الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكومات به، فهو امتحان البطولة، وطالما أداه الأبطال قاسيا ثقيلا وما زالت العليا تعني غريمها، كما يقول ابن خميس، وهو دليل البطولة، وللبطولة منها عليها شواهد.
وأما ما لقيه بسببها من تجهم بعض الأصدقاء، فهو دليل على أن صداقتهم كانت على دخن، أو من شماتة بعض الخصوم، فهو دليل على أنه كان غيظ الحاسد ومسيح الدجاجلة، وكل ذلك مما يعلي قيمة الفضيل، ويبين عن صفاء جوهره، وأن تلك الغمة العارضة، ما زادت على أن كانت تلقيحا في رجولته، وتنقيحا في أصدقائه، وافتضاحا لخصومه.
محمد البشير الإبراهيمي
وإلى القراء أجوبة الورتلاني على أسئلة وكالة أنباء أندونيسيا تحت عنوان:
أول تصريح للأستاذ الفضيل الورتلاني
بعد إعلان براءته والعفو عن سياسيي اليمن
س - ما هو شعوركم اليوم نحو اليمن. وكيف كان وقع العفو الذي أصدره الإمام أحمد، عن رجال الانقلاب عامة، وعن جنابكم بصفة خاصة؟
ج - إن اليمن قطعة من صميم الوطن العربي العزيز، وجزء كريم من العالم الإسلامي الغالي، وأخشى أن أظلم التاريخ، وأصحاب الحق في إرثه من الأجيال، إذا أنا تواضعت، وسكت عما كان لي من هوى مبرح، نحو هذين الحبيبين المظلومين، العالم العربي والعالم الإسلامي، بل نحو كل مظلوم في هذا الوجود، ولقد قاسيت كثيرا من أجل أن أفتح عيني يوما على محياها، فأجدها
مشرقة بنور الحرية والسيادة، وأن أرى شبح الظلم الذي طالما خيم على ربوعهما وجر على البشرية الويلات المتكررة، أراه قد حل عنهما غير مأسوف عليه، وإلى غير عودة، ويعلم الله، أنني ما حقدت يوما على أحد، ولو خالفني في الجنس والوطن والدين. وإنما أحقد على ذلك الظلم، الذي ما زال منذ دخل في طاعة الاستعمار الغربي حتى الآن، يفتح على الإنسائية أبوابا من الشقاء، لم ينج منه حتى أبناؤه، فيقطع ما وصل الله بين أفرادها من أسباب الود والتعاون على الخير، ويغرس في نفوسهما - بدل ذلك - الحقد وتنازع البقاء، ثم يسوقهم في كل فترة من الزمن، إلى ميادين الحتف والهلاك، من أجل ذلك كله، تجد من الطبيعي جدا أن يكون كل ما يمت إلى هاذين الرحمين بصلة، محل تحسسي وعنايتي في آن واحد، واليمن هو القطر الوحيد الذي لا يزال يتمتع باستقلال وسيادة كاملتين، لا تشوبهم شائبة من الطلاء الذي يسمونه انتدابا أو وصاية أو حتى معاهدة، وعلى عرشه اليوم صديقي حضرة صاحب الجلالة الإمام أحمد. وقد عرفت من جلالته عن كثب، طائفة من المزايا، تجعلني كثير الأمل والتفاؤل، في صيانة ذلك البلد الغالي، من دسائس الاستعمار ومن الفتن الداخلية، عرفت في جلالته ثلاث خصال، هي كالأركان للرجل المسؤول: الأولى - حذره الشديد من المستعمرين والأغراب. الثانية - الشجاعة - والثالثة - الكرم. فهذه الصفات، ليس من طبيعتها أن تسكن قلبا يحمل حقدا أو يغرق في الانتقام، ثم ينس الحكمة التي من أوتيها، فقد أوتي خيرا كثيرا. من أجل ذلك فإن العفو العام الذي أصدره جلالته، عن المتهمين وغير المتهمين مثلي، وفي ثورة 1948 يتمشى جنب إلى جنب، مع تلك الخصال الحميدة التي يتجلى بها، بل يعانق الوحي، ويرضى تعاليم
