الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة عاشق حبيش
هي قصة ليست من خيال الأدباء والروائيين .. هي حقيقة مرة يرويها من شارك في أحداثها معترفًا بالمأساة التي ارتكبها ويستغفر الله من ذلك ..
يرويها شاب اسمه: ابن أبي حدرد كتب نهاياتها بيده وأسدل ستائرها على أرض بني جذيمة .. تبدأ القصة عندما كان شاب يعشق فتاة تدعى حبيشًا منذ صغره .. ربما كان والدها أميرًا فارتحل عن دياره وجيرانه .. وربما جاء أمير فأخذها إلى بيت أكثر ثراءً وجاهًا .. لكن يبدو أن الأمير لم يحمل في هودجه سوى جسدها .. أما قلبها فقد أردفه ذلك الشاب معه على راحلته .. يسير كلما سارت ويتوقف عندما تتوقف .. وفي ديار بني جذيمة توقفت القافلة وخلفها الشاب المتيم أمام جيش خالد .. فحدث ما حدث .. وأُخذ الشاب أسيرًا غير آبه بالأسر ولا بهذه الحبال فالحبال التي تربطه بحبيش أقوى وأسرها لقلبه أقسى .. يقول ابن أبي حدرد:
"كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتى من بني جذيمة وهو في سني وقد جمعت يداه إلى عنقي برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى
فقلت: ما تشاء ..
قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ثم تردني بعد فتصنعوا بي ما بدا لكم [إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها فدعوني انظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم]
قلت والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقف عليهن (فإذا امرأة طويلة أدماء) فقال: اسلمي حبيش قبل نفاد العيش:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم
…
بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك أهلًا أن ينول عاشق
…
تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا
…
أثيي بود قبل إحدى الصفائق
أتييي بود قبل أن تشحط
…
وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا ضيعت سر أمانة
…
ولا راق عيني عنك بعدك رائق
قالت: [نعم فديتك] وأنت فحييت عشرًا وسبعًا وترًا وثمانيًا تترى
…
قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه" (1).
كانت المرأة تشاهد عاشقها وهو يضرب بالسيف .. تشاهد رأسه يهوى عن جسده الحبيب .. فلم تحتمل .. ولما سقط على الأرض تخلت عن وقارها وأسرارها وانحدرت من هودجها غير آبهة بما حولها ولا بمن حولها .. انحدرت نحو ذلك الجسد الذي هوى على الأرض كالفجيعة .. وانحنت. بمشاعر تنبض بالموت للموت ..
"جاءت المرأة فوقفت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت"(2) وجدًا عليه وحزنًا .. كأنها أقسى العشاق وأضعفهم.
(1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق: السيرة النبوية 5 - 100: حدثني يعقوب عن عتبة بن المغيرة بن الأخنس عن الزهري عن ابن أبي حدرد الأسلمي .. يعقوب ثقة: التقريب 2 - 376 وشيخه تابعط ثقة وإمام معروف أما الزيادة فسندها حسن رواها النسائي في السنن الكبرى 5 - 201 أنبأ محمد بن علي بن حرب قال أنبأ علي بن الحسن بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس وهذا السند حسن من أجل علي بن الحسين فحديثه حسن إذا لم يخالف وللحديث شاهدان في كل منهما ضعف يسير عند البيهقي في الدلائل 5 - 116 وبقية رجال النسائي ثقات وهو سندٌ حسنٌ لذاته انظر التقريب (2 - 35) حيث قال الحافظ صدوق يهم .. من لا يهم.
(2)
انظر ما قبله فهو جزء منه.
كان الصحابة ينظرون إلى ذلك المشهد الفاجعة منهم الرافض له والمتكدر كعبد الله بن عمر وأصحابه .. منهم المندهش الذي فوجئ بما حدث .. والصحابة بشر يخطئون ويصيبون لكن ما هو تقييم الإسلام لهذه المصيبة .. وما هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد ومن أطاع خالدًا ..
دفنت المعشوقة ودفن العاشق وبقية القتلى وعاد الصحابة إلى المدينة مثقلين بالهموم والتساؤل .. ولما وصلوا قال ابن عمر رضي الله عنهما "ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللَّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين"(1).
لم يكن الدافع لهذه الأحداث هو التعطش للدماء وشهوة السيطرة والتوسع .. لكنها الغيرة على التوحيد والحماس المفرط الذي يطغى على لغة المنتصر غالبًا .. وهو أمر لا يمكن تبريره تحت أي عذر .. فهو خطأ من خالد وقد تولى النبي صلى الله عليه وسلم تحمل مسؤولية ذلك الخطأ .. ولم يتنصل من تبعاته بل لام أصحابه .. والنبي صلى الله عليه وسلم بهذه البراءة من ذلك العمل الفظيع الذي استبيحت فيه دماء بريئة يؤيد احتجاج الشاب عبد الله بن عمر على تلك الحادثة وإنكاره على أميره في ساعة ليست من ساعات السلام والراحة .. بل في ساحة حرب يحتاج فيها القائد إلى الطاعة والامتثال من جنده أكثر من أي شيء آخر .. لكن الإنكار لا يعني الخروج على إمارة خالد والتمرد عليه أبدًا بل هو مجرد رد الأمير إلى الوحي والصواب الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم .. فالأمير يظل بشرًا مهما بلغت عظمته ..
أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم تجاه ذلك العاشق وما حدث له فيحدثنا عنه ذلك الشاب الذي شارك في إيلام النبي صلى الله عليه وسلم وتألم هو أيضًا مما اقترف ..
(1) هو حديث البخاري السابق.
ابن أبي حدرد الذي أحزنه ما حدث منه تجاه ذلك المسكين يقول:
"فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما كان فيكم رجل رحيم"(1). أما كان فيكم رجل رحيم فالله غني عن تلك الدماء .. الإسلام غني عنها .. ومحمَّد بريء مما حدث .. أما فيكم رجل رحيم يمنع حدوث ذلك المشهد المؤلم الذي لم يكن من المفترض حدوثه .. والنبى صلى الله عليه وسلم لم يبعث هذه السرية لإرغام الناس على الإسلام .. والقائد المسلم يحتاج إلى إعادة النظر كثيرًا والتفكير أكثر قبل اتخاذ قرار بقسوة قرار خالد بن الوليد رضي الله عنه .. فالرحمة هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يحجم عن قتل الأسرى في بدر رغم تاريخ بعضهم الأسود ضده وضد أصحابه وأين هؤلاء من أسرى بدر .. والرحمة هي التي جعلت النبي عليه السلام يعفو عن صناديد قريش فما بالك في أناس أبرياء أرادوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا .. أي صبأنا من دين قومنا .. فما بالك برجل عاشق لا ناقة له ولا جمل فيما يحدث .. كان الأمر شديدًا على النبي صلى الله عليه وسلم .. لكنه لم يكتف بالحزن فقط .. لقد مضى الأمر وأصبح تاريخًا ولم يعد بالإمكان فعل شيء تجاه ذلك سوى الحزن ومحاولة التعويض ولو ماديًا .. حيث اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرارًا بدفع تعويضات للمتضررين عن ذلك الذي أحدثه تسرع خالد وحماسه فقد قال صلى الله عليه وسلم "أما كان فيكم رجل رحيم .. فداء الإثنين بالواحد"(2).
ودفعت التعويضات من قائد الدولة الكبرى والوحيدة التي تكاد تسيطر على كل الجزيرة العربية لأهل المقتولين خطأ .. فأدرك أولئك
(1) حديث صحيح وهو جزء من حديث النسائي السابق.
(2)
حديث صحيح وهو جزء من حديث النسائي السابق.