الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ المُهادَنَةِ على النَّظَرِ لِلمُسلِميَن
18840 -
أخبرَنا أبو عبدِ اللهِ الحافظُ، حدثنا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ جَعفَرٍ القَطيعِىُّ، حدثنا أبو عبدِ الرَّحمَنِ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، حَدَّثَنِى أبى، حدثنا عبدُ الرَّزّاقِ، عن مَعمَرٍ قال الزُّهرِىُّ: أخبرَنِى عُروَةُ بنُ الزُّبَيرِ، عن المِسوَرِ بنِ مَخرَمَةَ ومَروانَ بنِ الحَكَمِ، يُصَدِّقُ حَديثُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَه، قالا: خَرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيبيَةِ فى بضعَ عَشرَةَ مِائَةً مِن أصحابِه، حَتَّى إذا كانوا بذِى الحُلَيفَةِ قَلَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الهَدىَ وأَشعَرَه، وأَحرَمَ بالعُمرَةِ، وبَعَثَ بَينَ يَدَيه عَينًا له مِن خُزاعَةَ يُخبِرُه عن قُرَيشٍ، وسارَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذا كان بغَدِيرِ
(1)
الأشطاطِ قَريبٍ مِن عُسفانَ أتاه عَينُه الخُزاعِىُّ، فقالَ: إنِّى تَرَكتُ كَعبَ بنَ لُؤَىٍّ وعامِرَ بنَ لُؤَىٍّ قَد جَمَعوا لَكَ الأحابِشَ. قال أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: وقالَ يَحيَى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ المُبارَكِ: قَد جَمَعوا لَكَ الأحابيشَ. وجَمَعوا لَكَ جُموعًا، وإِنَّهُم مُقاتِلوكَ وصادّوكَ عن البَيتِ. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علىَّ، أتَرَونَ أن نَميلَ إلَى ذَرارِىِّ هَؤُلاءِ الَّذينَ أعانوهُم فنُصيبَهُم؛ فإِن قَعَدوا قَعَدوا مَوتورينَ
(2)
مَحزونينَ، وإِن نَجَوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَها اللهُ؟ أو تَرَونَ أن نَؤُمَّ البَيتَ فمَن صَدَّنا عنه قاتَلناه؟ ". فقالَ أبو بكرٍ: اللهُ ورسولُه أعلمُ يا نَبِىَّ اللهِ، إنَّما جِئنا مُعتَمِرينَ ولَم نَجِئْ نُقاتِلُ أحَدًا، ولَكِن مَن
(1)
كتب فوقها فى الأصل: "خ ر"، وفى الحاشية:"بوادى: صح". وغدير الأشطاط: موضع قرب
عسفان. معجم البلدان 1/ 279.
(2)
الموتور: من قتل له قتيل فلم يُدرِك بدمه. التاج 14/ 344 (و ت ر).
حال بَينَنا وبَينَ البَيتِ قاتَلناه. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذن". قال الزُّهرِىُّ: وكانَ أبو هريرةَ يقولُ: ما رأيتُ أحَدًا قَطُّ كان أكثَرَ مَشورَةً لأصحابِه مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال الزُّهرِىُّ فى حَديثِ المِسوَرِ بنِ مَخرَمَةَ ومَروانَ بنِ الحَكَمِ: فراحوا حَتَّى إذا كان ببَعضِ الطَّريقِ قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خالِدَ بنَ الوَليدِ بالغَميمِ فى خَيلٍ لِقُرَيشٍ طَليعَةً، فخُذوا ذاتَ اليَمينِ". فواللهِ ما شَعَرَ بهِم خالِدٌ حَتَّى إذا هو بغَبَرَةِ الجَيشِ، فانطَلَقَ يَركُضُ نَذيرًا لِقُرَيشٍ، وسارَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذا كان بالثَّنيَّةِ التى يُهبَطُ عَلَيهِم مِنها، بَرَكَت به راحِلَتُه، فقالَ النّاسُ: حَلْ حَلْ
(1)
. فأَلَحَّت
(2)
، فقالوا: خَلأتِ القَصواءُ، خَلأتِ القَصواءُ. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "ما خَلأتِ القَصواءُ
(3)
، وما ذاكَ لَها بخُلُقٍ؛ ولَكِن حَبَسَها حابِسُ الفيلِ". ثُمَّ قال:"والَّذِى نَفسِى بيَدِه لا يَسأَلونِى خُطَّةً يُعَظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أعطَيتُهُم إيّاها". ثُمَّ زَجَرَها فوَثَبَتْ به. قال: فعَدَلَ عَنها حَتَّى نَزَلَ بأَقصَى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ
(4)
قَليلِ الماءِ، إنَّما يَتَبَرَّضُه النّاسُ تبَرُّضًا
(5)
، فلَم
(1)
حَلْ حَلْ: كلمة معناها الزجر، يقال فى زجر البعير: حَلْ بالتخفيف. ويقال: حلحلت الإبل. إذا
زجرتها لتنبعث. معالم السنن 2/ 327.