السماء. فمن مبادئ القران {إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه
…
ذو حظ عظيم} فصلت: 34 - 35. ومن مبادئه {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} آل عمران: 159. وإن التوراة والإنجيل، لمشحونان بمثل هذه التعاليم السامية. على أنه ليس بعيدا ولا غريبا، عمن ينحدر كجلالته من أرومة النبوة والرسالة، أن ينشرح صدره لنصائح القرآن. ففي ذلك - والله - خير الدنيا والآخرة، لا سيما وأن العصر الذي نعيش فيه، يلد في كل رجب، عجبا من المذاهب الهدامة والفلسفات الفاسدة. وهذه لا تجد لها أتباعا، إلا في بيئة يسودها الخلاف، وينتشر فيها القلق والسخط، وهي أسرع في الانتقال من الأوبئة والجراد، بفضل ما وصلت إليه المدنية، من أسباب المواصلات الإخبارية والنقلية، وبفضل ما برع فيه الصيادون في الماء العكر، من أساليب التفتين والتفريق بين المرء وزوجه، أو الحاكم ورعيته. وقد كان ذلك دينهم منذ وضعوا مبدأهم الشهير (فرق، تسد).
س - هل تنوي نشر مذكرات لك عن ذلك الجهاد الطويل، والتجارب الكثيرة، لتستفيد الأجيال عما أصبت فيه أو أخطأت، وليطلع الناس على حقائق، لو ظلت مكتومة لكانت خسارة على التاريخ.
ج - صحيح، كل ما ذكرت، ولدي مذكرات مختصرة تحمل الخطوط العريضة، وأنوي أن أتوسع فيها وأنشرها، ولكن في الوقت المناسب. ولقد فاوضني في أمر نشرها كثيرون من دور الطباعة والنشر، ولكن آثرت أن أؤجل ذلك إلى حين، وعسى أن لا يطول كثيرا إن شاء الله.
س - لقد تحدثت الصحف والإذاعات، كثيرا عن احتمال عودتكم إلى اليمن، لمواصلة رسالتكم الإصلاحية والتوجيهية، مع صديقكم القديم جلالة الإمام أحمد، كما تحدثت عن ذلك بالنسبة للبلدان الشقيقة، وبالنسبة لأندونييا والباكستان، فهل عزمتم على شيء من ذلك.
ج - أنا أعد العالم العربي والعالم الإسلامي كليهما وطنا لي، وقد عشت على هذا الشعور منذ نعومة أظافري، وأقمت رسالتي وجهادي على أسام من قواعده. ثم ليست الصلة بين نفسي وبين هاتين المجموعتين، قائمة على مجرد الإحساسات التي تحملها روابط القربى، من جنس وثقافة ودين فحسب، ولكنها فوق ذلك، كانت ولا تزال قائمة على خوض الظلم المشترك، الذي حفره لنا الاستعمار، فسبحنا فيه جميعا، وشربنا من علقمه جميعا، فأمسى هذا الأخير، رحما ماسة بيننا قد بر كل رحم. فالتعاون إذن، مع أي دولة ممن ذكرت، لنقوى على الوقوف أمام الظلم والظالمين، ولنسابق ركب الحياة في الميادين المختلفة، هو من طبيعتي التي نشأت عليها، وظلت ولا تزال تنمو في ملكاتي حتى الآن.
أما إلى أين اتجه بالفعل في القريب العاجل، فأمر غير مبتوت فيه بعد، والكلام عنه الآن في نظري سابق لأوانه، وإن كان ما تحدثت عنه الصحف، والإذاعات، له أصل في الجملة لا محالة، ولكن ما ثبتت أصوله، يجوز أن تذاع في الناس فصوله، وإنما الذي أحرص على إذاعته، وتجديد العهد عليه لله والناس من الآن، هو مبدأ خدمة الصالح العام، ما استطعت إليه سبيلا، دون النظر إلى مصلحة شخصية أو هوى ذاتي، على أن لا أنسى وطني الصغير المغرب العربي أينما كنت، ولعنة الله على الكاذبين.
