الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناسخ الكتاب، وهو تلميذ البلقيني، فيريد هذا الناسخ بكلمة (شيخنا): شيخه البلقيني الذي كان يُملي هذه التعليقات.
وهذا ما يستفاد مما جاء في آخر المخطوط، حيث يقول هناك ناسخ المخطوط تلميذ البلقيني:
(نجز تحرير هذه المسائل المُورَدة على قواعد الشيخ الإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، مما أملاه سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام. . . عمر البلقيني. . .، على يد العبد الفقير يحيى بن محمد الكرماني. . .).
فإذًا هي فوائد وتعليقات أملاها البلقيني -وليست من تأليفه-، وكان الناسخ (وهو تلميذه) يُقيِّد تلك الأمالي عنه، فكان يُحيلها وينسُبها إليه -في مواضع كثيرة- بقوله (قال شيخنا) مع الدعاء له في بعض المواضع بما سبقت الإشارة إليه.
والخلاصة أن المقصود بكل ما سبق هو توجيه نظر القارئ الكريم إلى أن الكتاب (أمالٍ شفهية) للبلقيني، وليس (تأليفًا كتابيًّا) له.
خامسًا: أسلوب الكتاب:
ينتج عما سبق، من كون الكتاب (أمالي)، أنه لا يكون بمثابة (الكتاب التأليفي) في الأسلوب، بل سيكون مختلفًا بطبيعة الحال عنه؛ لأن المُملي حين يُملي شيئًا، يرتجل الكلام في الغالب، فقد تأتي كلمات غامضة في أثناء كلامه، أو كلمات تُستعمل في الأسلوب الدارج دون الأسلوب الكتابي، أو لا يكون الكلام متّسقًا أحيانًا مع الأساليب المتّبعة للكتابة -لأن المُملي ليس بصدد التدقيق والتفكير في كل كلمة يقولها لتكون موافقة لقواعد العربية، بل إنه يُرسل الكلام على السجية-، وهكذا أمور أخرى تجعل أسلوب العالم في إملائه مختلفًا في الجملة عن أسلوبه في الكتاب التأليفي؛ هذا فضلًا عن احتمال الخطأ من الناسخ المستملي في أثناء التدوين والتحرير.
ومما يتصل أيضًا باختلاف أسلوب الإملاء عن أسلوب التأليف -وتُلحظ آثاره في هذا الكتاب- أن المُملي قد يُلقي الكلام في صورة إشارات مختزلة سريعة، وهي إشارات مفهومة وواضحة لدى السامع المتلقِّي لها، لأن هذا السامع مستحضر لسياق الكلام (أو كما يقال: إنه يعيش مع المُملي في ذلك الجوّ الذي يُلقَى فيه الكلام) فالسامع الحاضر أمام المُملي يُدرك مراده مباشرة بدون عناء، بخلاف قارئ الكتاب الذي يأتي فيما بعدُ، فإنه بعيد عن ذلك الجوّ الذي أُلقي فيه هذا الكلام، فقد يصعب عليه فهم تلك الإشارات.
وهناك إشكالات أخرى قد تعترض القراء الكرام في أسلوب الكتاب، وصعوبة فهمه في بعض المواضع، وليست تلك الإشكالات ناتجة إلا بسبب هذا (الأسلوب الإملائي) نفسه الذي صدر عليه الكتاب من صاحبه، فلا بد أن يتنبه القارئ لهذه (الطبيعة الإملائية) في هذا الكتاب، ويستحضرها إذا ما وَجَد شيئًا من هذا القبيل في الكتاب.
ولا بأس من ضرب أمثلة لتوضيح ما سبق؛ ليأخذ القارئ فكرة عن طبيعة الكتاب قبل الدخول فيه.
أ- فمن ذلك: النص رقم 470 من كلام الشيخ ابن عبد السلام، أورده البلقيني هكذا:
(قوله (1) وأما ما يتقدم أحكامه على أسبابه فله أمثلة، فذكر تلف المبيع قبل القبض يفسخ بالتلف قبيل التلف وبقتل الخطأ كونه موجبًا للدية، وهي موروثة عنه بغير تملكها قبل الثالث إذا قال لغيره أعتق عبدك عني فأعتقه، فإنه يملكه قبيل الإعتاق الرابع إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار فأعتق المشتري العبد المبيع فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدمًا على الإعتاق). انتهى.
