الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يرحم نفسه، ولا يخصص لها أدنى نصيب من حقوقها، فقد يشتغل الليل موصولا بالنهار، يعصر مخه وأعصابه، ويرهق جسمه، وقد يمضي عليه اليوم والليلة، وهو منهك في عمل لا يذوق أثنائهما طعاما، وقد يمضي عليه أكثر من ذلك ولا يذوق نوما، وتكاد تكون هذه الحالة عادة له لا تفارقه إلا نادرا، ومما يزيد في خطورة الإرهاق على جسمه، أنه في تصرفاته بإحساساته التي تأخذ من المخ والدم، أكثر مما يعمل بأطرافه التي تفتر ثم تنشط وتتعب، ثم ترتاح وينتهي الأمر عند هذا الحد، ثم لم تترك له هذه الرسالة الدائبة الدائمة، أدنى فرصة لتنظيم حياته الضرورية، كالأكل والشرب والنوم والاستقرار، بل جعل كل ذلك تابعا للعمل خاضعا له، مما أدى إلى اختلال ظاهر في صحته، فلقد أصابه مرض الربو وضيق التنفس، نتيجة للإرهاق، وأصابه مرض السكر نتيجة الإرهاق. وقد أجمع أصدقاؤه الأطباء وغير الأطباء، على وجوب التخفيف من العمل، والإقبال على العناية بصحته، لأن الاستمرار في ذلك الإهمال، إنما هو من الانتحار. على أن أصدق العلاج له هو الراحة قبل كل شيء وأنا في مقدمة أولئك الناصحين، ولكنه لم يستطع أن يستجيب لهذه النصيحة حتى الآن، ولو أنه قد اعترف مرارا بوجاهتها من الناحية النظرية والعلمية، ثم عينه، وأي شيء أغلى عند الإنسان من العين، قد احتاجت منذ سنوات ثلاث، أو أربع، إلى عملية جراحية في أوروبا، ونصح له أصدقاؤه الأطباء التبكير في ذلك، ولكن الرسالة تحمله على تأجيلها شهرا بعد شهر، حتى جاءت ثورة الجزائر، فألهته عن عيونه وأنسته كل شيء، والأمر له من قبل ومن بعد.
تضحياته وتضييعه للفرص
إنني أعلم أن الورتلاني قد ورث عن آبائه وأجداده أموالا كثيرة، لو خصص لها جزءا صغيرا من عنايته، لكان بها من كبار الأغنياء، ولكن انصرافه إلى الرسالة وإهماله لها، كما أهمل صحته في سبيلها، جعل تلك الثروة تتبعثر، وتلعب بها الأيدي الاستعمارية وغير الاستعمارية، وهو يتفرج من بعيد، كأنه لم يكن من أصحابها، وما
يزال حتى الآن، يستعمل شتى الحيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، حتى يعيش به عفيفا كريما، ولقد كان في مصر قبل ثورة اليمن، يتمتع بنفوذ كبير على طائفة من الشركات الاقتصادية الكبرى، ذات رؤوس أموال تعد بملايين الجنيهات، وكان يمكنه يومئذ بكل سهولة، أن يجمع ثروة طائلة في رحابها الواسعة الكريمة، ولكن الرسالة المقدسة كانت صاحبة السلطان الأكبر على أخلاقه. فخرج من ذلك المحيط الضخم، صفر اليدين من المال، ولكنه خرج منه بثروة كبيرة من العفاف والإكبار. وعاش في اليمن بنفوذ اقتصادي خطير، كان يستمده من الشعب والحكومة معا. ولقد كان مديرا عاما للشركة الوحيدة، ذات الامتيازات الواسعة في دولة اليمن. وقد علمت من المطلعين الصادقين، أن الورتلاني لو أراد أن يتنازل قليلا عن الحنبلية في رسالته وعفافه، لخرج من اليمن بمئات الآلاف، غير خائن ولا مشار إليه بالبنان، وعاد إلى مصر بعد الثورة الأخيرة، وكان أقرب المقربين إلى رجال الثورة، وكانت صلاته بأرباب الملايين واسعة عريضة، ولكنه لم يرض أن يشرب من كأس مشبوهة يوما ما.
وقد عرضت له فرص كثيرة ونظيفة، وهو لا تنقصه المعرفة بشؤون التجارة والاقتصاد، ولولا أن رسالته كانت دائما، هي التي تعوقه عن استغلالها، لكان اليوم في سعة من المال عظيمة، ونحن تلامذته ومحبوه لا نوافقه أبدا على هذا الإفراط في إهمال شؤون نفسه المالية والصحية إلى هذه الدرجة، لأن ذلك قد يؤدي يوما إلى الحاجة، والحاجة إلى اللئام قتل شنيع لكبار النفوس، فلقد كان الأنبياء والقديسون، يذكرون الله كثيرا، ولكنهم لا ينسون أنفسهم في حدود الحلال، وكثير منهم قد خدموا مبادئهم بالمال، واستعانوا به في أكثر من موقف خطير. وفي مقدمة هؤلاء، كبار الصحابة رضوان الله عليهم. وإني أخط هذه الكلمات، وأسجل هذه النصائح في كتاب، وكلي أمل في أن يعمل بها أستاذنا الورتلاني، كما نعمل نحن بنصائحه، وهو الذي علمنا بأن المبالغة والإفراط في كل شيء أمر غير محمود. فنرجو أن يرحم نفسه حتى يستطيع أن يرحم مبادئه نفسها ويرحم الناس.