(2)
ألحت: لزمت المكان فلم تنبعث، ويقال: تلحلح بالمكان. إذا لزمه فلم يبرح، وتحلحل عنه إذا زال وفارقه. معالم السنن 2/ 327.
(3)
خلأت الناقة خلاءً: إذا حَرَنت، وذلك إذا وقفت ولم تتحرك وإن ضربت. ينظر غريب الحديث
للحربى 2/ 446.
(4)
الثمد: الماء القليل. ويقال: ماء مثمود. إذا كثرت عليه الشفاه حتى يفنى وينزف. معالم السنن 2/ 328.
(5)
أى: يتتبعه الناس قليلًا قليلًا، والتبرض: جمع القليل منه بعد القليل، والبرض: قليل الماء. مشارق الأنوار 1/ 85.
يُلَبِّثْه النّاسُ أن نَزَحوه، فشُكِىَ إلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العَطَشُ، فانتَزَعَ سَهمًا مِن كِنانَتِه، ثُمَّ أمَرَهُم أن يَجعَلوه فيه. قال: فواللهِ ما زالَ يَجيشُ
(1)
لَهُم بالرِّىِّ حَتَّى صَدَروا عنه. قال: فبَينا هُم كَذَلِكَ إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرقاءَ الخُزاعِىُّ فى نَفَرٍ مِن قَومِه، وكانوا عَيبَةَ نُصحِ
(2)
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامَةَ، فقالَ: إنِّى تَرَكتُ كَعبَ بنَ لُؤَىٍّ وعامِرَ بنَ لُؤَىٍّ -قال أحمدُ: حَدَّثَناه يَحيَى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ المُبارَكِ، وقالَ: إنِّى تَرَكتُ كَعبَ بنَ لُؤَىٍّ وعامِرَ بنَ لُؤَىٍّ- نَزَلوا أعدادَ مياهِ
(3)
الحُدَيبيَةِ مَعَهُمُ العُوذُ المَطافِيلُ
(4)
، وهُم مُقاتِلوكَ وصادّوكَ عن البَيتِ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّا لَم نَجِئْ لِقِتالِ أحَدٍ
(5)
ولَكِنّا جِئنا مُعتَمِرينَ، وإِنَّ قُرَيشًا قَد نَهِكَتهُمُ الحَربُ وأَضَرَّت بهِم، فإِن شاءوا مادَدتُهُم مُدَّةً ويُخَلّوا بَينِى وبَينَ النّاسِ؛ فإِن أظهَرْ، فإِن شاءوا أن يَدخُلوا فيما دَخَلَ فيه النّاسُ فعَلوا، وإِلَّا فقَد جَمّوا، وإِن أبَوا فوالَّذِى نَفسِى بيَدِه لأُقاتِلَنَّهُم على أمرِى هذا حَتَّى تَنفَرِدَ سالِفَتِى
(6)
أو ليُنْفِذَنَّ اللهُ
(1)
يجيش: يفور. مشارق الأنوار 1/ 167.
(2)
يريد أنه موضع سر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة الذى يستنصحه ويأتمنه على أمره، وذلك أن الرجل يودع عيبته حُرَّ المتاع ومصون الثياب ونحو ذلك، فوقع التشبيه له بالعيبة من أجل ذلك. معالم السنن 2/ 328.
(3)
العد بكسر العين: الماء المجتمع المَعين، وجمعه أعداد. مشارق الأنوار 2/ 69.
(4)
العوذ: جمع عائذ وهى الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أياما حتى يقوى ولدها. والمطافيل: جمع مطفل وهى الناقة معها فصيلها. غريب الحديث لابن الجوزى 2/ 134. وينظر فتح البارى 5/ 338.