س - كيف كانت إقامتك في لبنان؟
ج - لقد أحببت لبنان على اختلاف طوائفهم حبا جما، من قبل أنزل ضيفا على لبنان وأهله. وكنت دائما أضرب الأمثال للناس، حينما أريد أن أحفزهم إلى المعالي، بأهل لبنان في عبقريتهم ونشاطهم، اللذين ملآ الدنيا الجديدة والقديمة نورا وعرفانا، وكنت أضرب بهم المثل في التسامح النادر، أو الديمقراطية الحقة، التي لولاها ما استطاعت أن تتساكن هذه المجموعات، التي لا يكاد يقع عدد مذاهبها وطوائفها تحت حصر، مع أنها تعيش فعلا في جو من الجمال والإخاء والتعاون، كأنهم أبناء عائلة واحدة. كنت أفعل ذلك يوم كنت بعيدا عن لبنان، ولما أقمت فيه، ازددت حبا له واحتراما وقلت: ليس من يرى كمن يسمع. وكان لي من الأصدقاء في أبناء لبنان حينما كنت في مصر، من لا أستطيع أبدا أن أنسى عشرتهم ووفائهم، أذكر من الأحياء الذين تعاونا معهم في خدمة العروبة: خليل بك ثابت، وحبيب بك جاماتي، والأستاذ موريس أرقش، والأستاذ أسعد داغر، وحليم بك أبا عز الدين، وتقي الدين بك الصلح، وغيرهم كثيرين. وأذكر من الأموات المرحوم أنطوان باشا الجميل، والمرحوم خليل بك مطران، وغيرهما ولقد لقيت الشيء الكثير من العطف والاحترام في أهل لبنان، ابتداء من رئيسه الأعلى حضرة صاحب الفخامة الشيخ بشارة الخوري، الذي صادف وصولي إلى لبنان، يوم تجديد ولاية فخامته الثانية. فكانت صدفة كريمة، وفألا حسنا إلى فقيد العروبة، الزعيم الجليل رياض بك الصلح رحمه الله، فلقد كان صديقا وفيا وشهما فذا. وأن خسارة العروبة فيه، لا تقل عن خسارة لبنان، ولم تقل نحوي مروءة جميع الطبقات الأخرى، من رؤساء ومرؤوسين، عن الرئيسين الجليلين، بارك الله في لبنان وأهل لبنان، وجعله على الدوام مصدرا للنور والعرفان ومثالا للتسامح والإخاء.
س - هل كانت إقامتك طول هذه المدة بلبنان؟
ج - لقد أقمت في غير لبنان طويلا، ولكن ما قضيته في لبنان كان أطول، ويليه سوريا الشقيقة ثم تركيا، ولم أكن لا في الأولى ولا في الثانية، أشعر بشيء من الغربة البتة، بل كنت كأني بين أهلي وعشيرتي. ولقد صارت لي فيها صداقات وإخاء، بلا تلامذة ومريدون، والحمد لله.
س - لقد زعمت بعض الصحف والإذاعات، أنك كنت تحمل رسالة خطيرة عن الشرق، حين زرت طنجة، أثناء الأزمة التي كانت قائمة في مراكش، بين القصر والإقامة، فكانت شيئا جديدا لاشتداد الأزمة وتهييج الوطنيين
…
ج - لم يكن الشرق في حاجة ليحملني مثل هذه الرسالة، ففي المشرق كما في أوروبا وغير أوروبا، ممثلون من وزراء وسفراء ووكلاء، كما لم يكن جلالة السلطان ولا الزعماء الوطنيون الأبرار، في حاجة إلى من يهيجهم. ففي وطنيتهم وتفانيهم في خدمة بلادهم الكفاية. وحتى إذا كانوا في بعض الحاجة إلى التهيج ففي سياسة الجنرال جوان وأساليبه العسكرية، ما هو فوق الكفاية والحمد لله.
