الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج- مثال ثالث:
ومن الأمثلة التي جاءت على أسلوب الأمالي في هذا الكتاب:
أن البلقيني قد يعلّق على شيء من كلام الشيخ ابن عبد السلام، ثم ينتقل عنه إلى فقرة أخرى ويبدأ التعليق عليها بدون واوٍ استئنافية، بل يبدو في هذه الحالة وكأنه قطع كلامه السابق؛ لأنه انتهى مما يريده من التعليق عليه، وانتقل إلى ما بعده من الكلام مباشرة بدون داعٍ إلى واوٍ استئنافية (كما يحدث مثل ذلك أيضًا في أثناء الكلام الشفهي)(1).
سادسًا: منهح الكتاب:
1 -
المنهج العام الذي سار عليه البلقيني في الكتاب:
1 -
يسوق البلقيني أولًا نص كلام الشيخ ابن عبد السلام من كتابه (قواعد الأحكام) بالمقدار الذي يرى أنه بحاجة للتعليق عليه بما يريده، فإذا انتهى من النقل، بدأ في التعليق عليه بقوله:(يقال عليه). هكذا سار البلقيني في منهجه العام في نقل نصوص كلام الشيخ ابن عبد السلام، ثم في التعليق عليها (2).
2 -
لا يطيل البلقيني الكلام في تعقباته وتعليقاته على كلام الشيخ ابن عبد السلام، وإنما يأتي عادةً بكلام موجز مقنع.
3 -
امتاز منهج البلقيني في نقله نصوص كلام الشيخ ابن عبد السلام، أنه حَرَص على ذكر عناوين فصول تلك النصوص حسب ما جاءت عند الشيخ ابن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام)، فيقول البلقيني مثلًا:
(1) ينظر لذلك مثلًا: النص 550 و 552 ففيهما نموذج من هذا الأسلوب في كلام البلقيني.
(2)
وسيأتي بعد قليل شيء من التفصيل عن طريقة البلقيني في نقل عبارات ونصوص الشيخ ابن عبد السلام.
- (قوله في الفصل المعقود لِما تُعرف به المصالح والمفاسد)(النص رقم 4)، ثم ينقل نص كلام الشيخ.
- (قوله في الفصل المعقود لتقسيم أكساب العباد)(النص رقم 5).
- (قوله في الفصل المعقود عليه لبيان ما رُتِّب على الطاعات والمخالفات)(النص رقم 8).
وهكذا يفعل في بقية النصوص، حيث يصرِّح فيها بعناوين فصولها التي جاءت في كتاب (قواعد الأحكام).
4 -
وقد يحدّد البلقيني موضع النص من (الفصل)، كأن يكون في أول الفصل أو في موضع كذا من الفصل، كما في الأمثلة الآتية:
- (قوله أول الفصل المعقود لبيان حقيقة المصالح والمفاسد)(النص رقم 6).
- (قوله في الفصل المعقود عليه للوسائل إلى المصالح)(النص رقم 134) ثم قال بعده: (قوله في الفصل المذكور في أثناء القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة). (النص رقم 135).
- (قوله في القاعدة التي لبيان الحقوق الخالصة والمركبة)(النص رقم 170) ثم قال بعده: (قوله في التقسيم الثالث من القاعدة: ما يتركّب من حقوق الله، وحقوق رسوله، وحقوق المكلَّف)(النص رقم 171).
5 -
وعندما يريد البلقيني نقل الأمثلة من عند الشيخ ابن عبد السلام، ينقلها أيضًا بأرقامها كما جاءت عند الشيخ، فيقول البلقيني مثلًا:(قوله في المثال الثالث) أو (في أثناء المثال الثالث) وهكذا.
6 -
وعندما تكثر النصوص التي ينقلها البلقيني من أحد الفصول، فإنه يكتفي بذكر (عنوان الفصل) في البداية مرة واحدة، ثم لا يكرره بعد ذلك في كل مرة، بل يستمر في نقل نصوص ذلك الفصل، نصًّا نصًّا، وينبّه في كل مرة
على أن تلك النصوص متعلقة بذلك الفصل، بقوله مثلًا:(قوله فيه أيضًا)(أي في ذلك الفصل) أو يقول: (قوله في الفصل المذكور)، فيربط بمثل هذه الإشارة الوجيزة جميع تلك النصوص بعنوان ذلك الفصل. فإذا انتهى من النصوص الخاصة بفصلٍ ما، وأراد أن يبتدئ بفصل آخر جديد، يأتي حينئذ بعنوان الفصل الجديد بقوله:(قوله في الفصل كذا).
2 -
طريقة البلقيني في نقل نصوص الشيخ ابن عبد السلام:
1 -
لم يلتزم البلقيني نقلها حرفيًّا كما هي عند الشيخ، بل قد توجد مغايرات بين ما ينقله وما هو موجود في المطبوع من (قواعد الأحكام)؛ وهي مغايرات غير مؤثرة، لأن مرجعها -حسب ما ظهر لي- إلى أن نسخة البلقيني نفسها من (قواعد الأحكام) مختلفة عن النسخة المطبوعة الموجودة بين أيدينا (1). وربما كان مرجع تلك المغايرات، إلى أن النقل الحرفي لكلام الشيخ ابن عبد السلام ليس مقصودًا للبلقيني أصلًا، وإنما مقصوده أن يشير إلى مضمون كلامه وفحواه، ليعلّق عليه بما يراه.
