الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دجال - أهون على الله من أن يسلِّطه على خلقه، ويمدَّه بهذه الأسلحة الخطيرة الفتاكة المزلزِلة للعقيدة وللدين في قلوب أكثر العالمين"
(1)
.
والرد على هؤلاء يتلخَّص في الآتي:
1 -
أن الأحاديث الواردة في ذكر خوارق الدَّجَّال ثابتة وصحيحة، لا يجوز ردُّها أو تأويلها؛ لما ذُكر من شبه، وليس فيها اضطراب، ولا بينها تعارُض.
وما استشهد به رشيد رضا من أن حديث المغيرة الّذي في الصحيحين يعارض أحاديث الدَّجَّال، فيجاب عنه بأن معنى قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"هو أهون على الله من ذلك"؛ أي: أهون من أن يجعل ما يخلقه على يدي الدَّجّال من الخوارق مضلًّا للمؤمنين، ومشكِّكًا لقلوب المؤمنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويرتاب الّذي في قلوبهم مرضٌ، فهو مثل قول الّذي يقتله الدَّجَّال:"ما كنتُ أشدَّ بصيرةً مني فيك اليوم"، وليس المراد من قوله:"هو أهون على الله من ذلك" أنّه ليس شيءٌ من ذلك معه، بل المراد أهون من أن يجعلَ شيئًا من ذلك آية على صدقه، ولا سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة تدلُّ على كذبه وكفره، يقرؤها كلّ مسلم كاتب وغير كاتب، زائدة على شواهد كذبه من حدثه ونقصه
(2)
؛ كما مر في الكلام على صفته.
2 -
لو سلمنا أن الحديث على ظاهره؛ فيكون قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم له ذلك
(1)
"النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 118)، تحقيق محمَّد أبو عبية.
(2)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 74)، و"فتح الباري"(13/ 93).
قبل أن ينزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيان ما معه من الخوارق؛ بدليل قول المغيرة للنبي- صلى الله عليه وسلم: "يقولون: إن معه
…
"، ولم يقل للنبي- صلى الله عليه وسلم: إنك قلت فيه كذا وكذا. ثمَّ جاء الوحي بعد ذلك ببيان ما يكون مع الدَّجَّال من الخوارق والآيات، فلا منافاة بين حديث المغيرة وأحاديث الدَّجَّال.
3 -
إن خوارق الدَّجّال حقيقية، وليست بخيالات ولا تمويهات، وهذه الخوارق من الأمور الّتي أقدره الله عليها فتنةً وابتلاءً للعباد، والدَّجَّال لا يمكن أن يشتبه حاله بحال الأنبياء؛ لأنّه لم يثبت أنّه يدعي النبوَّة حال ظهور الخوارق على يديه، بل يكون ظهور الخوارق عند ادِّعائه الرُّبوبية
(1)
.
4 -
إن استبعاد رشيد رضا لما رُوي من أن الدَّجَّال يظهر على الأرض كلها في أربعين يومًا؛ إِلَّا مكّة والمدينة: ليس عليه دليل، بل جاء الدّليل بخلافه؛ فإنَّه ورد في رواية مسلم أن بعض أيّام الدَّجَّال يكون قدر سنة، وبعضها قدر شهر، وبعضها قدر أسبوع
…
كما سبق ذكر ذلك
(2)
.
5 -
أن ما يُعْطاهُ الدَّجَّال من الخوارق ليس فيه مخالفة لسنن الله الكونية؛ فإننا لو أجرينا كلام رشيد رضا على ظاهره لأبطلنا معجزات الأنبياء؛ لأنّها مخالفة لسنن الله الكونية، وما يُقال في خوارق الأنبياء وأنّها ليست مخالفة لسنن الله تعالى يقال في الخوارق الّتي يُعطاها الدَّجَّال على سبيل الفتنة والامتحان والابتلاء.
6 -
لو سلَّمنا أن خوارق الدَّجَّال مخالفة لسنن الله الكونية؛ فإننا
(1)
انظر: "فتح الباري"(13/ 105).
(2)
انظر (ص 298).
نقول: إن زمن الدَّجَّال تنخرق فيه العادات، وتحدث أمور عظيمة مؤذِنة بخراب العالم وزوال الدُّنيا وقرب السّاعة، وإذا كان خروجه في زمن فتنة أرادها الله؛ فلا يُقال: إن الله ألطف بعباده أن يفتنهم بخوارقه، فهو اللطيف الخبير، ولكن اقتضت حكمته أن يبتلي العباد به، وقد أنذرهم وحذَّرهم منه.
