الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
من أيِّ الدَّوابِّ دابة الأرض:
اختلفت الأقوال في تعيين دابَّة الأرض، وإليك بعض ما قاله العلماء في ذلك:
الأوّل: قال القرطبي: "أول الأقوال أنها فصيل ناقة صالح، وهو أصحها، والله أعلم"
(1)
.
واستشهد لهذا القول بما رواه أبو داود الطيالسي عن حذيفة بن أسيد الغفاري؛ قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدَّابَّة
…
(فذكر الحديث، وفيه:)"لم يرعهم إِلَّا وهي ترغو بين الركن والمقام"
(2)
.
= وسنن التّرمذيّ، أبواب التفسير، سورة النمل، (9/ 44)، وقال:"حديث حسن". و"مستدرك الحاكم"(4/ 485 - 486).
وقال الألباني: "ضعيف" في "ضعيف الجامع الصغير"(3/ 26)(ح 3412). وسبب تضعيفه لهذا الحديث أن في سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو عنده ضعيف.
أمّا الشّيخ أحمد شاكر؛ فيرى انه ثقة، حيث قال في تعليقه على "المسند" (2/ 122) (ح 783):"علي بن زيد: هو ابن جدعان، وقد سبق أننا وثقناه، وهو مختلف فيه، والراجح عندنا توثيقه، وقد صحح له التّرمذيّ أحاديث".
(1)
"تفسيرالقرطبي"(13/ 235).
(2)
"منحة المعبود ترتيب مسند الطيالسي"، باب خروج الدابة" (2/ 220 - 221) للساعاتي، ولفظه: "ترنو"، وليس فيه: "ترغو".
ورواه الحاكم في "المستدرك"(4/ 484)، وقال:"هذا حديث صحيح الإِسناد، وهو أبين حديث في ذكر دابة الأرض، ولم يخرجاه".
قلت: الحديث ضعيف؛ لان في إسناده عند الطيالسي والحاكم طلحة بن عمرو =
وموضع الشّاهد قوله: "ترغو"، والرغاء إنّما هو للإِبل، وذلك "أن الفصيل لما قُتِلَتِ الناقة هرب، فانفتح له حجر، فدخل في جوفه، ثمّ انطبق عليه، فهو فيه حتّى يخرج بإذن الله عز وجل".
ثمَّ قال: "لقد أحسن من قال:
واذْكُرْ خُروجَ فَصِيْلَ ناقَةِ صالحٍ
…
يَسِمُ الوَرَى بالكُفْرِ والإِيْمانِ"
(1)
وترجيح القرطبي لهذا القول فيه نظر؛ فإن الحديث الّذي استند إليه في سنده رجلٌ متروك.
وأيضًا؛ فإنّه جاء في بعض كتب الحديث لفظ: (تدنو) و (تربو)؛ بدل: (ترغو)؛ كما في "المستدرك" للحاكم.
الثّاني: أنها الجسَّاسة المذكورة في حديث تميم الداري رضي الله عنه في قصة الدَّجَّال.
وهذا القول منسوبٌ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
(2)
.
= الحضرمي: قال ابن معين: "ليس بشيء ضعيف"، وقال الذهبي في "ذيل المستدرك":"تركه أحمد"، وقال الهيثمي:"رواه الطبراني، وفيه طلحة بن عمرو، وهو متروك".
"مجمع الزوائد"(8/ 7)، وانظر:"تهذيب التهذيب"(5/ 23 - 24).
وهذا الحديث أخرجه الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية"(4/ 343 - 344)، وعزاه للطيالسي، ولفظه:"تزعق"، بدل:"ترغو".
(1)
"التذكرة"(ص 702).
(2)
"شرح النووي لمسلم"(18/ 28). =
وليس في حديث تميم ما يدلُّ على أن الجساسة هي الدَّابة الّتي تخرج آخر الزّمان، وإنّما الّذي جاء فيه انه لقي دابَّة أهلب كثيرة الشعر، فسألها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة.
وسُمِّيت بالجساسة لأنها تجسُّ الأخبار للدَّجَّال
(1)
.
وأيضًا؛ فما جاء في شأن الدَّابَّة الّتي نتحدث عنها من تعنيف النَّاس وتوبيخهم على كفرهم بآيات الله تعالى يُبيِّن أنها غير الجساسة الّتي تنقل الأخبار للدَّجَّال، والله أعلم.
الثّالث: أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة الّتي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة.
ولهذا القول نسبه القرطبي
(2)
إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ منقولًا من كتاب النقاش، ولم يذكر له مستندًا في ذلك، وذكره الشوكاني في "تفسيره"
(3)
.
الرّابع: أن الدَّابَّة إنسانٌ متكلِّم يناظر أهل البدع والكفر، ويجادلهم؛
= وممَّن قال بأنها الجساسة: البيضاوي في "تفسيره"(4/ 121)، طبعة مؤسسة شعبان، بيروت.
وانظر: "الإِذاعة"(ص 173)، وكتاب "العقيدة الركن الأوّل في الإسلام"(ص 320) للشيخ محمّد الفاضل الشريف التقلاوي، دار العلوم للطباعة، القاهرة.
(1)
"النهاية في غريب الحديث"(1/ 272)، و"شرح السنة" للبغوي، (15/ 68).
(2)
"تفسير القرطبي"(13/ 236).
(3)
"تفسير الشوكاني/ فتح القدير"(4/ 151).
لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة.
وهذا القول ذكره القرطبي، وردَّه بأن الدَّابَّة لو كانت إنسانًا يناظر المبتدعة، لم تكن الدَّابَّة آية خارقة وعلامة من علامات السّاعة العشر.
