الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يبعدونهم عن مواطن الكسب من تجارية وصناعية وإدارية ثم تتكون عندهم عصبية ضد أولئك العرب كلها حقد ظاهر وازدراء مكشوف، الأمر الذي يجب أن يحز في نفوس من يغارون على فرنسا.
إن هذه السياسة الحقيرة إنما يحملون كل وزرها لفرنسا نفسها واليوم هو يوم الامتحان ويوم الفصل في مصائر الأمم: إما أن تبرأوا من أعمال هذه الشرذمة وتتقدموا من جديد بأسلوب كريم على أنفسكم وكريم علينا، وإما أن تقروا أعمالهم فتكون هي أعمالكم فيومئذ يرى كل منا مصلحته في أي واد من الأودية فيسبح فيه.
وفي العدد القادم تجدون الأمثلة والتفاصيل وإلى اللقاء.
مصر الفتاة
9 ذو الحجة سنة 1364
14 نوفمبر سنة 1945
حول غطرسة الفرنسيين أبضا (2)
حضرة السفير المحترم وعدتكم في العدد الماضي إيراد التفاصيل والإتيان ببعض الأمثلة على مساوئ استعماركم في إفريقيا الشمالية وها أنذا منجز وعدي - وإليكم البيان: -
لعل أقرب الحوادث إلى الأذهان هي ثورة الجزائر الأخيرة تلك الثورة المحزنة المريعة التي كثر عنها الحديث في الصحف والأندية والتي أعدنا نحن القول فيها في كثير من المناسبات وكنا فيها بحق متحمسين وكنا فيها ثائرين - ومع أننا في تلك الحالة النفسية الشاذة كان يجوز أن نكون مبالغين وكان يجوز أن نكون متحاملين ولكننا لم نكن كذلك كما سترى، لقد تصورنا دماء آبائنا وإخواننا وأبنائنا بل وإخواتنا وبناتنا ونسائنا .. تصورناها تراق على مذابح الشهوات الاستعمارية لحساب طائفة من المتفرنسين الانتفاعيين الذين جمعتهم
إلى الجزائر مجرد الصداقة النفعية من كل أطراف أوروبا ومن جزر البحر الأبيض المتوسط وأطلقتم أنتم عليهم اسم الفرنسيين وأبحتم لهم العمل (مع الأسف) باسم ماضيكم العظيم وكانوا إلى الأمس القريب يحيكون الدسائس مع النازيين والفاشيين ضد فرنسا الحرة والإنسانية ويشاء سوء الطالع أن تبتدئ المذبحة الكبرى يوم الاحتفال بالنصر، النصر الذي كان الجزائريون وإخوانهم المراكشيون والتونسيون فيه وقوده الأول - وكانوا فيه حجر الزاوية والذي ترددت فيه صدى بطولتهم في سبسليا وإيطاليا وكورسيكا وتونس وفي فرنسا نفسها ثم في ألمانيا أخيرا - ونوه بذلك كبار القواد من الحلفاء وسجله مستر تشرشل في إحدى خطبه التاريخية كان جزاء أولئك المحررين البواسل في يوم الحرية الأخير أن بادر الجلادون المستعمرون إلى إشعارهم بواسطة النار والحديد بأنهم لا يزالون عبيدا أرقاء وأن النصر عليهم لا لهم خشية أن يذهب بهم الغرور مذهب البطش فتحدثهم أنفسهم بالخروج عن طاعة أسيادهم أشباه الآلهة في القرن العشرين.
ولكن الجزائريين الذين قدموا مئات الألوف من زهرات شبابهم إلى الموت في ساحة النزال باسم الحرية فذهب أكثرهم ضحيتها قتلا أو تشويها، لم يكونوا سوائم يعبث بثمن دمائهم بمثل هذه السرعة وبمثل هذه الصورة التي تتنافى مع أقل درجات الوفاء والمروءة لقد كان طبيعيا أن يسجلوا غضبهم وأن يثوروا لحقهم المغصوب إلى جميع طبقات الأمة وأن يشمل الرجال والنساء والصغار والكبار وكان طبيعيا أن تباع النفوس رخيصة غاضبة لهذا الغدر إغتباطا واختيارا ثم كان ما كان من حشد حكومتكم للقوات البرية والبحرية والجوية وتعبئة العسكريين والمدنيين وتسليط الجميع على الثوار وعلى الآمنين الأبرياء في المدن والقرى.