ولهذا فإني اكتفيتُ في خدمتي للكتاب بمجرد عزو ما نقله البلقيني من نصوص الشيخ ابن عبد السلام، إلى مواضعها من كتابه (قواعد الأحكام) دون التدقيق في مقابلتها وإثبات (الفروق) بينها وبين ما هو موجود في المطبوع من (قواعد الأحكام)، إذ لا طائل منه للقارئ الكريم، بل إنه يُتعب القارئ -من دون فائدة- في تقليب النظر بين المتن والهامش لمجرد الوقوف على فروق الكلمات.
2 -
وكما لم يلتزم البلقيني بنقل نصوص الشيخ ابن عبد السلام حرفيًّا، لم يلتزم كذلك بنقل عباراتها كاملة دائمًا، بل قد ينقلها مختصرة مع الإشارة
(1) ومما يدل لهذا: النص رقم 430 مع ما جاء من كلام البلقيني عليه، ومع ما جاء من تعقيب ناسخ المخطوط (وهو تلميذ البلقيني) عليه في الهامش.
إلى الاختصار بمثل قوله (انتهى ملخصًا)، أو بالإحالة إلى باقي الكلام بقوله (إلى آخره) ونحوه.
3 -
وقد يختصر البلقيني النقلَ من دون إشارة إلى الاختصار. وهذا لا يُنتقد عليه لأنه منهج له، واصطلاح له، وهو منهج متبع في الجملة ولا ضير فيه.
وقد رأيت في مثل حالات الاختصار هذه، أن أكتفي أيضًا بمجرد عزو النصوص إلى مواضعها من كتاب الشيخ ابن عبد السلام (قواعد الأحكام)، دون التقيد بالإشارة إلى كونها مختصرة.
لكن هذا، إذا كان اختصارُ البلقيني وافيًا يكفي للقارئ أن يفهم به ما يأتي من كلام البلقيني على ذاك النص.
أما إذا كان البلقيني نقل جزءًا من النص مثلًا، أو نقل النص بحيث يصعب على القارئ أن يفهم السياق الذي جاء فيه هذا النص، ويصعب عليه أيضًا أن يربط بعد ذلك بين النص وبين كلام البلقيني عليه، فحينئذ حَرَصتُ على أن أنقل للقارئ أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام، في الهامش، بالقدر الذي يتمكن منه القارئ من فهم الموضوع الذي بين يديه.
4 -
وقد ينقل البلقيني شيئًا من نص كلام الشيخ ويطوي باقيه، لكنه بعد ذلك لمّا يأتي للكلام على ذلك النص والتعليق عليه، يتطرق إلى ذلك الجزء -أيضًا- الذي طواه من أصل النص عند نقله له.
وهذا يؤدي إلى تشويش عند القارئ؛ إذ إنه يجد أن البلقيني يتعرّض لشيء، لا يجده القارئ أمامه في أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام الذي نقله البلقيني.
ولهذا كان من الجدير في مثل هذه المواضع، أن أذكر في الهامش أصل كلام الشيخ كاملًا أمام القارئ، أو -على الأقل- الجزء الذي طواه البلقيني
منه، حتى يسهل ربط كلام البلقيني به. (مثاله: النص رقم 550، يُنظر فيه تعليق البلقيني على كلام الشيخ ابن عبد السلام في قياس المساقاة على الرضاع، فإن البلقيني علَّق هنا على شيء مما طواه من أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام).
3 -
طريقة البلقيني في تعليقاته على كلام الشيخ ابن عبد السلام: إن تعليقات البلقيني على نصوص الشيخ ابن عبد السلام تتنوع كما يلي:
(أ): فمنها ما هو من قبيل التعقيب وإبداء النظر في كلام الشيخ ابن عبد السلام، والتنبيه على ما يُلحظ عليه من نظر ونقد، والاستدراك عليه.
فمن ذلك مثلًا:
النص رقم 93: فيه قول الشيخ ابن عبد السلام عن صلح الحديبية، أنه التُزم فيه إدخال الضَّيم على المسلمين وإعطاء الدنيّة في الدين دفعًا لمفسدة عظيمة، وهي قتل المؤمنين.
فعقَّب عليه البلقيني بقوله: (لم يكن في صلح الحديبية إدخالُ ضيم ولا إعطاء دنيّة في نفس الأمر، ومن ثَمّ قال النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، لعمر رضي الله عنهما ما قالا، حين قال: (فعلامَ نُعطي الدنيّة في ديننا)؟ وأيضًا فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تكون خُطّةٌ يعظّمون فيها حُرُمات الله، إلا أجبتُهم إليها) يقتضي أن كل ما أجابهم إليه، فيه تعظيم حُرُمات الله وإن كانوا مخطئين في اعتقادهم. فتأمله!).
وفي النص رقم 148: قال الشيخ ابن عبد السلام: (لا يثاب الإنسان ولا يعاقَب إلا على كسبه أو اكتسابه).
علّق عليه البلقيني قائلا: (قد يُستثنى منه: (الطفل، يحُجّ عنه وليُّه)؛ فإن المرأة لمّا رَفَعت الصبيَّ للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم، ولكِ أجرٌ): يقتضي أن الصبي يثاب
…
).
وفي النص رقم 156: ذكر الشيخ ابن عبد السلام أن المديون لو مات
وعليه دَيْنٌ لم يأثم بسببه ولا بمَطْله، فهل يؤخذ من حسناته في الآخرة بمقدار ما عليه من الدَّين؟ قلنا: نعم
…
كما تؤخذ أمواله ومساكنه وعبيده وإماؤه في الدنيا.
