الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكان الدخول .. صاحبه وشاعره حسان رضي الله عنه وذلك قبل سنين من هذا اليوم.
الشعر يحدد مكان دخول النبي لفتح مكة
تقول عائشة رضي الله عنها "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها"(1)"من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء"(2)
وركز رايته بجبل من جبال مكة يقال له (الحجون) وأمر الزبير رضي الله عنه بركزها هناك .. كما أمر قوات خالد بن الوليد بالدخول من كداء أيضًا لكن خالدًا لقي مقاومة هناك وقد خسرت قواته اثنين من الرجال رضي الله عنهما .. ها هو "العباس يقول للزبير بن العوام يا أبا عبد الله ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية .. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء .. ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كداء فقتل من خيل خالد بن الوليد رضي الله عنه يومئذ رجلان حبيش ابن الأشعر وكرز بن جابر الفهري"(3)
أما عن قصة ذلك التحديد فترويه لنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنها فتقول:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشًا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل .. فأرسل إلى بن رواحة فقال اهجهم فهجاهم .. فلم يرض .. فأرسل إلى كعب بن مالك .. ثم أرسل إلى حسان بن ثابت .. فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه .. ثم اندلع لسانه فجعل
(1) صحيح البخاري 2 - 572 واللفظ الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
صحيح البخاري 2 - 572 واللفظ الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
صحيح البخاري 4 - 1559 والصواب من أسفل مكة بالنسبة لخالد.
يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم نسبًا حتى يخلص لك نسبي .. فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله .. قد خلص لي نسبك .. والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين .. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله .. وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى قال حسان: (1)
هجوت محمدًا فأجبت عنه
…
وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمَّد برًا تقيًا
…
رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضى
…
لعرض محمَّد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها
…
تثير النقع من كنفي كداء
يبارين الأعنة مصعدات
…
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
…
تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتموا عنا اعتمرنا
…
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم
…
يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدًا
…
يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندًا
…
هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد
…
سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم
…
ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا
…
وروح القدس ليس له [كِفَاءُ](1)(*)
بهذا المستوى من الشعر يفتح الشاعر الإِسلامي المستقبل على
(1) صحيح مسلم 4 - 1935.
(*) قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، كما أن الإشارة إلى الحاشية سقطت كذلك من الطباعة.
مصراعيه .. يرسم أشكالًا أرقى للحياة ويعمق الشعور باللا مستحيل في حياة طاقتها يقين كالوحي .. عندما قال حسان هذه الأبيات لبى شيئًا من طموح النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يرتق إليه شعر ابن رواحة ولا شعر كعب رضي الله عنهما .. ومازال هذا الطموح حيًا يطلق الشعر إلى تلك المستويات الغائبة المأمولة .. ولئن كان للقرآن مسافات هائلة ومذهلة ومعجزة إلا أنه لم يزح الشعر عن عرشه .. ترك له عرشه لكنه قدم له تحديًا قاسيًا أن يردم تلك المسافات الشاسعة بينهما .. إذًا فالشعر في الإِسلام إما أن يكون قطعًا لمسافات جديدة أو لا يكون .. القرآن اليوم يفتح مكة لينطلق منها إلى غيرها فماذا سيقدم الشعر وماذا سيفتح .. لا أدري لكنني اليوم أرى النبي صلى الله عليه وسلم يفسح للشعر طرقاته .. ها هو يقول في طريقه لفتح مكة كلمات تحتفي بالشعر سمعها ابن عمر ورواها فقال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى نساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر فتبسم فقال يا أبا بكر كيف قال حسان بن ثابت؟ فأنشد أبو بكر:
