الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا فقد اجتهد الحافظ ابن حجر في التوفيق بين الأحاديث المختلفة، فقال:"أقرب ما يُجمع به بين ما تضمَّنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدَّجّال أن الدَّجّال بعينه هو الّذي شاهده تميم موثقًا، وأن ابن صياد شيطانٌ تبدَّى في سورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجّه إلى أصبهان، فاستتر مع قرينه، إلى أن تجيء المدة الّتي قدَّر الله تعالى خروجه فيها، ولشدَّة التباس الأمر في ذلك؛ سلك البخاريّ مسلك الترجيح، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صيّاد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم"
(1)
.
ابن صيَّاد حقيقة لا خرافة:
زعم أبو عبية أن "شخصية ابن صياد خرافة جازت على بعض العقول، فعاشت قصتها في بعض الكتب منسوبة إلى الرسول، والرسول عليه صلوات الله لا يصدر عنه من القول والفعل إِلَّا ما هو لُباب الحق ومُصاصه، ولقد آن الأوان لنأخذ بعين الاعتبار والجد روح الحديث ومعناه، ودلالته ومرماه؛ كما نأخذ سنده وطريقه؛ لتنجو مداركنا الإِسلامية من الشطط والغلط"
(2)
.
هذا ما قاله الشّيخ أبو عبية في تعليقه على الأحاديث الواردة في ابن صيَّاد!!
ويُرَدُّ عليه بأن الأحاديث الواردة في ابن صياد صحيحة، جاءت بها
(1)
"فتح الباري"(13/ 328).
(2)
"النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 104)، تحقيق محمَّد أبو عبية.
كتب السنة؛ كـ "الصحيحين"، وغيرهما، وليس في أحاديث ابن صيَّاد مخالفة لروح الحديث ولباب الحق، فابن صيَّاد -كما سبق- اشتبه أمره على المسلمين، وكان دجَّالًا من الدَّجاجلة، أظهر الله كذبه وباطله للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وأبو عبيَّة متناقض في كلامه، فنجده في بعض تعليقاته على أحاديث ابن صياد يقول:"والحق أن ابن صياد قال كلمة بتراء لا معنى لها، على عادة الكهَّان، وأنّه لم يكن يعني شيئًا بكلمته، فهو مشعوذٌ أفّاك"
(1)
.
فكلامه هنا فيه اعترافٌ بأن ابن صياد مشعوذٌ أفّاك! فكيف يكون في وقت خرافة وفي وقت آخر رجلٌ مشعوذ؟!
لا شك أن أبا عبية متناقض في كلامه.
والمتتبِّع لتعليقات الشّيخ أبي عبيَّة على كتاب "النهاية/ الفتن والملاحم" للحافظ ابن كثير يرى العجب، فقد أطلق أبو عبيَّة لعقله العنان فيما أورده ابن كثير من الأحاديث، فما رآه هو وقَبِلَه؛ فهو الحق، وما سوى. ذلك؛ أوَّله بتأويلات مخالفة لظاهر الأحاديث، أو حكم على الأحاديث الصحيحة بالوضع؛ بدون دليل ولا برهان على صحيح.
يقول أبو عبيَّة على أحاديث ابن صيّاد: "هل الطفل مكلَّف؟ وهل يبلغ اهتمام الرسول بهذا المزعوم أن يقف إليه ويسأله هذا السؤال؟ وهل من المعقول أن ينتظر حتّى يتلقى جوابه؟ وهل من المقبول أن يسمح له بهذا الجواب الكافر المدَّعي للنبُوَّة والرسالة؟ وهل يبعث الله أطفالًا؟ أسئلة
(1)
"النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 88).
نسوقها إلى أولئك الذين يشلُّون عقولهم عن التفكير السديد الرشيد"
(1)
.
ويُجاب عن كلام أبي عبية هذا بأنّه لم يقل أحدٌ: إن الطفل مكلَّف، ولا إن الله يبعث أطفالًا، وإنّما أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطَّلع على أمر ابن صياد؛ أهو الدَّجّال حقيقة أم لا؟ لأنّه شاع في المدينة أنّه الدَّجّال الّذي حذَّر منه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان لم يوحَ إليه في أمر ابن صياد شيئًا، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما يكشف دجله -وهو مميِّزٌ يعقل الخطّاب- أن يقول له:"أتشهد أني رسول الله؟ "
…
إلى أن قال له: "إنِّي قد خبأت لك خبيئًا؟ " إلى غير ذلك من الأسئلة الّتي وجَّهها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فليس المقصود بهذا الكلام تكليف ابن صيّاد بالإِسلام، وإنّما القصد إظهار حقيقة أمره، وإذا كان القصد ما ذكرنا؛ فلا غرابة أن يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ليرى جوابه، وقد ظهر من جوابه أنّه دجّال من الدَّجاجلة.
وأيضًا؛ فإنّه ليس هناك أي مانع في أن يَعرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلام على الصغير؛ فإن البخاريّ رحمه الله أورد قصة ابن صياد وترجم لها بقوله: "باب كيف يُعْرَضُ الإسلام على الصبي"
(2)
.
وأمّا كون النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعاقب ابن صياد مع ادِّعائه النبوَّة؛ فشبهة أثارها عدم اطلاع أبي عبية على أقوال العلماء في ذلك، وقد أجابوا عمَّا ذكره بأجوبة؛ منها:
(1)
"النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 104).
(2)
"صحيح البخاريّ"، كتاب الجهاد، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، (6/ 171 - مع الفتح).
1 -
أن ابن صيَّاد كان من يهود المدينة أوحلفائهم، وكان بينهم وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك المدة عهدٌ ومهادنة، وذلك أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة كتب بينه وبين اليهود، وصالحهم على أن لا يُهاجَوْا وأن يُتْرَكوا على دينهم.
ويؤيِّد هذا ما رواه الإِمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في ذكر قصة ذهاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ابن صياد ومقالته، وقول عمر رضي الله عنه: ائذن لي فأقتله يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن يكن هو؛ فلست صاحبه؛ إنّما صاحبه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وإلا يكن هو؛ فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد"
(1)
.
وإلى هذا الجواب ذهب الخطابي
(2)
والبغويِ
(3)
.
- وقال ابن حجر: "هو المتعيِّن"
(4)
.
2 -
أن ابن صيَّاد كان في ذلك الوقت صغيرًا، لم يبلغ الحلم.
ويؤِّيد هذا الجواب ما رواه البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة ذهاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ابن صياد، وفيها قوله:"حتّى وجده يلعب مع الغلمان عند أُطُم بني مَغالة، وقد قارب يومئذ ابن صياد يحتلم"
(5)
.
(1)
"الفتح الرِّبَاني"(24/ 64 - 65).
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصّحيح". "مجمع الزوائد"(8/ 3 - 4).
(2)
"معالم السنن"(6/ 182).
(3)
"شرح السنة"(15/ 80) تحقيق شعيب الأرناؤوط.
(4)
"فتح الباري"(6/ 174).
(5)
"صحيح البخاريّ"، (6/ 172 - مع الفتح).