فانتقد البلقيني هذا الجواب من الشيخ وعقّب عليه بكلام جيد بقوله: (هذا الجواب ممنوع. والأرجح أنه لا يؤخذ في الآخرة من ثواب حسناته شيء، لعدم تعدّيه. وفي الحديث: (من أَخَذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه). ثم قال البلقيني: (وما ذكره الشيخ رحمه الله من قياس الغائب على الشاهد، لا يصح؛ إذ لا يلزم من أخذ أمواله ومساكِنِه وعبيدِه في الدنيا، أن يؤخذ من ثواب حسناته في الآخرة، لأن الدنيا دار تكليف، والآخرةُ دارُ أجر على الطاعة أو المعصية، ولم يوجد منه معصية".
وفي النص رقم 201: قال الشيخ ابن عبد السلام: (لو قَصَد الإنسانُ القربةَ بوسيلة ليست بقربة، لا يثاب على قصده دون فعله، كمن قَصَد نوم بعض الليل ليتقوّى به على قيام بقيته).
فأبدى البلقيني نظرًا في كلام الشيخ هذا، وعقّب عليه -بالاستناد إلى حديث يخالف ظاهر كلام الشيخ- بقوله:(ظاهر هذا أنه لا يثاب على النوم المذكور، وهذا قد يُنازع فيه قولُ معاذ رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي).
وفي النص رقم 202: ذكر الشيخ ابن عبد السلام الاختلاف في كون بعض الكفارات: هل هي جوابر أو زواجر؟ ثم رجَّح أن (الظاهر أنها جوابر لأنها عبادات وقُرُبات لا تصح إلا بالنيات، وليس التقرب إلى الله تعالى زاجرًا).
وهذا الترجيح من الشيخ، لم يلق أيضًا قبولًا عند البلقيني، فعقّب عليه بالاستدلال بآية تخالف ما ارتآه الشيخ، فقال: (ما ذكره من أن الكفارات
جوابر لا زواجر، معلّلًا له بأنها عبادات، قد يردّه ظاهرُ قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، إلى قوله:{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، وهذا زجرٌ. ومن جملة ما تقدّم: الصيام).
وفي النص رقم 298: قال الشيخ ابن عبد السلام: (ويجوز أن تكون هذه الأحكام كلها لا مصالحَ فيها ظاهرة ولا باطنة).
فعلّق عليه البلقيني قائلًا: "الظاهر أن في مثل هذه الأحكام، حِكَمًا لم يُطْلِع عليها اللهُ عبادَه".
(ب): وقد يتعقب البلقيني في تعليقاته: بعض أساليب التعبير عند الشيخ ابن عبد السلام.
فمن أمثلة ذلك:
أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر في النص رقم 266 أنه (يستحب للتائب إذا ذَكَر ذنبه الذي تاب عنه، أن يجدّد الندمَ على فعله والعزمَ على ترك العود إلى مثله، وعلى هذا يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة)
…
إلخ.
ثم قال في النص (رقم 267): (فشتان بين من لا ينسى الصغير الحقير، وبين من ينسى عظيمَ ذنوبه، فلا تمرّ على بالِهِ احتقارًا لذنوبه).
هذه هي عبارة الشيخ ابن عبد السلام، ويقصد بها بيان الفرق بين عظيمِ مقام النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، فهو صلى الله عليه وسلم لا ينسى الصغيرَ الحقيرَ فيستغفر الله ويتوب إليه مئة مرة، وأما غيرُه فينسى عظيمَ ذنوبه، فلا تمرّ على باله احتقارًا لذنوبه.
ومع أن هذا ما تمكّن منه الشيخ ابن عبد السلام من التعبير في هذا المقام، ونلحظ فيه مراعاته ما يليق بتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن البلقيني علَّق
عليه بتعديل أسلوب تلك العبارة، بحيث صارت -فيما يبدو- أرفعَ مقامًا في حق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال البلقيني:
(يقال عليه: صوابه: فشتان بين من يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مئة مرة ولا ذنبَ له، إجلالًا لربه! وبين من ينسى عظائم ذنوبه فلا يمرّ على باله، احتقارًا لذنوبه!).
وفي النص رقم 90 ذكر الشيخ ابن عبد السلام أنه لو أُكرِه بالقتل، على شهادة زورٍ لإحلال بُضع محرّم، لم تجز الشهادة).
فعقّب عليه البلقيني بأن التعبير بـ (إحلال البُضع) لا يستقيم. وصوابه أن يقال: (الاستيلاء على بُضعٍ محرّم)، قال البلقيني:"لأن البُضع لا يحلّ بشهادة الزور".
وفي النص رقم 122 قال الشيخ ابن عبد السلام: في تقرير المرتد ثلاثةَ أيام، قولان؛ أحدهما: أنه لا يقرَّر. والثاني: يقرَّر.
فعقّب البلقيني على ذلك بأنه: لا يقال في مثل هذا: إنه تقرير، وإنما هو إمهال، فصواب العبارة:(وفي إمهال المرتد قولان: أحدهما: لا يمهَل، والثاني: يمهَل). فتأمله".
وفي النص رقم 381 عبّر الشيخ ابن عبد السلام في حق الغريم المُعسر، بوصفه بـ:(المُعسر المجهول اليسار).
