الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأوّل: أهميَّة الإِيمان باليوم الآخر وأثره على سلوك الإِنسان
الإِيمان باليوم الآخر ركنٌ من أركان الإِيمان، وعقيدةٌ من عقائد الإسلام الأساسية، فإن قضية البعث في الدَّار الآخرة هي الّتي يقوم عليها بناء العقيدة بعد قضية وحدانية الله تعالى.
والإِيمان بما في اليوم الآخر وعلاماته من الإِيمان بالغيب الّذي لا يدركه العقل، ولا سبيل لمعرفته؛ إِلَّا بالنص عن طريق الوحي.
ولأهمِّية هذا اليوم العظيم؛ نجد أن الله تعالى كثيرًا ما يربط الإِيمان به بالإِيمان باليوم الآخر؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (177)} [البقرة: 177]، وكقوله تعالى:{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (2)} [الطّلاق: 2]
…
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وقلَّ أن تمرَّ على صفحة من القرآن؛ إِلَّا وتجد فيها حديثًا عن اليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب.
والحياة في التصوُّر الإِسلامي ليست هي الحياة الدُّنيا القصيرة المحدودة، وليست هي عمر الإِنسان القصير المحدود.
إن الحياة في التصوُّر الإِسلامي تمتدُّ طولًا في الزّمان إلى أبد الآباد، وتمتدُّ في المكان إلى دار أخرى في جنَّة عرضها السماوات والأرض، أو نار تتَّسع لكثير من الأجيال الّتي عمَّرت وجه الأرض أحقابًا من السنين
(1)
:
قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ رُسُلِهِ (21)} [الحديد: 21].
وقال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30].
إن الإِيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب هو الموجِّه الحقيقي لسلوكِ الإِنسانِ سبيلَ الخير، وليس هناك أي قانون من قوانين البشر يستطيع أن يجعل سلوك الإِنسان سويًّا مستقيمًا كما يصنعه الإِيمان باليوم الآخر.
ولهذا؛ فإن هناك فرقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا بين سلوك من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الأعمال الصالحة زاد الآخرة؛ كما قال الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197]، وكما قال الصحابي الجليل عُمير بن الحمام
(2)
:
(1)
انظر: "اليوم الآخر في ظلال القرآن"(ص 3 - 4)، جمع و إعداد أحمد فائز، مطبعة خالد حسن الطرابيشي، الطبعة الأولى، (1395هـ).
(2)
عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد الأنصاري رضي الله عنه: استشهد يوم بدر، وهو الّذي رمى التّمرات عندما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض،، وقال: بخ بخ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قول: بخ بخ؟ ". قال: لا والله يا رسول الله إِلَّا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها". فقال: لئن أنا =
رَكْضًا إلى اللهِ بِغَيْرِ زَادِ
…
إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ المَعَادِ
والصَّبْرِ في اللهِ عَلى الجِهادِ
…
وكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفادِ
غَيْرَ التُّقَى والبِرِّ والرَّشَادِ
(1)
هناك فرقٌ بين سلوك مَنْ هذا حاله، وبين سلوك آخر لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، "فالمصدِّق بيوم الدين يعمل وهو ناظرٌ لميزان السَّماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا"
(2)
، له سلوك فريدٌ في الحياة، نرى فيه الاستقامة، وسعة التصور، وقوة الإِيمان، والثبات في الشدائد، والصبر على المصائب؛ ابتغاء للأجر والثواب، فهو يعلم أن ما عند الله خيرٌ وأبقى.
روى الإمام مسلم عن صهيب رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمّن! إن أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إِلَّا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء؛ شكَرَ؛ فكان خيرًا له، وان أصابتهُ ضرَّاء؛ صَبَرَ؛ فكان خيرًا له"
(3)
.
= حييت حتّى آكل تمراتي هذه؛ إنها لحياة طويلة. ثمّ رمى بها وقاتل حتّى قُتِل.
انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الأمارة، باب ثبوت الجنَّة للشهيد، (13/ 45 - 46 - مع شرح النووي)، و "تجريد أسماء الصّحابة"(1/ 422) للإِمام الذهبي، ط. دار المعرفة- بيروت، و"فقه السيرة"(ص 243 - 244)، للشيخ محمّد الغزالي، تحقيق الشّيخ محمّد ناصر الدين الألباني، مطبعة حسان، الناشر دار الكتب الحديثة، الطبعة السابعة، (1976 م).
(1)
"فقه السيرة"(ص 244) للغزالي.
(2)
"اليوم الآخر في ظلال القرآن"(ص 20).
(3)
"صحيح مسلم"، كتاب الزهد، باب في أحاديث متفرقة، (18/ 125 - مع شرح النووي).