(5)
ليس فى: س، م.
(6)
تنفرد سالفتى: تنقطع عنقى وتنفرد عن رأسى، والسالفة: أعلى العنق. وقيل: السالفتان جانبا =
أمرَه". قال بُدَيلٌ: سأُبَلِّغُهُم ما تَقولُ. فانطَلَقَ حَتَّى أتَى قُرَيشًا، فقالَ: إنّا قَد جِئناكُم مِن عِندِ هذا الرَّجُلِ، وسَمِعناه يقولُ قَولًا، فإِن شِئتُم نَعرِضُه عَلَيكُم. فقالَ سُفَهاؤُهُم: لا حاجَةَ لَنا فى أن تُحَدِّثَنا عنه بشَئٍ. وقالَ ذَوُو الرّأىِ مِنهُم: هاتِ ما سَمِعتَه. يقولُ: قال: سَمِعتُه يقولُ كَذا وكَذا. فحَدَّثَهُم بما قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فقامَ عُروَةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفِىُّ، فقالَ: أى قَومِ، ألَستُم بالوالِدِ؟ قالوا بَلَى. قال: أوَلَستُ بالوَلَدِ؟ قالوا: بَلَى. قال: فهَل تَتَّهِمونِى؟ قالوا: لا. قال: ألَستُم تَعلَمونَ أنِّى استَنفَرتُ أهلَ عُكاظٍ فلَمّا جَمَحوا علىَّ جِئتُكُم بأَهلِى ووَلَدِى ومَن أطاعَنِى؟ قالوا: بَلَى. قال: فإِنَّ هذا قَد عَرَضَ عَلَيكُم خُطَّةَ رُشدٍ فاقبَلوها، ودَعونِى آتِه. فقالوا: ائتِه. فأَتاه فجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم. فقالَ له نَحوًا مِن قَولِه لِبُدَيلٍ. فقالَ عُروَةُ عِندَ ذَلِكَ: أى محمدُ، أرأيتَ إنِ استأصَلتَ قَومَكَ؟ هَل سَمِعتَ بأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجتاحَ أصلَه قَبلَكَ؟ وإِن تَكُنِ الأُخرَى فواللهِ إنِّى لأرَى وُجوهًا وأَرَى أوشابًا
(1)
مِنَ النّاسِ خُلَقاءَ أن يَفِرّوا ويَدَعوكَ. فقالَ له أبو بكرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ
(2)
، أنَحنُ نَفِرُّ عنه ونَدَعُه؟! فقالَ: مَن ذا؟ فقالَ: أبو بكرٍ. قال: أما والَّذِى نَفسِى بيَدِه لَولا يَدٌ كانَت لَكَ عِندِى لَم أجزِكَ بها لأجَبتُكَ. وجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فكُلما
(3)
كَلَّمَه أخَذَ
= العنق. وقيل: السالف حبل العنق، وهو العرق الذى بينه وبين الكتف. مشارق الأنوار 2/ 219.
(1)
فى س، م:"أوباشا".
(2)
البظر: ما يخفض من النساء فى ختانهن. وقوله: امصص بظر اللات: كلمة سب تستعملها العرب لمن تقابحه وتسبه، وأكثر ما يضيفون ذلك للأم. مشارق الأنوار 1/ 88.
(3)
فى س، م:"فلما".