فعلّق عليه البلقيني بقوله: صواب العبارة: (الرجل المجهول اليسار)، أو إسقاط لفظة (المعسر)، لأنه لا يصح في التركيب، وصفُ (المعسر) بـ (مجهول اليسار).
وفي النص رقم 621 قال الشيخ بصدد كلامه عن كيفية ذكاة الحيوان المأكول في بعض الحالات: (لو سقط بعيرٌ في بئر يتعذر رفعه منها، وأمكن طعنه في بعض مَقاتله، حلّ بذلك).
فعقّب عليه البلقيني بأن قوله: (في بعض مَقاتله) ليس بجيد. والأحسن أن يقال: (في بعض أعضائه)، لقوله صلى الله عليه وسلم:(لو طَعنتَ بها في فخذه لأجزأ عنك).
(ج): من تعليقات البلقيني، ما يجيب فيه عن إشكالات يثيرها الشيخ ابن عبد السلام.
فمن أمثلة ذلك:
النص رقم 424 استشكل فيه الشيخ ابن عبد السلام العمل بعموم حديث (دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك)، وهو أنك إنْ حملتَه على (الواجبات) لصيغة الأمر، خرجتْ منه المندوبات. وإن حملتَه على (المندوبات)، كان تحكّمًا. وإن حملتَه عليهما، جمعتَ بين المجاز والحقيقة، أو بين المشتركات
…
فأجاب عنه البلقيني بأن الحديث إذا حُمل على (الواجبات)، لا يلزم منه إلا خروج (المندوبات)، ولا محذور فيه.
وإذا حُمل على (الندب) لا يكون تحكمًا، لأن ذلك تفريع على أن صيغة الفعل للندب، لأن القدر الزائد على (مطلق الطلب) -وهو الوجوب- مشكوكٌ فيه، فعلمنا بالتيقن، وهو (مجرد الطلب).
(د): من أبرز وأكثر ما اشتملت عليه تعليقات البلقيني في هذا الكتاب: تعقباتُه على ما يتناوله الشيخ ابن عبد السلام من المسائل الفقهية، خصوصًا مسائل المذهب الشافعي. وفي بعض ذلك مناقشات وتحريرات قوية، وربما طويلة.
فمن أمثلة ذلك:
ما جاء في النص رقم 124 من قول الشيخ ابن عبد السلام عن مغزى أخذ الجزية ممن تؤخذ منهم: (ولا تؤخذ الجزية عوضًا عن تقريرهم على
الكفر، إذ ليس من إجلال الربّ أن تؤخذ الأعواض على سبِّه وشتمِه ونسبتِه إلى ما لا يليق بعظمته. ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد).
علّق البلقيني على هذا قائلًا: (هذا يقتضي أن من العلماء مَن ذهب إلى ذلك، ولا أعلم من قال به. وإنما تؤخذ الجزية عن حقن دمائهم أو أجرة سكناهم في بلاد المسلمين، على الخلاف في ذلك. وأما على ما ذكره الشيخ، فلم يقل به أحد).
وفي النص رقم 125 قال الشيخ ابن عبد السلام: (الغيبة مَفسدةٌ محرّمة، لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحةً واجبة التحصيل أو جائزة التحصيل. ولها أحوال: أحدها: أن يشاوَر في مصاهرة إنسان، فيذكره بما يكره)(1) إلى أن قال: (فهذا جائز. والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصح لكل مسلم).
يقول البلقيني تعليقًا عليه: (ما ذكره من الوجوب على ما ظهر له، جزم به النووي في (الأذكار) و (الرياض) وشرح مسلم. والصواب خلافه؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يَرغب أحدٌ في المستشار فيه، ويؤدي ذلك إلى مفسدة أعظم مما يحصل في مصاهرته، كوقوعٍ في زنى ونحو ذلك. فالصواب: الجواز.
وفي النص رقم 129 قال الشيخ ابن عبد السلام ضمن بيانه لحالات من يدّعي الإعسار: (الحالة الثانية: أن لا يُعرف له غنى ولا فقر. وفيه مذاهب: أحدها: لا يُحبس، لأن الأصل فقرُه) ثم قال: (والثاني: يُحبس، لأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، والفقراء الذين لا يملكون
(1) ومثّل له الشيخ ابن عبد السلام بقوله: (كما قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لمّا خطبها أَبو جَهْم ومعاوية: (إن أبا جهم ضَرّابٌ للنساء، وإن معاوية صعلوك لا مالَ له). فذَكَرهما بما يكرهانه نصحًا لها، ودفعًا لضيق عيشها مع معاوية، وتعرّضها لضرب أبي الجهم (قواعد الأحكام) 1:153.
ذلك: بالنسبة إلى هؤلاء، قليل. وهذا مشكل جدًّا إذا كان الحق غزيرًا كثيرًا كالألف والألفين، إذ ليست الغلبة متحققة في الغنى المتسع، فكيف يُحبس الغريم على عشرة آلاف، وليس الغالب في الناس من يملك عشرة آلاف) ثم قال:(ويحتمل أن يقال: إذا أَدَّى قدرًا يخرج به عن الغلبة، وجب إطلاقه. وهذا قريب. المذهب الثالث: إن لزمه الدين باختياره، فالقول قوله).