وأيضًا فيه العدول عن تسمية هذا الإِنسان المناظر الفاضل العالم الّذي على أهل الأرض أن يسمُّوه باسم الإِنسان أو العالم أو الإِمام إلى أن يسمَى بالدَّابَّة، وهذا خروجٌ عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء
(1)
.
الخامس: أن الدَّابَّة اسم جنس
(2)
لكلِّ ما يدبُّ، وليست حيوانًا مشخَّصًا معيَّنًا يحوي العجائب والغرائب، ولعلّ المراد بها تلك الجراثيم الخطيرة الّتي تفتك بالإِنسان وجسمه وصحته، فهي تجرح وتقتل، ومن تجريحها وأذاها كلمات واعظة للناس لو كانت لهم قلوبٌ تعقل، فترجع بهم إلى الله، وإلى دينه، وتلزمهم الحجة، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ فإن من معاني التكليم التجريح.
وهذا القول هو ما ذهب إليه أبو عبيَّة في تعليقه على "النهاية/ الفتن والملاحم" لابن كثير
(3)
، وهو رأي بعيد عن الصواب، وذلك لأمور:
أ - أن الجراثيم موجودة من قديم الزّمان، وكذلك الأمراض الّتي
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 236 - 237).
(2)
في كون الدابة اسم جنس لدواب كثيرة ذكر هذا القول البرزنجي في "الإِشاعة"(ص 177)، ونسبه لتفسير ابن علان "ضياء السبيل"، وهذا القول لم يذكر له دليلًا صحيحًا يعتمد عليه.
(3)
(1/ 190، 199)، تحقيق محمّد فهيم أبو عبية.
تفتك بالناس في أجسامهم وزروعهم ودوابِّهم
(1)
، والدَّابَّة الّتي هي من أشراط السّاعة لم تظهر بعد.
ب - أن الجرائم غالبًا لا ترى بالعين المجرَّدة، وأمّا الدَّابَّة؛ فلم يقل أحدٌ: إنها لا تُرى، بل إن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من أحوالها ما يدلُّ على رؤية النَّاس لها، فذكر أن معها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام
…
إلى غير ذلك ممّا سبق ذكره.
ج - أن هذه الدَّابَّة تَسِم النَّاس على وجوههم بالكفر والإِيمان، فتجلو وجه المؤمّن، وتخطم أنف الكافر، وأمّا الجراثيم؛ فلا تفعل شيئًا من ذلك.
د - الّذي يظهر أن الّذي دفعه لهذا القول هو ما ذُكِرَ في صفة الدَّابَّة من الأقوال الكثيرة المختلفة
(2)
، ولكن قدرة الله أعظم، وما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب التسليم به.
وكذلك؛ فأي مانع من حمل اللّفظ على المعنى المتبادر، ولا نلجأ
(1)
انظر: "إتحاف الجماعة"(2/ 306 - 307).
(2)
ذكر بعض المفسرين آثارًا كثيرة في صفة هذه الدابة، وذُكرت هذه الآثار أيضًا في بعض كتب أشراط السّاعة، ولم أطلع بعد البحث على تصحيح أحد من العلماء لهذه الآثار، فالله أعلم بحالها.
وهذه بعض الكتب الّتي تعرضت لذلك: "تفسير القرطبي"(13/ 235 - 236)، و"التذكرة"(ص 699)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 220 - 223)، و"النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 162 - 263)، و"تفسير الشوكاني"(4/ 151 - 153)، و"لوامع الأنوار"(2/ 146 - 147)، و"الإشاعة"(ص 174 - 175)، و"تحفة الأحوذي"(6/ 413 - 414).
إلى التجوُّز إِلَّا إذا تعذَّرتِ الحقيقة، لا سيما أن قوله هذا مخالفٌ لأقوال المفسرين؛ فإنهم ذكروا أن هذه الدَّابَّة مخالفة لما يعتاده البشر، فهي من خوارق العادات، كما أن طلوع الشّمس من مغربها أمرٌ خارقٌ للعادة.
وقد جاء في الحديث انهما يخرجان في وقت متقارب؛ قال صلى الله عليه وسلم: "أول الآيات خروجًا طلوع الشّمس من مغربها، وخروج الدَّابَّة على النَّاس ضحىً، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها قريبًا"
(1)
.
والذي يجب الإِيمان به هو أن الله تعالى سيخرج للناس في آخر الزّمان دابَّة من الأرض تكلِّمهم، فيكون تكليمها آية لهم دالَّة على انهم مستحقون للوعيد بتكذيبهم آيات الله، فإذا خرجت الدَّابَّة؛ فهم النَّاس، وعلموا أنها الخارقة المنبئة باقتراب السّاعة، وقد كانوا قبل ذلك لا يؤمنون بآيات الله، ولا يصدِّقون باليوم الموعود.
والذي يؤيِّد أن هذه الدَّابَّة تنطق وتخاطب النَّاس بكلام يسمعونه ويفهمونه هو انه جاء ذكرها في سورة النمل، وهذه السورة فيها مشاهد وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه السلام، فجاء ذكر الدَّابَّة وتكليمها النَّاس متناسقًا مع مشاهد السورة وجوها العام
(2)
.
قال أحمد شاكر رحمه الله: "والآية صريحةٌ بالقول العربي أنّها (دابَّة)، ومعنى (الدَّابَّة) في لغة العرب معروفٌ واضحٌ، لا يحتاج إلى تأويل
…
ووردت أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها بخروج هذه (الدَّابَّة)
(1)
رواه مسلم (18/ 77 - 78).
(2)
انظر: "في ظلال القرآن"(5/ 2667).