هكذا ساق البلقيني كلام العز بن عبد السلام، وقد أحببتُ أن أَضعه أمام
(1) أي: قول الشيخ العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2: 171، 172.
القارئ كما جاء في المخطوط -صورة طبق الأصل-، ليَرَى القارئ في مثل هذا النص وطريقةِ إيراد البلقيني له، نموذجًا لِما أشرتُ إليه قبل قليل أن المُملي يُورد الكلام أحيانًا في صورة إشارات مختزلة تكون مفهومة لدى السامع الحاضر عندئذٍ، بخلاف القارئ الذي يأتي فيما بعدُ، فإنه يصعب عليه فهم تلك الإشارات إلا إذا رجع إلى أصل الكتاب.
ففي هذه الفقرة، نرى أن الغموض يكتنف هذا النص بسبب كون البلقيني ساقه على الطريقة الإملائية. ولو كان ساقه كما أورده العز بن عبد السلام في أصل كتابه، لَمَا حصل هذا الغموض، فإن كلام الشيخ هناك واضح تماما فيما يتعلق بهذا النص.
ولْنأتِ إلى توضيح هذا النص وفكّ غموضه، وهو أن البلقيني يريد أن يقول:
(إن ما يتقدم أحكامه على أسبابه، له أمثلة، ذكرها الشيخ ابن عبد السلام، وهي:
المثال الأول: (تلف المبيع قبل القبض)، وقال فيه: يُفسخ (أي: البيع) بالتلف قبيل التلف.
المثال الثاني: مثّله الشيخ ابن عبد السلام بـ (قتل الخطأ) وذكر فيه أنه موجبٌ للدية وأنها موروثة عنه بغير تملّكها قبلُ.
المثال الثالث: إذا قال لغيره: أَعتِقْ عبدك عني. فأعتَقه، فإنه يملكه قبيل الإعتاق.
المثال الرابع: إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار، فأعتَق المشتري العبد المبيع، فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدّمًا على الإعتاق).
والآن أضع النص نفسه منسَّقًا بالتفقير وعلامات الترقيم، للمقارنة بينه وبين الصورة السابقة التي جاء عليها في أصل المخطوط؛ ليُعرف الجهد
المبذول في خدمة مثل هذه النصوص، وتقديمِها للقارئ بطريقة واضحة ميسّرة، وإليك النص منسَّقًا:
(قوله: (وأما ما يتقدم أحكامه على أسبابه، فله أمثلة.
فذَكَر: (تلف المبيع قبل القبض): يُفسخ بالتلف قبيل التلف (1).
وبـ (قتل الخطأ): كونه موجبا للدية، وهي موروثة عنه بغير تملّكها قبلُ (2).
الثالث: إذا قال لغيره: أَعتِقْ عبدك عني. فأعتَقه، فمانه يملكه قبيل الإعتاق.
الرابع: إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار، فأعتَق المشتري العبد المبيع، فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدّمًا على الإعتاق). انتهى.
ب- مثال آخر:
ومن أمثلة اختلاف أسلوب التأليف الإملائي عن التأليف الكتابي، ما قد يحدث فيه من التسامحات في مجيء الكلام على خلاف القواعد النحوية، كما جاء في قوله:(أن لحرمان الأجير ضررٌ بيّن). (النص رقم 528).
فهكذا جاء الكلام برفع كلمة (ضررٌ بيّن) بالرفع، ومقتضى القاعدة النحوية أن يقال:(أن لحرمان الأجير ضررًا بيّنًا) كما هو معلوم.
وربما يكون حصل هذا التسامح من الناسخ، فسرعةُ الكتابة لدى الإملاء قد لا تسمح المجال للتقيد بقواعد العربية أثناء الكتابة، وربما لا تتسنى فرصة المراجعة لاحقًا، فيبقى الكلام المكتوب كما هو.
(1) يعني: أن الشيخ ابن عبد السلام ذَكَر هذا المثال لما يتقدم أحكامه على أسبابه، وهو:(تلف المبيع قبل القبض) وأنه يُحكم في هذه الحالة بفسخ البيع قبيل تلف المبيع.
(2)
يعني: أن هذا المثال الثاني الذي ذكره الشيخ ابن عبد السلام لما يتقدم أحكامه على أسبابه: وهو (قتل الخطأ) وأنه موجبٌ للدية
…