علّق البلقيني على هذا قائلًا:
(ما ذكره من هذه المذاهب، هي أوجه في مذهب الشافعي رضي الله عنه، ولكن إنما أوردها الأصحاب في (مَن القولُ قولُه). وهذا الوجه الثاني (1) صائر إلى أن القول قول غريم المفلس؛ لأنه يوافق الظاهر، وطردِ الباب طردًا واحدًا، فلا فرق بين اليسير والكثير. ولأن الأصل استحقاق المطالبة. والشيخ نَصَب الأوجه في حبسه معلِّلًا هذا الوجه بأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، فجاء الإشكال الذي ذكره (2).
وفي النص رقم 356 تطرّق الشيخ ابن عبد السلام لمسألة اشتراط الرشد في كل من المدّعي والمنكر.
فعقّب البلقيني على ذلك ببيان اختلاف وجوه المذهب الشافعي في هذه المسألة، وما هو المعتمد والمصحح فيها عندهم.
ثم تطرّق لمناقشة عبارةٍ لأبي إسحاق الشيرازي في كتابه (التنبيه) وهي
(1) وهو الذي ذكره الشيخ ابن عبد السلام في النص أعلاه: أن مدّعي الإعسار الذي لا يُعرف له غنى ولا فقر، يُحبس.
(2)
وأحيانًا تأتي تعقبات البلقيني على المسائل الفقهية متتالية في النصوص؛ ينظر مثلًا: المسائل المذكورة في النصوص المتتالية من رقم 187 إلى 199، وجملة من المسائل المذكورة في النصوص من رقم 202 إلى 234، وجملة من المسائل أيضًا في النصوص من رقم 402 إلى 433.
قوله: (لا يصح الدعوى إلا من مطلق التصرف فيما يدّعيه)، وناقشها مناقشة طويلة، وذكر أنها لا تستقيم على إطلاقها هكذا من وجوه عدة، فذكر وجوهًا ونظائر فقهية ستة سُمعت فيها الدعوى -في المذهب- ممن لا يملك التصرف، خلافًا لما قاله الشيرازي.
وبناء على هذه المناقشة الطويلة لعبارة الشيرازي المذكورة، انتهى البلقيني إلى أنه لا يستقيم أمرها، ولا يُعمل بمقتضاها، ولا يؤخذ منها بطلان دعوى السفيه؛ لأنه لا يُدرَى ما المراد بها. ولم يذكرها الشيرازي في (المهذّب)، ولا أحدٌ من الأصحاب، وليس لها مخرجٌ تصح به. ولم يذكر الشافعي رضي الله عنه، ولا أحدٌ من الأصحاب، اشتراطَ رُشد المدّعي. فقد نص الشافعي في كتبه كلها على نصوص كثيرة في الدعاوى، ليس في شيء منها إخراجُ السفيه من الدعوى، وكذلك جرى عليه الأصحاب. انتهى كلام البلقيني (1).
ولعل مما يُلحق بهذا العنصر (أي: مناقشة البلقيني ما يعرضه الشيخ ابن عبد السلام من المسائل):
أن الشيخ ابن عبد السلام يتطرق في بعض المسائل للمقارنة بين مذهب الإمام الشافعي ومذهبِ غيرِه من الأئمة، فيشعُر البلقيني أن تلك المواضع محتاجة إلى بيان دليل الإمام الشافعي؛ ليتبين للقارئ وجهُ ما ذهب إليه الشافعي، واختاره في تلك المسائل.
(1) وينظر أيضًا النص رقم 372 ففيه مناقشة طويلة لمسألة نكول المدّعي عن اليمين المردودة. وفيها تظهر ضلاعة البلقيني في تحرير هذه المسألة من خلال ما ورد فيها من اختلاف عند شيخي المذهب: الرافعي والنووي.
وينظر النص رقم 377 ففيه مناقشات قوية لعدد من المسائل المتعلقة بالدعوى واليمين. وسَرَد البلقيني في آخر هذا النص، عددًا من المسائل بإجمال، ولم يناقشها بل قال:(لا يخفى ما على ذلك كله من المناقشات).
فمن ذلك مثلًا:
أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر أمثلة لتعارض أصلٍ وظاهرٍ، ومنها:(المثال الرابع: إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدةِ ما ينقله الزوج إلى مسكنها من الأطعمة والأشربة). قال الشيح: (فالشافعي يجعل القولَ، قولَ المرأة، لأن الأصل عدم قبضها كسائر الديون. ومالكٌ يجعل القولَ، قولَ الزوج؛ لأنه الغالب في العادة، وقولُه ظاهرٌ)(ينظر النص رقم 408).
فقد دافَع البلقيني في تعليقه على هذا المثال، عن مذهب الإمام الشافعي، وانتَصَر لما اختاره الإمام، بحديث هند المشهور رضي الله عنهما:(خذي من ماله بالمعروف ما يكفيكِ ويكفي بَنِيكِ).
ووجه الاستدلال ما وضّحه البلقيني بقوله: (سواء قلنا: إن ذلك قضاء أو فتوى، لأنه إن كان قضاءً فواضحٌ. وإن كان فتوى فلو لم يكن القولُ قولَها، لقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن العادة والظاهر أن الأزواج يكفُون زوجاتهم وأولادَهم. ولم يسلّطها على الأخذ من ماله، ما يكفيها ويكفي بَنِيها
…
).
