الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السّادس: الدُّخان
ظهور الدُّخان في آخر الزّمان من علامات السّاعة الكبرى الّتي دلَّ عليها الكتاب والسُّنَّة.
* أدلة ظهوره:
أ- الأدلَّة من القرآن الكريم:
قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 - 11].
والمعنى: انتظر يا محمّد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السَّماء بدخان مبينٍ واضحٍ يغشى النَّاس ويعمُّهم، وعند ذلك يُقال لهم: هذا عذابٌ أليمٌ؛ تقريعًا لهم وتوبيخًا، أو يقول بعضهم لبعض ذلك
(1)
.
وفي المراد بهذا الدُّخان؟ وهل وقع؟ أو هو من الآيات المرتقبة؟ قولان للعلّماء:
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(16/ 130)، و"تفسير ابن كثير"(7/ 235 - 236).
الأوّل: أن هذا الدخان هو ما أصاب قريشًا من الشدة والجوع عندما دعا عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين لم يستجيبوا له، فأصبحوا يرون في السَّماء كهيئة الدُّخان.
وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وتبعه جماعة من السلف
(1)
.
قال رضي الله عنه: "خمسٌ قد مضين: اللزام
(2)
، والروم، والبطشة، والقمر، والدُّخان"
(3)
.
ولما حدث رجل من كندة عن الدُّخان، وقال: إنّه يجيء دخانٌ يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم؛ غضب ابن مسعود رضي الله عنه، وقال: "مَنْ علم فليقل، ومَن لم يعلم؛ فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وإن قريشًا أبطؤوا عن
(1)
انظر: "تفسير الطّبريّ"(15/ 111 - 113)، و"تفسير القرطبي"(16/ 131)، و"تفسير ابن كثير"(7/ 233).
(2)
(اللزام): هو ما جاء في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]؛ أي: يكون عذابًا لازمًا يهلكهم نتيجة تكذيبهم، وهو ما وقع لكفار قريش في بدر من القتل والأسر.
انظر: "تفسير ابن كثير"(6/ 143 و 305)، و"شرح النووي لمسلم"(17/ 143).
(3)
"صحيح البخاريّ"، كتاب التفسير، باب {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (8/ 571 - مع الفتح)، و"صحيح مسلم"، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الدخان، (17/ 143 - جمع شرح النووي).
الإسلام، فدعا عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللَّهُمَّ أعِنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف"، فأخذتهم سنةٌ جتى هلكوا فيها، وأكلوا الميِّتة والعظام، ويرى الرَّجل ما بين السَّماء والأرض كهيئة الدُّخان
(1)
.
وهذا القول رجَّحه ابن جرير الطّبريّ، ثمّ قال: "لأنَّ الله جلَّ ثناؤه توعَّد بالدُّخان مشركي قريش، وأن قوله لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم؛ بقوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 8 - 9]، ثمّ أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ؛ أمرًا منه له بالصبر
…
إلى أن يأتِيَهم بأسه، وتهديدًا للمشركين، فهو بأن يكون إذ كان وعيدًا لهم قد أحلَّهُ بهم، أشبه من أن يكون أخَّره عنهم لغيرهم"
(2)
.
الثّاني: أن لهذا الدُّخان من الآيات المنتظرة، الّتي لم تجىء بعد، وسيقع قرب قيام السّاعة.
وإلى هذا القول ذهب ابن عبّاس وبعض الصّحابة والتابعين؛ فقد روى ابن جرير الطّبريّ وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي مُليكة
(3)
؛ قال:
(1)
"صحيح البخاريّ"، كتاب التفسير، سورة الروم، (8/ 511 - مع الفتح)، وباب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (8/ 571 - مع الفتح)، و"صحيح مسلم"، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الدخان، (17/ 140 - 141 - مع شرح النووي).
(2)
"تفسير الطّبريّ"(25/ 114).
(3)
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي =
"غدوتُ على ابن عبّاس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت اللَّيلة حتّى أصبحت. قلتُ: لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدُّخان قد طرق، فما نمت حتّى أصبحت"
(1)
.
قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عبّاس حبر الأمة، وترجمان القرآن، وهكذا قول مَنْ وافقه من الصّحابة والتابعين أجمعين، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرها .. بما فيه مقنع ودِلالة ظاهرة على أن الدُّخان من الآيات المنتظرة، مع أنّه ظاهر القرآن؛ قال الله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ؛ أي: بيِّن واضح يراه كلّ أحد، على أن ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنّما هو خيالٌ رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد.
وهكذا قوله: {يَغْشَى النَّاسَ} ؛ أي: يتغشَّاهم ويعمُّهم، ولو كان أمرًا خياليًّا يخصُّ أهل مكّة المشركين؛ لما قيل فيه:{يَغْشَى النَّاسَ} "
(2)
.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صيَّاد: "إنِّي خبَّأتُ لك خبئًا". قال: هو الدُّخ. فقال له: "اخسأ؛ فلن تعدو قدرك". وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}
(3)
.
= المكي، كان قاضيًا ومؤذِّنًا لابن الزبير، وروى عن العبادلة الأربعة، وكان ثقة كثير الحديث، توفي سنة (117 هـ) رحمه الله.
انظر: "تهذيب التهذيب"(5/ 306 - 307).
(1)
"تفسير الطّبريّ"(25/ 113)، و"تفسير ابن كثير"(7/ 235).
(2)
"تفسير ابن كثير"(7/ 235).
(3)
"صحيح البخاريّ"، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي، (3/ 218 - مع =
وفي هذا دليلٌ على أن الدُّخان من المنتظر المرتقب، فإن ابن صياد كان من يهود المدينة، ولم تقع هذه القصة إِلَّا بعد الهجرة النبويَّة إلى المدينة المنوَّرة.
وأيضًا؛ فإن الأحاديث الصحيحة ذكرت أن الدُّخان من أشراط السّاعة الكبرى كما سيأتي.
وأمّا ما فسَّر به ابن مسعود رضي الله عنه؛ فإن ذلك من كلامه، والمرفوع مقدَّم على كلّ موقوف
(1)
.
ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلّامة أن يقولوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ، فيكشف عنهم، ثمَّ يعودون، وهذا قرب القيامة.
على أن بعض العلماء ذهب إلى الجمع بين هذه الآثار
(2)
بأنّهما دخانان ظهرت إحداهما وبقيت الأخرى، وهي الّتي ستقع في آخر الزّمان، فأمّا الّتي ظهرت؛ فهي ما كانت تراه قريشٌ كهيئة الدُّخان، وهذا الدُّخان
= الفتح)، و"صحيح مسلم"، باب ذكر ابن صياد، (18/ 47 - 49 - مع النووي)،
والترمذي، باب ما جاء في ذكر ابن صياد، (6/ 518 - 520)، و"مسند أحمد"(9/ 136 - 139) ح 6360)، تحقيق أحمد شاكر، وقال:"إسناده صحيح".
وذكرت تصحيح أحمد شاكر لهذا الحديث، مع أنّه في الصحيحين؛ لأنَّ قوله: "وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ} الآية
…
لم تذكر في الصحيحين، بل في رواية الإِمام أحمد والترمذي عن ابن عمر، وهي موضع الشّاهد هنا، فنبهت على أنّها صحيحة.
(1)
انظر: "النهاية/ الفتن والملاحم"(1/ 172) تحقيق د. طه زيني.
(2)
انظر: "التذكرة"(ص 655)، و"شرح النوويّ لمسلم"(18/ 27).