الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد أن انتهى من خطبته "ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي قتلته خزاعة"(1) أي دفع دية الرجل المقتول من بني بكر .. ثم حدد صلى الله عليه وسلم عقوبة جنائية هي القتل خطأ "فقال: لا إله إلا الله وحده نصر عبده وهزم الأحزاب وحده .. الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده .. ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تعد وتدعى .. وكل دم أو دعوى موضوعة تحت قدمي (2) هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها"(3)
توالت التوبة تلو التوبة والبيعة تلو البيعة. وأعطى الطلقاء فرصة كبيرة للتفكير والتروي ومراجعة النفس والتعود على حياة صافية دون أصنام أو أوثان أو خرافات .. لذلك:
قرر النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في مكة
لمدة تكفي لإذابة ما بقى في نفوس الطلقاء من بقايا الجاهلية .. يقول أحد الصحابة "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يصلى ركعتين"(4) الظهر ركعتين والعصر والعشاء كذلك أما المغرب والفجر فليس فيهما
(1) هو حديث ابن إسحاق وأحمدُ السابق وهو صحيح.
(2)
أي باطلة لما قيمة لها.
(3)
بين كملة: بالعمد والسوط قال الراوي: "قال هشيم مرة". سنده قوي رواه الإمام أحمد 3 - 410 من طريق خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس عن رجل من أصحابي النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة: وعقبة تابعي صدوق التقريب 2 - 26 وتلميذه تابعي أيضًا وثقة: التقريب 2 - 116 وخالد بن مهران الحذاء تابعي صغير ثقة: التقريب وللحديث شواهد تقوية.
(4)
رواه البخاري 4 - 1564.
قصر .. وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقصر الصلاة إذا خرج من المدينة مسافة تقارب الأربع وعشرين كيلو مترًا .. يقول أنس بن مالك "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين"(1) والقصر هو أن يؤدي الصلاة ذات الأربع ركعات ركعتين بدلًا من أربع طوال أيام السفر .. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مدة بقائه في مكة .. حيث كانت تلك الأيام عبارة عن إعطاء الطلقاء فرصة لتغيير الزاوية التي كانوا ينظرون من خلالها إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. زاوية الحسب والنسب والقبيلة والعادات والتقاليد والتنافس والثأر لينتقلوا إلى زاوية أخرى حيث الصفاء والعقل والاتزان والتجرد من أثقال الموروثات البالية .. تسعة عشر يومًا يفز فيها أكثر من عشرة آلاف مؤمن للصلاة يحيطون بالكعبة ويملأون البيت الحرام خمس مرات في اليوم والليلة .. في سكون وحركات خاشعة رائعة موحدة راكعة ساجدة خلف رجل واحد هو محمَّد صلى الله عليه وسلم .. مشهد مهيب وجليل اختفت فيه الأصنام والأزلام وبقي فيه التوحيد نقيًا دون شوائب .. مشهد مهيب أخذ عقول الطلقاء إلى المقارنة بين صلاة هؤلاء المؤمنين الخاشعين الراكعين الساجدين وبين صلاتهم المليئة بالجهل والتخلف والهمجية {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} أي ما كانت صلاتهم إلا تصفيرًا وتصفيقًا كما كانت تعريًا أيضًا .. وقد تمكن صلى الله عليه وسلم من استمالة كل مكة إلى الإِسلام في تلك الفترة القصيرة حتى هذه المرأة زوجة أبي سفيان التي كانت تحمل ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثارات وأحقادًا سوداء تتجه إليه مختارة طائعة
(1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 481. وبعد كلمة فراسخ قال الراوي: "شعبة الشاك" أي الذي تردد في الجزم بأنها ميل أو فرسخ هو أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الححاج وليس أنس فيؤخذ بالأكثر لأنه الذي لا شك في والفرسخ مسافة تقارب ثمانية كيلو مترا.
لتبايعه بعد أن أذهلتها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وسماحته وعدالته عن كل ما مضى .. تقول عائشة رضي الله عنها: "جاءت هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله .. ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك .. ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك .. قال: وأيضًا والذي نفسي بيده .. قالت: يا رسول الله .. إن أبا سفيان رجل مسيك .. فهل عليَّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: لا أراه إلا بالمعروف"(1) أي خذي من ماله قدر ما تعارف عليه الناس من مصروف.
إن إسلام هذا الكم من البشر في هذه الفترة القصيرة يوحي بحقيقة ثقافة المنتصر المقنعة وأنها لا تحتاج إلى الكثير من العناء للقبول .. لأن كل أدوات العناد الهزيلة لا تستطيع التماسك أمامها .. أما إذا كان من يحملها دون سلطان أو دولة فالثقافة المقنعة تحتاج إلى رجال كمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين والأنصار يحملونها بسلوكهم وتعاملهم ورحمتهم لا بالتزامهم في جانب العبادات فقط .. فالعبادة بين الإنسان وبين ربه وقد تنقع فئة قليلة من أصحاب العقول وممتازي البشر .. أما دهماء الناس فتنتظر وتنظر دائمًا إلى من يقدم لها شيئًا يروي غليلها ويحقق أحلامها بسلوكه وإنجازه .. عندها يجد التوحيد دروبًا فسيحة نحو النفوس .. وهذا ما يفعله محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام اليوم على أرض مكة وتحت سمائها ..
ها هو أحد الرجال القادمين لرصد الأحداث يعود إلى قومه محملًا بالإيمان فيروي ابنه الصغير بغبطة قصة عودة والده وقصة المجد الذي توجه به قومه رغم صغر سنه فيقول:
(1) صحيح البخاري 3 - 1390. ومعني مسيك: أي بخيل
"كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس ما هذا الرجل .. فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه أو أوحى الله بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق .. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًا فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلوا كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا .. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأن ابن ست أو سبع سنين .. وكانت على بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني .. فقال امرأة من الحي: ألا تغطون عنا أست (1) قارئكم. فاشتروا فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص"(2)
فرح الطفل الإمام بثوبه الجديد كعادة الأطفال ولم يأنف قومه من إمامة طفل لهم في الصلاة لأن الإِسلام يريد ذلك ويستحبه .. أما على أرض مكة فما زال المبايعون والطلقاء يتوافدون على النبي صلى الله عليه وسلم .. أما المهاجرون والأنصار فلم يكن همهم الاحتفال بانتصارهم على أرض مكة ولا استعراض سبقهم على طرقاتها .. كانت أنفاسهم أطواق نجاة لمن حولهم وكانت كلماتهم بساتين كرم للمتعبين .. ينطلقون في اتجاه كل عقل حائر وكل قلب متعب بالشرك والضياع .. فكما نجح أبو بكر مع والده أسرع البقية إلى من بقي من أرحامهم .. بل إن من دخل منهم الإِسلام يقوم بعرض قناعته على غيره وها هو أحدهم ويدعى مجاشع بن مسعود يبايع النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: "أتيت
(1) صحيح البخاري 4 - 1564.
(2)
أي عورته.