ومثال آخر:
ذكر الشيخ ابن عبد السلام في فصل تعارض ظاهرين: (إذا تأمل الناسُ الهلال، فشهد برؤيته عدلان منهم، ولم يتفوّه غيرهما برؤيته، فقد اختلف العلماء فيه. فسمع الشافعي رحمه الله شهادتهما لظهور صدقهما بما ثبت من عدالتهما الوازعة عن الكذب. ورأى بعض العلماء ردّ شهادتهما لأن العادة تكذِّبهما، فإن العادة أن الجمع الكثير إذا رأوا الهلال: شَهَّرُوه وتفوّهوا برؤيته. فإذا لم يتفوّه برؤيته إلا الشاهدان، دل الظاهر المستفاد من العادة على كذبهما أو على ضعف الظن المستفاد من قولهما)(ينظر النص رقم 416).
فعلّق البلقيني على هذا ببيان دليل الإمام الشافعي، فقال: (دليل مذهب
الشافعي، حديث ابن عباس أن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، فقال:(أتشهد أن لا إله إلا الله)؟ قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله)؟ قال: نعم. قال: "فأذِّن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا". قال البلقيني: "فلو كان ما ذكره المخالف قادحًا، لَبيَّنه، ولَما أَمَر بالصيام".
(هـ): من اللفتات المهمة في تعليقات البلقيني التي تُنبئ عن المنهج العلمي الدقيق: ما يتطرّق إليه -في بعض المواضع- من المقارنة بين نسخ كتاب (قواعد الأحكام).
وهذه المقارنة من البلقيني، تدل على أنه كان مطّلعًا على نسخ أخرى من كتاب الشيخ ابن عبد السلام هذا، غير النسخة التي كان ينقل عنها نصوص عبارا ت الشيخ هنا في (الفوائد الجسام).
ووجه الدقة في صنيع البلقيني هذا، أنه قد يجد استشكالًا في بعض عبارات الشيخ ابن عبد السلام من حيث الخطأ والصواب، أو من حيث وجود نقص فيها مما يتطلب إكمالها حتى يستقيم المعنى؛ فينبّه البلقيني على وجه الملاحظة في مثل هذه المواضع، لكنه لا يُحمّل تَبعتها على الشيخ ابن عبد السلام، بل ينبّه إلى أنه وُجد الأمر هكذا في بعض النسخ من كتاب الشيخ ابن عبد السلام (ومنها النسخة التي كان البلقيني يُورد منها نصوص الشيخ ابن عبد السلام)، لكن النسخ الأخرى من كتاب الشيخ، خالية من هذه الأخطاء، ولهذا فلا يتوجّه على الشيخ ابن عبد السلام بسبب ذلك، إيرادٌ.
وقد وقفتُ عند البلقيني على مثالين من هذا القبيل:
أحدهما: أنه نقل في النص رقم 521 عبارة الشيخ ابن عبد السلام هكذا: (التوكيل في البيع المطلق، فإنه يتقيد بثمن المثل وغالبِ نقد بلد البيع)(1).
(1) قواعد الأحكام 2: 225.
هكذا أورد البلقيني عبارة الشيخ ابن عبد السلام، ثم علّق عليه بقوله:
(يقال عليه: تقييده بـ (نقد بلد البيع) في غير نسخة، ليس بجيد، لاقتضائه أنه لو قال له بمصر: وكّلتُك في بيع كذا، فباعه بمكة، أنه يتقيد بنقد مكة. وليس كذلك، بل ذلك يتقيد بنقد بلد الوكالة) هذا ما قاله البلقيني أولًا، لكنه لم يكتف بذلك بل عطف عليه بعد ذلك بقية الكلام عن هذا النص نفسه، فقال:(وفي نسخة: (نقد البلد)، وهي سالمة من الإيراد). انتهى كلام البلقيني.
والمثال الثاني: ما نقله البلقيني في النص رقم 83 من قول الشيخ ابن عبد السلام: (المثال الثامن: إذا ملك نفقةَ زوجةٍ، وله زوجتان متساويتان، سوَّى بينهما. ويجوز أنْ يُقرع بينهما دفعا لمفسدة انكسار المحرومة منهما).
عَقَّب البلقيني على هذا النص بقوله: (يقال عليه: لعله سقط بعد قوله: (سوَّى بينهما) شيءٌ، وصوابه:(أو يُخيّر. ويجوز أن يُقرع) إلى آخره. على أن ذلك ثابت في بعض النسخ).
ومما كشفت عنه مقارنة البلقيني هذه: أن الطبعة المحققة من كتاب (قواعد الأحكام) الصادرة بتحقيق الأستاذين الفاضلين الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية، جاء فيها هذان النصان بنفس الكيفية التي نبه البلقيني أنها محلُّ نظر وخطأ، ومع ذلك لا توجد في كلا النصين إشارة من المحققَيْن إلى أي اختلاف فيما بين أيديهم من النسخ السبع الخطية للكتاب، مما يدل أن تلك النسخ السبع عندهم، اتفقت على إيراد النصين بنفس تلك الكيفية الخاطئة (1)، وأنه لم يأتِ أيٌّ من هذين النصين في أي نسخة من
(1) فعبارة النص الأول، جاءت في هذه النسخة المحققة من قواعد الأحكام 2: 225 بنفس لفظ (نقد بلد البيع)، وهو الذي نبه إليه البلقيني أنه ليس بمستقيم، وأن صوابه أن يكون كما جاء في نسخ أخرى بلفظ (نقد البلد) مطلقًا. =
النسخ السبع تلك، على الوجه الصواب الذي أورده البلقيني من النسخ الأخرى.
وهذا يدل أن تلك النسخ الصائبة التي يشير إليها البلقيني، هي نسخ أخرى غير النسخ السبع التي اعتمدها محققا الطبعة المذكورة من (قواعد الأحكام)؛ وأن نُسخ البلقيني هذه عاليةُ الجودة، خصوصًا إذا نظرنا إلى أنها جاءت بصوابٍ لم يأتِ في النسخ السبع الخطية كلها المشار إليها (1).
