحرار؟ يخشون أن تفتح ثغرة - كثغرة سيدان - في هذا النطاق الفولاذي المضروب على المغرب العربي فيندفع أهله كالسيل الجارف وكيأجوج ومأجوج فيجيء وعد ربي {فإذا جاء وعد ربي جعله دكا وكان وعد ربي حقا} الكهف:98.
من هذه الأمثلة القليلة يتبين للقارئ أن فرنسا تغار على أهالي البلاد غيرة الذكر على الأنثى، أستغفر الله بل لم يلغ بهم الغيرة على إناثهم أن يحولوا بينهن وبين الاتصال بالناس، فالمرأة عندهم اليوم (نائبة) ووزيرة وسفيرة وتملك أن تسافر حيث تشاء وتحضر المؤتمرات وتقول ما تشاء وتملك حتى مرافقة الأجنبي من غير قيد ولا شرط، وتملك أن تراقصه إن شاءت.
يا أيها العرب، ويا أيها الناس، لقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين وإن هذه الحالة التي يعيش لكم إخوان في العروبة والإسلام والإنسانية لا يطيقها
إنسان، ولقد عبروا هم من جانبهم عن سخطهم وإبائهم بأنهر من الدماء التي أراقوها في الثورات المتتالية وبلغ من قتل فيها عشرات الألوف، ومن سحن أو شرد مثل ذلك أو أكثر، فما بقي إلا أن تعبروا أنتم عن جانبكم عن سخطكم على هذه المهزلة البشرية التي تمثل في القرن العشرين على مرأى ومسمع من الديمقراطية والحضارة ورغم أنف القنبلة الذرية أننا ندعوا ونستصرخ المسلمين والعرب بل ندعوا ونستصرخ الديمقراطيين في أوروبا وأمريكا وفي الدنيا بأجمعها أن يعملوا على إنصاف هذه المجموعة الإنسانية ولو بعض الإنصاف وقديما استصرخ غيرنا بالناس، ولم ينس العالم استغاثات الجنرال ديغول المدوية فأغيثونا من ظلمه وظلم قومه كما أغثتموه من ظلم الألمان والطليان، أما بماذا تغيثون فكل على حسب ظروفه ومركزه، ففي قدرة الصحافة أن تكتب وتندد بالظالمين، وفي قدرة الهيئات أن تحتج على المعتدين. وفي قدرة الحكومة - ومن حقها - أن تقابل فرنسا في معاملاتها بالمثل، فإذا منعت رعايا الدول العربية من الدخول في مناطق نفوذها، منعت الدول العربية رعاياها من الدخول إلى الأوطان العربية، وإذا أبت أن تقبل لنا قناصل في بلادنا، وإذا منعتنا من إقامة معاهد ومدارس وبنوك فعلينا مثل ذلك. فالشر بالشر والبادئ أظلم وثقوا أنه لا يكون ذلك هين ولا قليل الوقع في نفوس إخوانكم فجربوا فقط لله ولرسوله والمؤمنين.
الفضيل الورتلاني
سكرتير جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية
9 ذي القعدة سنة 1365
جريدة الإخوان 28 سبتمبر سنة 1946