والمسلم لا يقتصر نفعه على البشرية، بل يمتدُّ إلى الحيوان؛ كما في القول المشهور عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:"لو عَثَرت بغلةٌ في العراق؛ لظننتُ أن الله سيسألني عنها: لِمَ لَمْ تُسَوِّ لها الطريق يا عمر"
(1)
.
هذا الشعور هو من آثار الإِيمان بالله واليوم الآخر، والإِحساس بثقل التَّبعة، وعظم الأمانة، الّتي تحملها الإِنسان وأشفقت منها السماوات والأرض والجبال، إذ يعلم أن كلّ كبيرة وصغيرة مسؤول عنها، ومحاسَب بها، ومجازى عليها، إن خيرًا؛ فخير، وان شرًّا؛ فشر:
وأمّا الّذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء؛ فهو يحاول جاهدًا أن يحقِّق مآربه في الحياة الدُّنيا؛ لاهثًا وراء مُتَعها، متكالبًا على جمعها، منَّاعًا للخير أن يصل النَّاس عن طريقه، قد جعل الدُّنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، فهو يقيس الأمور بمنفعته الخاصة، لا يهمه غيره، ولا يلتفت إلى بني جنسه؛ إِلَّا في حدود ما يحقِّق النفع له في هذه
(1)
رواه أبو نعيم بلفظ: "لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة؛ لظننت أن الله سائلي عنها يوم القيامة". "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"(1/ 53)، طبع دار الكتاب العربي.
الحياة القصيرة المحدودة، يتحرَّك وحدوده هي حدود الأرض وحدود لهذا العمر، ومن ثَمَّ يتغير حسابه، وتختلف موازينه، وينتهي إلى نتائج خاطئة
(1)
؛ لأنّه مستبعدٌ للبعث، {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6].
هذا التصوُّر الجاهلي المحدود الضيِّق جعل أهل الجاهلية يسفكون الدماء، وينهبون الأموال، ويقطعون الطريق؛ لأنّهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء؛ كما صوَّر الله حالهم بقوله تعالى:{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)} [الأنعام: 29]، وكما قال قائلهم:"إنّما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع".
وتَمُرًّ القرون، ويأتي العجب، فيحدث من الإِنكار أكبر من لهذا، فنرى إنكارًا كليًّا لما وراء المادة المحسوسة؛ كما في الشيوعية الماركسية الملحدة، الّتي لا تؤمن بالله تعالى ولا باليوم الآخر، وتصف الحياة بأنّها (مادة) فقط! وليس وراء المادة المحسوسة شيء آخر؛ فإن زعيمهم (ماركس) الملحد يرى أنّه لا إلهٌ! والحياة مادَّة! ولذلك فهم كالحيوانات؛ لا يدركون معنى الحياة وما خُلِقوا له، بل هم ضائعون تائهون، إن تحقَّق لهم اجتماعٌ؛ ففي ظل الخوف من سطوة القانون.
وتجد هذا الصنف من النَّاس من أشد النَّاس حرصًا على الحياة؛ لأنّهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت؛ كما قال تعالى في وصف المشركين من اليهود وغيرهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ
(1)
انظر: "اليوم الآخر في ظلال القرآن"(ص 20).
أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96].
فالمشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحبُّ طول الحياة، واليهوديُّ قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما صنع بما عنده من العلم
(1)
، فهذا الجنس وما شاكله هم شرُّ النَّاس، فتجده ينتشر بينهم: الجشع، والطمع، وقهر الشعوب، واستعبادهم، وسلب ثرواتهم؛ حرصًا منهم على التمتُّع بلذَّات الحياة الدُّنيا، ولهذا يظهر بينهم الانحلال الخُلُقي، والسلوك البهيمي.
وهم إذا رأوا الحياة الدُّنيا تربو متاعبها وآلامها على ما يأملون من لذات عاجلة؛ لم يكن لديهم أي مانع من الإِقدام على الموت، فهم لا يقدرون مسؤولية في حياة أخرى، فليس لديهم ما يمنع من إقدامهم على التخلُّص من هذه الحياة.
من أجل هذا اهتمَّ الإسلام وجاء التأكيد في القرآن على قضية الإِيمان باليوم الآخر، واثبات البعث والحساب والجزاء، فأنكر على الجاهلين استبعادهم له، وأمر نبيه أن يقسم على أنّه حقٌ:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن: 7]، وذكر من أحوال يوم القيامة، وما أعدَّه لعباده المتَّقين من ثواب، وما أعدَّه للعاصين من عقاب، ولفت نظر الجاحدين له إلى دلائل حقيَّتِه؛ استئصالًا للشَّكِّ مِن النفوس، وحتى يضع النَّاس نُصْبَ أعينهم هذا اليوم وما فيه من أهوالٍ
(1)
انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 184)، تحقيق عبد العزيز غنيم ورميديه، مطبعة الشعب، القاهرة.