الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فما كان من أسمائه متضمنًا لمدحٍ فوق ما عرفناه وأدركناه، كـ (الأعلى) و (المتعالي) فهو مندرج تحت قولنا (الله أكبر).
فإذا كان في الوجود مَنْ هذا شأنُه، نَفَينا أن يكون في الوجود مَنْ يشاكله أو يناظره، فحقَّقْنا ذلك بقولنا:
لا إله إلا الله، وهي الكلمة الرابعة؛ فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية، ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه.
فما كان من أسمائه متضمنًا للجميع على الإجمال، كـ (الواحد) و (الأحد) و (ذي الجلال والإكرام) فهو مندرج تحت قولنا (لا إله إلا الله).
وإنما استَحقَّ العبوديةَ لِما وَجَب له من أوصاف الجلال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعدّه العادّون:
حُسنُك لا تنقضي عجائبُه
…
كالبحر حدِّث عنه بلا حرجِ)
ثمَّ قال الشيخ: (ولو أُدرجت (الباقيات الصالحات) في كلمةٍ منها على سبيل الإجمال، وهي (الحمد لله): لاندرجت فيها. . .؛ فإن الحمد هو الثناء، والثناء يكون بإثبات الكمال تارةً، وبسَلْب النقص أخرى؛ وتارة بالاعتراف بالعجز عن درك الإدراك؛ وتارةً بإثبات التفرد بالكمال. والتفردُ بالكمال من أعلى مراتب المدح والكمال. فقد اشتملت هذه الكلمة (1) على ما ذكرناه في (الباقيات الصالحات)؛ لأنَّ الألف واللام فيها: لاستغراق جنس المدحِ والحمدِ مما عَلِمْنا وجَهِلْناه. ولا خروج للمدح عن شيء مما ذكرناه.
ولا يستحق الإلهيةَ إلا من اتصف بجميع ما قررناه) (2).
5 - جوانب مشرقة من سيرته ومناقبه:
1 -
فمن ذلك أنَّه عَرَض عليه الملك الظاهر بيبرس بعد بنائه المدرسة
(1) أي (الحمد لله).
(2)
طبقات الشافعية لابن السبكي 8: 220.
الظاهرية، أن يتولى الشيخُ أمرَ التدريس فيها إضافةً إلى تدريسه في الصالحية، فأَبَى وقال: إن معي تدريس الصالحية، فلا أُضيِّق على غيري!
وسأله الملك أن يَشترط في وقفها أن يكون التدريس لأولاده، فقال: إن في هذا البلد من هو أحق منهم، فقال: لا بد أن يكون لهم فيها وظيفةٌ بالشرط، ففكّر الشيخ وقال: إن كان لا بد فتكون الإمامة، فشَرَط لهم.
وعَرَض عليه الظاهر بيبرس أيضًا، حين مرض الشيخ ابن عبد السلام وأحس بالموت، أن يُعيِّن الشيخ مناصبه -التي كان يتولّاها- لمن يريد من أولاده، فقال: ما فيهم من يصلُح! وهذه المدرسة الصالحية تصلُح للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز (وهو أحد تلاميذ الشيخ)، ففُوّضتْ إليه (1).
2 -
وكان مع فقره كثير الصدقات. ولقد وقع مرةً بدمشق غلاءٌ كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مَصاغًا لها وقالت: اشتر لنا به بستانًا نَصِيفُ به، فأَخَذ ذلك المصاغ وباعه وتصدق بثمنه! فقالت: يا سيدي اشتريتَ لنا؟ قال: نعم بستانًا في الجنة! إني وجدتُ الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه. فقالت له: جزاك الله خيرًا.
3 -
وأفتَى مرةً بشيء، ثمَّ ظهر له أنَّه خطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: مَنْ أَفتَى له فلان (يعني نفسَه) بكذا فلا يَعمَلْ به، فإنَّه خطأ!
4 -
ومن أدعيته التي تلهج بها الألسن على المنابر يوم الجمعة، قوله:
(1) ينظر لما سبق: الشيخ عز الدين بن عبد السلام للدكتور الصلابي ص 63. يقول الدكتور محمَّد الزحيلي معلقًا على هذا الورع والإيثار من الشيخ ابن عبد السلام: (والحقيقة أن ولد العز: الشيخ عبد اللطيف، كان عالمًا فقيهًا ويصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده). العز بن عبد السلام للزحيلي ص 107 - 108.
(اللهم فانصر الحق وأظهر الصواب، وأَبْرِمْ لهذه الأمة أمرًا رشدًا، يُعَزّ فيه وليُّك ويُذَلُّ فيه عدوُّك، ويُعمَل فيه بطاعتك ويُنهَى فيه عن معصيتك)(1).
وبالجملة فالشيخ ابن عبد السلام كان أحد العلماء الربانيين، وأحد الأفذاذ من (فقهاء النهوض)(2) الذين اختارهم الله تعالى لتجديد فقه الشريعة.
وقد اتفقت الكلمة على جلالة قدره حتى وُصف بأنّه بلغ رتبة الاجتهاد. ولقد قيل في حقه: إنه سَبَق أئمة زمانه بدمشق، بل سَبَق كثيرًا من السابقين المتقدمين (3).
ولعل خير ما توجزه سيرةُ الشيخ ابن عبد السلام، أنه هو (من كان عصرُه تأريخًا به)(4).
رحم الله هذا الشيخ الجليل، فلقد قال فيه عارفُو قدرِه كلمةَ حقٍّ:(لم يَرَ مثلَ نفسه، ولا رأى -من رآه- مثلَه)(5). وهي كلمةٌ عالية لم تُقل على مرّ التاريخ إلا في حق أعلام أفذاذٍ.
(1) وقد دعا الشيخ ابن عبد السلام بهذا الدعاء، حين تحالف الملك الصالح إسماعيل الأيوبي مع الفرنج الصليبيين عام 638 ضد ابن أخيه الملك نجم الدين، وسَلَّم الصالح إسماعيل للصليبيين لقاء هذا التحالف: حصونَ دمشق، بل أَذِن لهم بدخول دمشق لشراء السلاح، لقتال المسلمين في مصر، فأنكر الشيخ عليه ذلك، وقَطَع له الدعاء في الخطبة على منبر الجامع الأموي بدمشق، وصار يدعو بهذا الدعاء. ينظر: العز بن عبد السلام للزحيلي ص 174 - 176.
(2)
هكذا لقّبه به الدكتور علي محمَّد محمَّد الصلّابي، حيث اختاره (ضمن سلسلة فقهاء النهوض) وترجم له فيها بعنوان: الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الأمراء.
(3)
مرآة الجنان لليافعي 4: 153.
(4)
مقدمة الأستاذ عمر حسن القِيام لكتاب (الفروق) للقرافي 1: 24.
(5)
طبقات الشافعية للسبكي 8: 209.