الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسكينة وخشوع مخضبة بالدموع والبكاء .. فتحول المسجد وبيت عائشة إلى ساحة من النحيب والأنِين والرضا بقضاء الله والحمد للذي لا يحمد على مكروه سواه .. ولا أدري ما هي حال المكان بعد دخول أمهات المؤمنين وبقية النساء .. لا أدري ما هي حال الفقراء والمساكين وأهل الصفة وهم يصلون على كافلهم والحاني عليهم .. وكيف هي حال المدينة كلها في ذلك اليوم الثقيل المؤلم ..
انتهى الرجال والنساء والأطفال من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الدنيا مساء وإذا الشمس قد غربت فلم يجدوا بدًا من:
دفنه ليلًا
في غرفه عائشة وذلك لأنه المكان الذي توفي فيه وقد سألوا أبا بكر عن ذلك فقالوا: "يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم هل يدفن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قالوا: وأين يدفن؟ قال: في المكان الذي قبض الله فيها روحه فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة"(1) وتقول عائشة رضي الله عنها: "لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أين يدفن فقال أبو بكر: في المكان الذي مات فيه"(2) لكن الصحابة قد تحيروا من ذهولهم في كيفية شكل قبره هل يضرحون له أم يلحدونه .. تقول عائشة الحزينة عائشة التي فقدت دلال حبيبها وعنايته: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير
(1) جزء من حديث سالم بن عبيد الصحيح.
(2)
سنده صحيح رواه ابن سعد 2 - 292 أخبرنا أبو الوليد الطيالسي أخبرنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك ثقه ثبت من رجال الشيخين: التقريب وبقية السند صحيح على شرط مسلم 4 - 1836.
ربنا فبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فألحدوا له" (1)
والضريح شق في الأرض أما اللحد فشق كذلك ولكن في أسفله وبالتحديد في جهة القبلة منه ميل في زاوية القبر يوضع فيها الميت على جنبه الأيمن تجاه القبلة .. ولما وصل الرجل الذي يلحد حفر لحدًا للنبي صلى الله عليه وسلم وعاونه بعض الصحابة .. كانت المساحي تحفر قلب عائشة ومن معها .. وتدمي قلوب المؤمنين الساهرين حول بيت نبيهم صلى الله عليه وسلم .. تقول عائشة رضي الله عنها: "ما شعرنا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل"(2) .. وكان عدد الذين دخلوا القبر أربعة رجال أو أكثر .. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه دخل قبر النبي صلى الله عليه وسلم علي والفضل وأسامة"(3) وقال أحد الصحابة "إنهم أدخلوا عبد الرحمن بن عوف فكأني أنظر إليهم في القبر أربعة"(4) .. وبعد أن أتموا حفر قبره الشريف ودخلوه
(1) سنده قوي رواه أحمد 3 - 139 وابن ماجه 1 - 496 من طريق المبارك بن فضالة حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك والمبارك صدوق لكنه مدلس لكنه صرح بالسماع من شيخه التابعي الثقة حميد الطويل وله شاهد قوي صحيح السند رواه ابن سعد بالسند السابق.
(2)
سنده قوي رواه عبد الرزاق 3 - 520 عن ابن جريج وغيره عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة عن عائشة .. عمرة تابعية ثقة أكثرت الرواية عن عائشة وأبو بكر بن محمَّد عمرو بن حزم وابنه ثقتان وابن جريج ثقة وقد توبع لأنه مدلس كما رواه ابن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر وفاطمة بنت محمَّد عن عمرة عائشة.
(3)
سنده صحيح رواه أبو يعلى 4 - 253 وعبد الرزاق 3 - 495 والبيهقيُّ 4 - 53 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبى قال أخبرني ابن عباس وقال الشعبى حدثني أبو مرحب وهذا السند صحيح إسماعيل ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 68 والشعبي تابعى ثقة من أئمة التابعين.
(4)
سنده صحيح رواه أبو يعلى 4 - 253 وعبد الرزاق 3 - 495 والبيهقيُّ 4 - 53 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرني ابن عباس وقال الشعبي حدثني أبو مرحب =
فرشوا على أرض القبر كساء أحمر يسمى قطيفة يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "جعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء"(1).