ولقد كان طبيعيا أيضا رغم الحصار الذي ضربتموه على هذه البلاد أن تتسرب أنباء هذه الكارثة إلى بلاد الشرق والغرب فقرأناها وعلمنا كثيرا من تفاصيلها - وكان طبيعيا أن يسري الغضب إلى نفوسنا - وكان طبيعيا أن نذيع هذا في الناس ونستنكره
كما كنتم أنتم تفعلون بإذاعة جرائم الألمان التي كانوا يرتكبونها في البلاد المحتلة واستنكارها وما جاز لكم نعتقد أنه يجوز لنا إنما لحضرة السفير المحترم الحق أن يعيب علينا إذا كذبنا أو زورنا، فهل كان منا شيء من ذلك - كلا -
لقد قلنا للناس أن الفرنسيين قتلوا من إخواننا العرب ما يزيد عن ثلاثين ألفا وهذا الرقم هو متوسط ما نشرته الصحف اليومية نقلا عن شركات الأنباء العالمية المحترمة ونشرت جريدة المارسيين لسان حالكم في مصر أن عدد القتلى بلغ مليونا ولنا أخيرا مصدر لا يستطيع أحد أن يعترض على صحته وهو مضبطة جلسات الجمعية الاستشارية بباريس التي نشرتها الجريدة الرسمية الفرنسية وهى بين أيدينا الآن - هذه المضبطة تذكر لنا أن أحد النواب ذكر لوزير الداخلية أن أربعين مشتى (قرية) قد محيت من الوجود بفعل قنابل الأسطول والطائرات واختلفوا في تقدير عدد سكان المشتى ما بين خمسمائة وألفين.
وأنا أعلم أن بعض المشاتي يزيد عدد سكانها عن خمسة آلاف فإذا أخذنا بالوسط وقدرنا عدد سكان المشتى بألف يكون عدد الذين قتلوا عملا برواية الجريدة الرسمية في المشاتي وحدها أربعين ألفا يضاف إليهم من مات في الجبال والسهول والمدن الأخرى فلا يمكن أن يقل عددهم عن العدد الأول فيصير المجموع ثمانين ألفا فنكون نحن قد تواضعنا كثيرا فيما نذيعه على الناس - ونقول للناس - إن الفرنسيين اعتقلوا ما لا يقل عن أربعين ألفا وضعوهم في السجون مع المجرمين بل بلغنا أخبار بأن الحكومة تفرج عن المجرمين لتجد محلات في السجون تضع فيها طالبي الحرية والإنصاف والدليل على صحة هذا لا نرجع فيه إلى أخبار الصحف وشهود العيان بل نتركه لرجل من كبار المسؤولين فيكم وهو المسيو كالدر عضو الجمعية الاستشارية الذي نشرت تصريحه صحف لندن وبعث به مراسل المصري الخاص ونشر في 22 - 9 - 1945 جاء فيه ما يلي:
(تقول البرقيات الواردة من باريس أن مسيو كالدر العضو عن شمال إفريقيا في حركة الرخاء العام الفرنسية قد تحدث عن حالة التوتر في الجزائر وقال أن اضطرابات خطيرة قد تحدث في أي لحظة ما لم تطلق الحكومة سراح ثلاثين ألف عربي معتقل حوكموا أو في انتظار محاكمتهم لميولهم الوطنية ولمحاولة تأليف إتحادات وطنية، وقال مسيو كالدر أنه عندما غادر الجزائر أخيرا أصدر البوليس الفرنسي منشورا إلى الأوربيين في مناطق عديدة أبلغهم فيه وجوب إعطاء إشارة للطائرات حال الشعور بالخطر معنى ذلك أن كل محرض بإمكانه أن يحدث اضطرابات) هذا الكلام صريح بأن مسيو كالدر ينصح للحكومة بوجوب إطلاق سراح ثلاثين ألف معتقل ومعنى ذلك أن هنالك أكثر من ثلاثين ألف بعضهم قد لا تدعو الضرورة إلى تسريحه - أما ما وصلنا من تفاصيل هذه المذبحة (وأنا مصر على تسميتها مذبحة بل مجزرة) فإن ذكرها ترتعد له الفرائص وتشمئز له النفوس ويرق لحال أهلها من في قلبه مثقال ذرة من العطف الانساني وأختم خطابي اليوم بالملاحظة الآتية:
افرض يا حضرة السفير أن الذين قتلوا من العرب أقل من ثلاثين ألف فليكونوا ثلاثة آلاف، وليكونوا ثلاثمائة، وليكن المسجونون آلافا بدلا من عشرات الآلاف، وافرض مرة ثانية أن ذلك قد حصل لكم أنتم ومن قوم لم يزل بعد إثر إحسانكم إليهم مائلا للعيان فكيف يكون وقعه في نفوسكم وكيف يكون رد الفعل منكم؟ كنتم ولا شك تستحيلون إلى قنابل ذرية تحاولون أن تنفجروا عليهم لتهلكوا حرثهم ونسلهم لأنكم، حريصون على حياتكم وكرماء على أنفسكم .. أرجو يا حضرة السفير أن تعلم من جديد أننا مثلكم حريصون على حياتنا كرام على نفوسنا.
مصر الفتاة في 3 من ذي الحجة 1364
الفضيل الورتلاني