وبعد هذا؛ فأرى من المناسب هنا أن أنقل طائفة من كلام العلماء الأعلام في إثبات خوارق الدَّجَّال، وأنّها حقيقة جعلها الله فتنة وامتحانًا للعباد:
قال القاضي عياض رحمه الله: " هذه الأحاديث الّتي ذكرها مسلمٌ وغيرُه في قصَّة الدَّجّال حجَّة لمذهب أهل الحق في صحَّة وجوده، وأنّه شخصٌ بعينه، ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميِّت الّذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السَّماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنتب، فيقع كلّ ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثمَّ يُعجِزُه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرَّجل ولا غيره، ويُبْطِل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبِّت الله الذين آمنوا.
هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدِّثين والفقهاء والنُظار؛ خلافًا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهميَّة وبعض المعتزلة
…
وغيرهم في أنّه صحيح الوجود، ولكن الّذي يدَّعى مخاوف وخيالات لا حقائق لها، وزعمو أنّه لو كان حقًّا؛ لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وهذا غلطٌ من جميعهم؛ لأنّه لم يدَّع النبوَّة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنّما يدَّعي الإِلهيَّة، وهو في نفس دعواه مكذِّبٌ لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الّذي في عينيه، وعن إزالة الشّاهد بكفره المكتوب بين عينيه.
ولهذه الدَّلائل وغيرها لا يغترُّ به إِلَّا رعاع من النَّاس؛ لسد الحاجة والفاقة؛ رغبة في سد الرمق، أو تقيَّة، أو خوفًا من أذاه؛ لأنّه فتنة عظيمة؛ تدهش العقول، وتحيِّر الألباب، مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث بحيث يتأمَّل الضعفاء حاله ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدِّقه من صدَّقه في هذه الحالة.
ولهذا حذَّرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنتّه، ونبَّهوا على نقصه ودلائل إبطاله.
وأمّا أهل التوفيق؛ فلا يغترُّون به، ولا يُخْدَعون لما معه؛ لما ذكرناه من الدَّلائل المكذِّبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الّذي يقتله ثمَّ يحييه: ما ازددت فيك إِلَّا بصيرة"
(1)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "إن الدّجَّال يمتحن الله به عباده بما يخلقه معه من الخوارق المشاهَدَة في زمانه كما تقدّم أن من استجاب له يأمر السَّماء فتمطرهم، والأرض فتنبت لهم زرعًا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، وترجع إليهم مواشيهم سمانًا لبنًا، ومن لا يستجيب له، ويرد عليه أمره؛ تصيبهم السَّنَة والجَدْب والقحط والقلة وموت الأنعام ونقص الأموال
(1)
"شرح النوويّ لمسلم"(18/ 58 - 59)، و"فتح الباري"(13/ 105).
والأنفس والثمرات، وأنّه يتبعه كنوز كيعاسيب النحل، ويقتل ذلك الشاب ثمَّ يحييه، وهذا كله ليس بمخرقة، بل له حقيقة امتحن الله بها عباده في آخر الزّمان، فيضلُّ به كثيرًا، ويهدي به كثيرًا؛ يكفر المرتابون، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا"
(1)
.
وقال الحافظ ابن حجر: "وفي الدَّجَّال مع ذلك دلالة بيِّنة لمن عقل على كذبه؛ لأنّه ذو أجزاء مؤلَّفة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر مع ظهور الآفة به من عَور عينيه، فإذا دعا النَّاس إلى أنّه ربهم: فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنّه لم يكن لِيُسَوِّي خلق غيره ويَعْدِله ويُحْسِنه ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول: يا من يزعم أنّه خالق السَّماء والأرض! صوِّر نفسك وعدِّلْها وأزل عنها العاهة، فإن زعمتَ أن الرَّبَّ لا يُحدث في نفسه شيئًا؛ فأزل ما هو مكتوب بين عينيك"
(2)
.
وقال ابن العربي
(3)
: "الّذي يظهر على يد الدَّجَّال من الآيات؛ من إنزال المطر والخصب على مَنْ يصدقه، والجدب على مَنْ يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنَّة ونار ومياه تجري؛ كلّ ذلك محنة من الله، واختبار؛ ليهلك المرتاب، وينجو المتيقَن، وذلك كله أمر مخوفٌ، ولهذا
(1)
"النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 121)، تحقيق د. طه زيني.
(2)
"فتح الباري"(13/ 103).
(3)
هو أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن محمَّد المعافري الإشبيلي المالكي، صاحب المصنفات؛ كـ"أحكام القرآن"، وغيرها، توفي بالقرب من فاس بالمغرب، ودُفن بها سنة (543 هـ) رحمه الله. انظر:"الأعلام"(6/ 230).