بلِحيَتِه، والمُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ قائمٌ على رأسِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ومَعَه السَّيفُ وعَلَيه المِغفَرُ، فكُلَّما أهوَى عُروَةُ بيَدِه إلَى لحيَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَه بنَعلِ السَّيفِ
(1)
، وقالَ: أخِّرْ يَدَكَ عن لِحيَةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فرَفَعَ عُروَةُ يَدَه، فقالَ: مَن هَذا؟ قالوا: المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ. قال: أى غُدَرُ، أوَلَستُ أسعَى فى غَدرَتِكَ؟ وكانَ المُغيرَةُ صَحِبَ قَومًا فى الجاهِليَّةِ، فقَتَلَهُم وأَخَذَ أموالَهُم، ثُمَّ جاءَ وأَسلَمَ، فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:"أمّا الإِسلَامَ فأَقبَلُ، وأَمّا المالَ فلَستُ مِنه فى شَئٍ". ثُمَّ إنَّ عُروةَ جَعَلَ يَرمُقُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بعَينِه، قال: فواللهِ ما تَنَخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخامَةً إلَّا وقَعَت فى كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم فدَلَكَ بها وَجْهَه وجِلْدَه، وإِذا أمَرَهُمُ ابتَدَروا أمرَه، وإِذا تَوَضّأ كادوا يَقتَتِلونَ على وَضُوئهِ، وإِذا تَكَلَّموا خَفَضوا أصواتَهُم، وما يُحِدُّونَ النَّظَرَ إلَيه تَعظيمًا له، فرَجَعَ إلَى أصحابِه فقالَ: أى قَومِ، واللهِ لَقَد وفَدتُ على المُلوكِ، ووَفَدتُ على قَيصَرَ وكِسرَى والنَّجاشِىِّ، واللهِ إن رأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمدًا، واللهِ إن تَنَخَّمَ نُخامَةً إلَّا وقَعَت فى كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم فدَلَكَ بها جِلدَه ووجهَه، وإِذا أمَرَهُمُ ابتَدَروا أمرَه، وإِذا تَوَضَّأ كادوا يَقتَتِلونَ على وَضوئِه، وإِذا تَكَلَّموا خَفَضوا أصواتَهُم عِندَه، وما يُحِدُّونَ إلَيه النَّظَرَ تَعظيمًا له، وإِنَّه قَد عَرَضَ عَلَيكُم خُطَّةَ رُشدٍ فاقبَلوها. فقالَ رَجُلٌ مِن بَنِى كِنانَةَ: دَعونِى آتِه. قالوا: ائتِه. فلَمّا أشرَفَ على النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابِه قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "هذا فُلانٌ، وهو مِن قَومٍ يُعَظِّمونَ البُدنَ؛ فابعَثوها له". فبُعِثَت له، واستَقبَلَه القَومُ يُلَبّونَ، فلَمّا
(1)
نعل السيف: الحديدة التى فى أسفل قرابه. الفائق 4/ 3.
رأى ذَلِكَ قال: سُبحانَ اللهِ! ما يَنبَغِى لِهَؤُلاءِ أن يُصَدّوا عن البَيتِ. فلَمّا رَجَعَ إلَى أصحابِه قال: رأيتُ البُدنَ قَد قُلِّدَت وأُشعِرَت فلَم أرَ أن يُصَدُّوا عن البَيتِ. فقامَ رَجُلٌ مِنهُم يُقالُ له: مِكرَزُ بنُ حَفصٍ. فقالَ: دَعونِى آتِه. فقالوا: ائتِه. فلَمّا أشرَفَ عَلَيهِم قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "هذا مِكرَزٌ، وهو رَجُلٌ فاجِرٌ". فجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فبَينا هو يُكَلِّمُه صلى الله عليه وسلم إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو - قال مَعمَرٌ: فأَخبَرَنِى أيّوبُ، عن عِكرِمَةَ، أنَّه لما جاءَ سُهَيلٌ، قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:"قَد سَهُلَ لَكُم مِن أمرِكُم". قال الزُّهرِىُّ فى حَديثِه: فجاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقالَ: هاتِ اكتُبْ بَينَنا وبَينَكُم كِتابًا. فدَعا الكاتِبَ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اكتُبْ: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ". فقالَ سُهَيلٌ: أمّا الرَّحمَنُ فواللهِ ما أدرِى ما هو، ولَكِنِ اكتُبْ: باسمِكَ اللَّهُمَّ. كما كُنتَ تَكتُبُ، فقالَ المُسلِمونَ: لا نَكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "اكتُبْ باسمِكَ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قال: "هذا ما قاضَى عَلَيه محمدٌ رسولُ اللهِ". قالَ سُهَيلٌ: واللهِ لَو كُنّا نَعلَمُ أنَّكَ رسولُه
(1)
ما صَدَدناكَ عن البَيتِ ولا قاتَلناكَ، ولَكِنِ اكتُب: محمدُ بنُ عبدِ اللهِ. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "واللهِ إنِّى لَرسولُ اللهِ وإِن كَذَّبتُمونِى، اكتُبْ: محمدُ بنُ عبدِ اللهِ". قال الزُّهرِىُّ وذَلِكَ لِقَولِه: "لا يَسأَلونِى خُطَّةً يُعَظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أعطَيتُهُم إيّاها". فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "على أن تُخَلّوا بَينَنا وبَينَ البَيتِ فنَطوفَ به". فقالَ سُهَيلٌ: واللهِ لا تتَحَدَّثُ العَرَبُ أنّا أُخِذنا ضَغطَةً
(2)
، ولَكِن لَكَ مِنَ العامِ
(1)
فى س، م:"رسول الله".