وبعد أن فرشت تلك القطيفة قال علي رضي الله عنه: "إنما يلي الرجل أهله"(2) ويبدو أن عبد الرحمن خرج مكسورًا من القبر فنزل بدلًا منه قثم بن العباس رضي الله عنهم جميعًا .. وحانت ساعة الوداع المريرة .. حان وضع الحبيب في قبره فلن تراه العيون بعد اليوم إلا يوم القيامة .. حانت ساعة النحيب المر في ليلة كان السهر والحزن هو الجليس لأهل المدينة .. حيث حمل النبي صلى الله عليه وسلم من فوق السرير فاستلمه علي ومن معه في القبر فأدخلوه في اللحد على جنبه الأيمن باتجاه القبلة ثم جعلوا اللِّبْنَ منصوبًا على اللحد .. وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يشهد المنظر ويقول لمن حوله: "ألحدوا لي لحدًا وانصبوا علي اللبن نصبًا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم"(3)
وبعد أن فعل علي ومن معه رضي الله عنهم ذلك خرجوا ليهيلوا التراب على القبر وكان آخر من خرج من القبر قثم بن العباس .. يقول علي رضي الله عنه: "أحدث الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن
= وهذا السند صحيح إسماعيل ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 68 والشعبي تابعي ثقة من أئمة التابعين.
(1)
صحيح مسلم 2 - 665.
(2)
سنده صحيح رواه أبو يعلى 4 - 253 وعبد الرزاق 3 - 495 والبيهقيُّ 4 - 53 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرني ابن عباس وقال الشعبي حدثني أبو مرحب وهذا السند صحيح إسماعيل ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 68 والشعبي تابعي ثقة من أئمة التابعين.
(3)
صحيح مسلم 2 - 665.
عباس" (1) .. لكن المغيرة بن شعبة كان يرقب المشهد بألم .. كان يفرك دهاءه كي يمس النبي عليه السلام في قبره قبل أن يهال التراب عليه: "فلما وضع في لحده صلى الله عليه وسلم قال المغيرة: قد بقي من رجليه شيء لم يصلحوه قالوا: فادخل فأصلحه فدخل وأدخل يده فمس قدميه فقال: أهيلوا علي التراب فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه ثم خرج فكان يقول: أنا أحدثكم عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم" (2).
ثم أهالوا التراب والدموع عليه وبكاه من في بيت عائشة ومن في المسجد ومن في الطرقات والمنازل .. بكوا ذلك النبي الذي كان أرحم الناس بهم وأحب الناس إليهم .. بكوا محمدًا الذي كانت مصيبة موته تخفف كل المصائب التي تمر بالمؤمنين .. محمدًا الذي فارق الحياة جسدًا لكنه بقي سنة ومنهجًا .. نهض الصحابة من عند قبره مثقلين بالكمد
(1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 6 - 87 حدثني أبي؛ إسحاق بن يسار عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل عن مولاه عبد الله بن الحارث عن علي وهو سند صحيح فوائد ابن إسحاق تابعى ثقة وكذلك مقسم وعبد الله بن الحارث مجمع على توثيقه انظر التقريب 1 - 408.
(2)
سنده صحيح رواه أحمد 5 - 81 وغيره من طريق عن حماد بن سلمة عن أبي عمران يعني الجوني عن أبي عسيب أو أبي عسيم قال بهز إنه شهد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأبو عسيب صحابي وأبو عمران الجوني اسمه عبد الملك بن حبيب وهو ثقة من كبار التابعين: التقريب 1 - 518 وحماد إمام ثقة معروف.
محملين بسنته وقرآن ربه وربهم .. نهض الصحابة بعد دفنه ولم يعكفوا عند قبره ولم يحولوا ذلك القبر إلى مزار مرصع بالجواهر مطلي بالذهب .. بل إن عائشة استمرت في السكن في بيتها ولم تفارقه .. أما الصحابة فلم يضيعوا أوقاتهم عند قبره بتلاوة الأشعار والمدائح والبكائيات الفارغة بل ولا بقراءة القرآن .. لقد علمهم عليه الصلاة والسلام كيف يصنعون الحياة .. كيف يشرقون كالشمس في عروق المستقبل والأجيال .. نهضوا من عند قبره فحملوا رسالته إلى العالم لينقذوه بها كما أنقدهم هو قبل ذلك بها .. فصلى الله عليه وسلم وجزاه عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته وجمعنا به في جناته.