(و): بقي مما يتعلق بروائع منهج البلقيني وطريقته في هذه التعليقات، ما يقوم به من إضافات لفوائد ونكاتٍ قيّمة، ربما تُعدّ من قبيل (خبايا الزوايا) التي تزداد بها قيمةُ أماليه هذه.
فمن أمثلة ذلك:
النص رقم 169: ذكر فيه الشيخ ابن عبد السلام أن من المواطن التي يترجح فيها إبداء الصدقة وإظهارها على إخفائها أنه (إن كان ممن يُقتدَى به كان الإبداء أولى لِما فيه من سدّ خلّة الفقراء مع مصلحة الاقتداء).
فأضاف البلقيني على ذلك مواضع أخرى لأولويّة إبداء الصدقة فيها، فقال:(ويكون الإبداء أولى إذا حثّ الإمام على الصدقة، لِما فيه من إظهار الامتثال. وقد أَقبَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيدٍ على النساء، فقال: (يا معشر النساء، تَصَدَّقْن ولو من حليّكنّ)، فجعلن يُلقِين في ثوب بلالٍ من أقرطتهن
= وعبارة النص الثاني، جاءت أيضًا فيها 1: 126 بنفس السقط الذي نبه البلقيني فيها، فليس فيها التتمة التي أوردها البلقيني من النسخ الأخرى عنده، والتي يستقيم بها معنى الكلام على الوجه الصحيح.
(1)
وستأتي تتمة مهمة لهذا الكلام ومزيد كشف عن نتائج أخرى تتعلق بالنسخ السبع الخطية للطبعة المذكورة من (قواعد الأحكام)، في عنصر (وصف المخطوط).
وخواتيمهن). ثم قال البلقيني: (ومن ذلك حثه على الصدقة في غير ما موطنٍ، كما في قصة سُلَيك، ونحو ذلك، تم تمثيل الأمر بإظهارها).
ومن ذلك النص رقم 175: ذكر فيه الشيخ ابن عبد السلام أن من حقوق المكلفين بعضهم على بعض: إنظار الموسِر.
فعلّق البلقيني على ذلك بتوضيح جميل لصورة من صور إنظار الموسِر، وهي: أن لا يكون عنده نقدٌ، وعنده عُرُوضٌ، فيُسعفه الدائن بالنظِرة ولا يتعسف عليه بحمله على بيع العُروض ليسدّد الدَّين عاجلًا، فربما يؤدّي هذا التعسف من الدائن إلى أن يبيع المدين تلك العُروض بثمن ناقص ليتمكن من سداد الدَّين، فيكون قد تضرر بذلك (1).
وفي النص رقم 178: ذكر الشيخ ابن عبد السلام أنواعًا من مضامين القرآن الكريم.
فعلّق البلقيني أن الشيخ (قد أَهمَل نوعًا حسنًا، وهو: (الوعد بثواب عاجل وثواب آجل معها)، كـ (الجهاد)، فثوابه العاجل: الغنيمة والسَّلَب بشرطه؛ وثوابه الآجل: ما أعدّه الله تعالى للمجاهد في الدار الآخرة مما نطق به الكتاب العزيز والسنة. وكـ (الإسلام)، فثوابه الآجل: ما وعد الله على الإسلام من الثواب الجزيل؛ وثوابه العاجل: أن العبد بالإسلام يدخل في عِداد من يجوز أن تُصرف إليه الزكوات والكفارات والضحايا والهدايا، وغير ذلك مما شُرط فيه الإسلام).
وفي النص رقم 234: قال الشيخ ابن عبد السلام: (المفسدة المقتضية
(1) نص كلام البلقيني هكذا: "معنى إنظار الموسِر: أن لا يكون عنده نقدٌ، وعنده عُرُوضٌ، فيُسعِفُه بالنظِرة إلى بيعها، ولا يَعسِفُه ببيعها عاجلًا بحيث ينقص قيمتها ونحو ذلك". قال: "وعلى هذا حُمل قوله في الحديث: (كنتُ أُنظِر الموسِر وأتجاوز عن المعسر).
لجعل الربا من الكبائر، لم أقف فيها على ما يُعتمد على مثله، فإن كونه مطعوما أو قيمةً للأشياء أو مقدّرًا، لا يقتضي مفسدة عظيمة يكون من الكبائر لأجلها).
فأبان البلقيني في تعليقه على هذا الكلام، ببيان نكتة تكشف عن مفسدة خفية خطيرة في الربا جعلتْه في تلك الدرجة من البشاعة والقبح في نظر الشارع؛ حتى عُدّ من كبائر الذنوب.
يقول البلقيني: (بل المفسدة في الربا تعاطيه لمعصية تسري في أموال الناس غالبًا، ويشق الاحتراز منها لو وقعت. فعلّيّةُ انتشارها وعمومها [جُعلت] سببًا لجعلها من الكبائر. وقد (لَعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكِلَ الربا ومُوكِلَه)، الحديث". انتهى كلام البلقيني.
وفي النص رقم 280: ذكر الشيخ ضمن استحباب تقديم الأعضاء اليمنى على اليسرى، أن ذلك تكريم وتشريف لها، (ولذلك يُبدأ بها في الانتعال لأنه إكرام لها)، (لأن الانتعال بمثابة اللباس للقدم، فهو إكرامٌ لها، ولهذا يُبدأ فيه بالرِّجل اليمنى، كما يُبدأ في لباس البدن بالأعضاء اليُمنى).