(2)
قال القاضى: بفتح الضاد، وضَمَّها الأصيلى، أى: قهرة واضطرارًا. مشارق الأنوار 2/ 61.
المُقبِلِ، فكَتَبَ. فقالَ سُهَيلٌ: على ألَّا يأتيكَ مِنّا رَجُلٌ وإِن كان على دينِكَ إلَّا رَدَدتَه إلَينا. فقالَ المُسلِمونَ: سُبحانَ اللهِ! كَيفَ يُرَدُّ إلَى المُشرِكينَ وقَد جاءَ مُسلِمًا؟! فبَينا هُم كَذَلِكَ إذ جاءَ أبو جَنْدَلِ ابنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يَرسُفُ
(1)
. وقالَ يَحيَى عن ابنِ المُبارَكِ: يَرصُفُ فى قُيودِه. وقَد خَرَجَ مِن أسفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بنَفسِه بَينَ أظهُرِ المُسلِمينَ، فقالَ سُهَيلٌ: هذا يا محمدُ أوَّلُ ما أُقاضيكَ عَلَيه أن تَرُدَّه إلَىَّ. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "إنّا لَم نَقضِ فالكِتابَ بَعدُ". قال: فواللهِ إذن لا نُصالِحُكَ على شَئٍ أبَدًا. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "فأَجِزْه
(2)
لِى". قال: ما أنا بمُجيزِه
(3)
. قال: "بَلَى فافعَلْ". قالَ: ما أنَا بفاعِلٍ. قال مِكرَزٌ: بَلَى قَد أجَزْناه
(4)
لَكَ. فقالَ أبو جَندَلٍ: أى مَعاشِرَ المُسلِمينَ أُرَدُّ إلَى المُشرِكينَ وقَد جِئتُ مُسلِمًا! ألا تَرَونَ ما قَد أُتيتُ؟ وكانَ قَد عُذِّبَ عَذابًا شَديدًا فى اللهِ عز وجل. فقالَ عُمَرُ: فأَتَيتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فقُلتُ: ألَستَ نَبِىَّ اللهِ؟ قال: "بَلَى". قُلتُ: ألَسنا على الحَقِّ وعَدوُّنا على الباطِلِ؟ قال: "بَلَى". قُلتُ: فلِمَ نُعطِى الدَّنيَّةَ فى دينِنا إذن؟ قال: "إنِّى رسولُ اللهِ، ولَستُ أعصِيه، وهو ناصِرِى". قُلتُ: أوَلَيسَ كُنتَ تُحَدِّثُنا أنّا سَنأتِى البَيت فنَطوفُ به؟ قال: "بَلَى، فأَخبَرتُكَ أنَّكَ تأتيه العامَ؟ ". قُلتُ: لا. قال: "فإِنَّكَ آتيه ومُتطوِّفٌ به". قال: فأَتَيتُ أبا بكرٍ، فقُلتُ:
(1)
يرسف: بضم السين ويقال بكسرها، يمشى مشية المقيد. مشارق الأنوار 1/ 300.
(2)
فى الأصل: "فأجره" بالراء المهملة، وقال القسطلانى: بهمزة مفتوحة فجيم مكسورة فزاى ساكنة، أى: أَمْضِ. إرشاد السارى 4/ 449.
(3)
فى الأصل: "بمجيره".
(4)
فى الأصل: "أجرناه".