عدمت بنيتي إن لم تروها
…
تثير النقع من كنفي كداء
ينازعن الأعنة مسرجات
…
يلطمهن بالخمر النساء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخلوا من حيث. قال حسان" (1) الذي لم يكتف بجعل الشعر تعبيرًا عن تجربة شعورية بصورة موحية .. بل تجاوزها إلى جعله كشفًا وإضاءة للقادم وتشكيلًا له .. لا على طريقة المأخوذين
(1) سنده قوى رواه الحاكم 3 - 76 والطحاويُّ في شرح معاني الآثار 4 - 296 من طريق إبراهيم بن المنذر بن الحزامي قال ثنا معن بن عيسى قال حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما نافع وعبيد الله ثقتان معروفان ومعن الأشجعي ثقة ثبت: التقريب 2 - 267 وتلميذه صدوق من رجال البخاري: التقريب 1 - 45 واللفظ للطحاوى وآخره للحاكم من قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بالسياحة في الحلم بل بأسلوب المأخوذين بإنجاز الحلم .. كيف لا وهو يسير خلف هذا النبي العظيم الذي ينحدر كالسيل نحو مكة العطشانة .. ولما وصلها لم يجد في طرقاتها سوى الهواء النقي والذكريات الجميلة والمريرة .. هنا ولد وهنا كان يتهادى طفلًا وهنا كان يلعب مع أبي بكر وأصحابه .. وهنا كانت أمه الحبيبة تناديه وتحمله وتلاعبه .. هنا كان يسير مع جده وعمومته وأبناء عمومته .. هنا التقي بخديجة وهنا تزوجا وهنا ولدت زينب وفاطمة وأم كلثوم ورقية .. من هنا جاء يخبر خديجة عن جبريل .. وهنا دعا الناس وهنا كذبه الناس وهنا صدقوه وهنا ناصروه وهنا خذلوه وعذبوه .. هنا مكة ما أطيبها وأطيب ريحها .. ذكريات تطوف لا شك بروح أبي بكر وبلال وعمر وعمار وعلي وعثمان وخباب وصهيب وبقية المهاجرين من مكة .. لا بد أن بعض الدموع والزفرات خالطت فرح السير في طرقات مكة الجميلة ..
مواكب الإيمان الجارفة ونشوة النصر العظيم لا تسكر الفرسان المؤمنين عن شكر الله وذكره .. يقول أحد الصحابة الذين كانوا يرقبون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وينصتون إليه:
"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجع"(1) أي يردد القراءة في الحلق.
كان لسانه ممتنًا لله الذي أكرمه بنصره .. ولم يكن لسانه هو الممتن فقط كان قلبه بل كانت طريقته وهو يتقدم ذلك الجيش الضخم الممتزج بعظماء الرجال تنضح بالتواضع في أرقى صوره وأعظمها .. لم يكن صلى الله عليه وسلم وحده على ناقته .. لم يكن مردفًا أبا بكر سيد المهاجرين ولا سعد بن عبادة سيد الأنصار
(1) صحيح البخاري 4 - 1560.
ولا حتى سيدًا من سادات العرب .. كان صلى الله عليه وسلم يردف شابًا أسودًا صغير السن اسمه أسامة ابن أمير مؤتة الشهيد: زيد بن حارثة .. وبجانبه صاحبه الحبشي بلال بن رباح وهو في طريقه نحو تحطيم الأصنام وتطهير الكعبة .. لكنه كان أثناء الطريق يحطم أصنام الجاهلية داخل النفوس .. يحطم الفخر بالآباء والأجداد ليشيد التنافس على الإنجاز والإبداع .. كان صلى الله عليه وسلم وفي لحظات النصر يؤكد تمسكه بمبدأ المساواة التي طالما اختبأ خلفه دعاة مذهب فإذا ما انتصروا تنكروا له .. مشهد جميل ورائع للنفوس المؤمنة والمتحضرة لكنه لا شك يؤذي نفوسًا غارقة في دبق الجاهلية والتخلف ..
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد ومعه بلال"(1) في هذه الأثناء يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر .. فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه"(2) فقتل .. فالرجل لم يعلن توبته عما بدر منه ولم يطلب الرحمة ولم يقبل دين الإِسلام .. كان عنادًا كأبي جهل وقد استجار بقماش مطروح على الكعبة فلم يمنعه ذلك القماش من السيوف .. ثم قال صلى الله عليه وسلم يطمئن مكة باستمرار التوحيد فيها ويطمئن قريشًا التي بدأت ترتعد من مصير ابن خطل بحديث جميل سمعه أحد المعنيين واسمه العاص بن الأسود .. يقول العاصي: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: لا يقتل قرشي صبرًا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة"(3)"لا تغزى مكة بعد هذا اليوم"(4)
(1) صحيح البخاري 4 - 1562.
(2)
حديث صحيح رواه البخاري 2 - 655 ومسلمٌ 2 - 989.
(3)
صحيح مسلم 3 - 1409 وكلمة أبي عند الحاكم.
(4)
سنده صحيح رواه الحميدي 1 - 260 ثنا سفيان قال ثنا زكريا ابن أبي زائدة عن الشعبي =