أما زيارتي إلى المنطقة الخلفية وإلى طنجة، بعد زيارتي للأندلس الخالدة، فهي طبيعية، لأنها جزء صميم من وطن المغرب العربي، ولقد لقيت من سمو الخليفة المعظم كل حفاوة وإكرام، ولقيت مثل ذلك من جميع الزعماء والمواطنين. ولعله كان من حقي الصريح، أن أكون أداة خير ما استطعت، في تلك الفترة الدقيقة من ظروف مراكش الغالية، ويسرني أن أسجل لهما، أنني كنت كذلك والحمد لله. وأشكر لزعماء مراكش، الذين كانوا مقيمين في طنجة يومئذ، حسن استقبالهم لأخيهم هذا، بل أشكر لهم من صميم قلبي، حسن قبولهم عني، فجراهم الله عن الوطن كل خير.
س - لماذا لم تدخل مناطق النفوذ الفرنسي في تلك الرحلة، مع أن أهلك وأملاكك وإخوانك وتلامذتك، كل هؤلاء إنما هم الجزائر؟
ج - هذا السؤال ينبغي أن يوجه إلى الحكومة الفرنسية، التي أذاعت في الناس أنها قد حكمت علي بالإعدام، لأنني قد شوشت عليها في الشرق، حين قاومت استعمارها لبلادي، ولا أدري ما هي هذه المحكمة، التي كانت لها الصلاحية في محاكمتي، وما هي الحيثيات التي استندت إليها، اللهم إلا أن يكون حب الوطن، الذي يقولون أنه من الإيمان، قد أصبح عند أم الحريات جريمة يستوجب مرتكبوها الحكم بالإعدام. فإذا تم ذلك، وجب على فرنسا العريقة في الحريات، أن تحرق تاريخها القديم بكل ما فيه من أمجاد، وتضع تاريخا جديدا يبتدئ من الجنرال جوان فصاعدا.
س - بماذا توصي الوطنيين في المغرب العربي؟
ج - أرجو قبل كل شيء، أن تحمل إلى جميع المواطنين في المغرب العربي الكثير، تحياتي العاطرة، وأشواقي المتراكمة، وأن تحمل إكباري وإجلالي بصفة خاصة، إلى أولئك الذين وقفوا حياتهم في سبيل تحريره وإسعاده، فثبتوا ولم يبدلوا تبديلا، أما وصيتي إليهم، ففي كلمة واحدة، وهي، إن كانت كلمة واحدة، ولكنها بقدر ما هي خفيفة على اللسان، فهي ثقيلة في الميزان، هذه الكلمة هي (الإتحاد) ليست بضاعة مزجاة، يقدر عليها بالرخيص من الأثمان، وإنما هي سلاح فتاك، يستطيع المدافعون عن كرامتهم وحريتهم ووجودهم بواسطته، أن يردوا الجحافل من جيوش الظلم والاستبداد. فهو إذن عزيز كعزة القنبلة الذرية في هذه الأيام. فحينما يطلبونه، يجب أن يعدوا ثمنه، إن كانوا في وطنيتهم من الصادقين، وثمنه هو نكران الذات في الدرجة الأولى، ويليه اصطناع الحكمة دائما في معالجة الصلات بين العاملين لصالح البلاد. ولو كان في ذلك شيء من الذل، لأن قبول الذل لصالح الإتحاد، ضرب من الجهاد الجليل، والواجب المقدس، لأن فيه تضحية وصبرا. وإنما يضحك على نفسه وعلى الناس، من يزعم أن الجهاد يمكن أن يقوم على غير التضحية والصبر. وإني بحمد الله، ما قبلت يوما في حياتي ذلا من أحد،