يا أبا بكرٍ، ألَيسَ هذا نَبِىَّ اللهِ حَقًّا؟ قال: بَلَى. قُلتُ: ألَسنا على الحَقِّ وعَدوُّنا على الباطِلِ؟ قال: بَلَى. قُلتُ: فلِمَ نُعطى الدَّنيَّةَ فى دينِنا إذن؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه رسولُ اللهِ، ولَن يَعصِىَ رَبَّه وهو ناصِرُه، فاستَمسِكْ بغَرزِه
(1)
حَتَّى تَموتَ، فواللهِ إنَّه لَعَلَى الحَقِّ. قُلتُ: أوَلَيسَ كان يُحَدِّثُنا أنَّه سَيأتِى البَيتَ ويَطوفُ بهِ؟ قال: بَلَى، أفأخبَرَكَ أنَّكَ تأتيه العامَ؟ قُلتُ: لا. قال: فإِنَّكَ آتيه فتَطوفُ به. قال الزُّهرِىُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلتُ لِذَلِكَ أعمالًا. قال: فلَمّا فرَغَ مِن قَضيَّةِ الكِتابِ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: "قوموا فانحَروا ثُمَّ احلِقوا". قال: فواللهِ ما قامَ مِنهُم رَجُلٌ حَتَّى قال ذَلِكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فلَمّا لَم يَقُمْ مِنهُم أحَدٌ قامَ فدَخَلَ على أُمِّ سلمةَ، فذَكَرَ لَها ما لَقِىَ مِنَ النّاسِ. فقالَت أُمُّ سلمةَ: يا رسول اللهِ أتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَدًا مِنهُم كَلِمَةً حَتَّى تَنحَرَ بُدنَكَ وتَدعوَ حالِقَكَ فيَحلِقَكَ. فقامَ فخَرَجَ فلَم يُكَلِّمْ أحَدًا مِنهُم حَتَّى فعَلَ ذَلِكَ ونَحَرَ هَديَه ودَعا حالِقَه يَعنى فحَلَقَه، فلَمّا رأوا ذَلِكَ قاموا فنَحَروا وجَعَلَ بَعضُهُم يَحلِقُ بَعضًا حَتَّى كادَ بَعضُهُم يَقتُلُ بَعضًا غَمًّا، ثُمَّ جاءَه نِسوَةٌ مُؤمِناتٌ فأَنزَلَ اللهُ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حَتّى بَلَغَ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. قال: فطَلَّقَ عُمَرُ يَومَئذٍ امرأتَينِ كانَتا له فى الشِّركِ، فتَزَوّجَ إحداهُما مُعاويَةُ بنُ أبى سُفيانَ، والأُخرَى صَفوانُ بنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى المَدينَةِ، فجاءَه أبو بَصيرٍ رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ
(2)
(1)
الغرز: هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس، أى: فتمسك بأمره، ولا تخالفه كما يتمسك المرء بركاب
الفارس فلا يفارقه. إرشاد السارى 4/ 450.
(2)
قال القسطلانى: ومعنى كونه من قريش أنه منهم بالحلف، وإلا فهو ثقفى. إرشاد السارى 4/ 451.
وهو مسلمٌ - وقالَ يَحيَى عن ابنِ المُبارَكِ: فقَدِمَ عَلَيه أبو بَصيرِ بنُ أَسيدٍ الثَّقَفِىُّ مُسلِمًا مُهاجِرًا، فاستأجَرَ الأخنَسُ بنُ شَريقٍ رَجُلًا كافِرًا مِن بَنِى عامِرِ ابنِ لُؤَىٍّ ومَولًى مَعَه، وكَتَبَ مَعَهُما إلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسأَلُه الوَفاءَ. قال: فأَرسَلوا فى طَلَبِه رَجُلَينِ، فقالوا: العَهدَ الَّذِى جَعَلتَ لَنا فيه. فدَفَعَه إلَى الرَّجُلَينِ، فخَرَجا به حَتَّى بَلَغا به ذا الحُلَيفَةِ فنَزَلوا يأكُلون مِن تَمرٍ لَهُم، فقالَ أبو بَصيرٍ لأحَدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ إنِّى لأرَى سَيفَكَ يا فُلانُ هذا جَيِّدًا. فاستَلَّه الآخَرُ فقالَ: أجَلْ واللهِ إنَّه لَجَيِّدٌ، لَقَد جَرَّبتُ به، ثُمَّ جَرَّبتُ. قال أبو بَصيرٍ: أرِنِى أنظُرْ إلَيه. فأَمكَنَه مِنه فضَرَبَه به حَتَّى بَرَدَ
(1)
وفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أتَى المَدينَةَ، فدَخَلَ المَسجِدَ يَعدو، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَقَد رأى هذا ذُعرًا". فلَمّا انتَهَى إلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قال: قُتِلَ واللهِ صاحِبِى، وإِنِّى لَمَقتولٌ. فجاءَ أبو بَصيرٍ فقالَ: يا نَبِىَّ اللهِ، قَد واللهِ أوفَى اللهُ ذِمَّتَكَ، قَد رَدَدتَنِى إلَيهِم ثُمَّ أنجانِى اللهُ مِنهُم. فقالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "ويلُ أُمِّه مِسعَرَ حَربٍ
(2)
لَو كان لى أحَدٌ". فلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أنَّه سَيَرُدُّه إلَيهِم، فخَرَجَ حَتَّى أتَى سِيفَ البحرِ
(3)
. قال: ويَنفَلِتُ
(4)
أبو جَندَلِ ابنُ سُهَيلٍ فلَحِقَ بأَبِى بَصيرٍ، فجَعَلَ لا يَخرُجُ مِن قُرَيشٍ رَجُلٌ قَد أسلَمَ إلَّا لَحِقَ بأَبِى بَصيرٍ حَتَّى اجتَمَعَت مِنهُم عِصابَةٌ. قال: فواللهِ ما
(1)
برد: مات. إرشاد السارى 4/ 451.
(2)
مسعر حرب: كلمة تعجب يصفه بالمبالغة فى الحروب وجودة معالجتها وسرعة النهوض فيها، يقال: فلان مسعر حرب. إذا كان أول من يوقد نارها ويَصْلَى حرها، من قولك: سعرت النار. إذا أوقدتها، ومنه السعير، وهو النار الموقدة. معالم السنن 2/ 333.
(3)
سيف البحر؛ بكسر السين: ساحله. مشارق الأنوار 2/ 233.
(4)
فى س: "تفلت".
يَسمَعونَ بعيرٍ خَرَجَت لِقُرَيشٍ إلَى الشّامِ إلَّا اعتَرَضوا لَها فقَتَلوهُم وأَخَذوا أموالَهُم، فأَرسَلَت قُرَيشٌ إلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه اللهَ والرَّحِمَ لَمَا أرسَلَ إلَيهِم؛ فمَن أتاه فهو آمِنٌ. فأَرسَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إلَيهِم، فأَنزَلَ اللهُ عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} . حَتَّى بَلَغَ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24 - 26]، وكانَت حَميَّتُهُم أنَهُم لَم يُقِرّوا أنَّه نَبِىُّ اللهِ، ولَم يُقِرّوا ببِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، وحالوا بَينَهُم وبَينَ البَيتِ
(1)
. رَواه البخارىُّ فى "الصحيح" عن عبدِ اللهِ بنِ محمدٍ عن عبدِ الرَّزاقِ
(2)
.
18841 -
أخبرَنا أبو الحُسَينِ ابنُ الفَضلِ القَطّانُ، أخبرَنا أبو بكرٍ محمدُ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ عَتّابٍ، حدثنا القاسِمُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ المُغيرَةِ، حدثنا ابنُ أبى أوَيسٍ، أخبرَنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ عُقبَةَ، عن عَمِّه موسَى بنِ عُقبَةَ. فذَكَرَ مَعنَى هذه القَصَّةِ، زادَ: ثُمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعا عُمَرَ بنَ الخطابِ ليُرسِلَه إلَى قُرَيشٍ، وهو ببَلدَحَ
(3)
، فقالَ له عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، لا تُرسِلنِى إلَيهِم فإِنَّى أتَخَوَّفُهُم على نَفسِى، ولَكِنْ أرسِل عثمانَ بنَ عَفّانَ. فأُرسِلَ إلَيهِم فلَقِىَ أبانَ بنَ سعيدِ بنِ العاصِ، فأَجارَه وحَمَلَه بَينَ يَدَيه على الفَرَسِ حَتَّى جاءَ قُرَيشًا، فكَلَّمَهُم بالَّذِى أمَرَه به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَرسَلوا مَعَه سُهَيلَ بنَ عمرٍو ليُصالحَه عَلَيهِم، وبِمَكَّةَ يَومَئذٍ مِنَ المُسلِمينَ ناسٌ كَثيرٌ مِن أهلِها، فدَعَوا
(1)
تقدم تخريجه فى (10168، 14084، 18307، وقبل 18472)، وسيأتى فى (20326).
(2)
البخارى (2732).
(3)
بلدح: واد قبل مكة من جهة الغرب. معجم البلدان 1/ 714.