هذا كلامٌ قيّم من الشيخ ابن عبد السلام. ولكن علّق عليه البلقيني بإضافة لفتة جميلة إلى أدب الانتعال عند الخروج من المسجد، عندما يتعارض هذا الأدب، مع (أدب الخروج من المسجد بالرِّجل اليسرى). فكيف يمكن تطبيق هذين الأدبين في آنٍ واحدٍ -وهي صورة واقعية يومية- بحيث يتحقق مقصود الشارع فيهما معًا: بأن يُبتدأ بإخراج الرِّجل اليُسرى من المسجد، وفي نفس الوقت يُبدأ أيضًا بلُبس النعل في الرِّجل اليمنى؟
أفاد البلقيني إمكانية تطبيق ذلك بسهولة، فقال:(فإذا تعارض الخروجُ من المسجد، والانتعالُ: قَدَّم اليسرى في الخروج، ويضعُها على ظهر نعله؛ ثم يُخرِجُ اليمنى فيُنَعِّلها، ثم يُنَعّلُ اليسرى)!
وفي النص رقم 500: تطرّق الشيخ ابن عبد السلام لبيان معنى قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، وما سِرّ تقييده بقوله (إذا حسد). يقول الشيخ ابن عبد السلام:(فإن قيل: ما معنى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، فالجواب: أن الحسد الحكمي لا يضرّ المحسودَ لغفلة الحاسد عنه. والحسدُ الحقيقي هو الحاثّ على أذية المحسود. فقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} صالحٌ للحسد الحكمي والحقيقي).
هذا ما قاله الشيخ ابن عبد السلام.
وأفاد البلقيني في التعليق عليه بيان نكتة أخرى لهذا القيد، فقال:(ولك في الجواب مسلكٌ آخر، وهو أن العُلقة بين الحاسد والمستعيذ، إنما تكون حال حسده الحقيقي، ولا عُلقةَ بينهما إذا خلا عن حسده الحقيقي بغفلة ونحوها وإن كان متعلقًا بالحسد الحكمي، فلذلك خَصّ الحالة التي تكون فيها العُلقة فيها).
وفي النص رقم 614: أفاد الشيخ ابن عبد السلام حكمة منع المرأة من تزويجها بنفسها استثناءً من قاعدة (الأحرار المُطْلقون مستقلون بالتصرف في منافع أموالهم وأجسادهم)، فقال الشيح:(واستثني من ذلك: تزويج المرأة نفسها، لما في مباشرتها ذلك من المشقة والخجل والاستحياء).
وعلّق عليه البلقيني بسطرين وجيزين، أبان فيهما عن لفتة أخرى لهذا الحكم التشريعي، فقال:(الأَولى في تعليل ذلك أن يقال: المرأة غالبًا سريعة الانخداع، فربما وَضعتْ نفسَها تحت من لا يكافئها).
وهكذا نرى إضافات البلقيني في هذه التعليقات تنمّ عن مثل هذه الإفادات القيّمة.
وعلى كل، ففي جملة تعليقات البلقيني في الكتاب كله، يحس القارئ أنه أمام عالم ضليع، آتاه الله فحولةً، وقوةَ شخصية، ودقةَ نظر، وعمقَ اطلاع
فيما يبديه من التعقب والنقد والتحرير والاستدراك، بحيث يمكن أن يقال في حق تعليقاته: إنها زادت كلام الشيخ ابن عبد السلام تمتينًا وتحريرًا.
(ز): وأخيرًا، فمع ما سبق من روائع ما جادت به قريحة البلقيني من التعليقات، وقوة الأنظار، فقد بدت في بعض تعليقاته مسامحات فيما كان يَتَعَقَّب به على الشيخ ابن عبد السلام، خاصة إذا لوحظ أن الشيخ ابن عبد السلام ينطلق من جهة النظر المقاصدي، فيُبدي ما يراه مما ينبغي أن تكون عليه المسألة من حيث النظر المقاصدي لديه، وإن كان ذلك ربما يقع مخالفًا لما تقرر عند غيره من أهل العلم، لوجوهٍ أخرى عندهم.
فيأتي البلقيني في بعض هذه المواضع، ويتعقّب الشيخَ فيها أو يناقشه ويردّه إلى ما هو معتمد لدى أولئك الآخرين، والحال أن الشيخ -فيما يظهر- لا يُنكِر ما يقوله الآخرون، ولا يُنكر أيضًا ما قد يكون مقرَّرًا بحسب ما في نفس الأمر في تلك المسائل، وإنما يُبدي ما يتراءى ويترجح لديه، من النظر المقاصدي فيها، فتظهَرُ مناقشة البلقيني في هذه المواضع، بعيدةً عن النظرة المقاصدية التي يريدها الشيخ ابن عبد السلام. والله أعلم.
فمن ذلك مثلًا:
النص رقم 132 المتعلق بضرب الصبيان للتأديب ضربًا غير مبرّح:
انطلق الشيخ ابن عبد السلام في هذه المسألة من نظرة مقاصدية دقيقة، وخالفه البلقيني تبعًا لبعض علماء الشافعية لنظرة مقاصدية أخرى تختلف عن نظرة الشيخ. ولكن تبيّن بالبحث والمراجعة في كتب الشافعية، أن المختار عند محققيهم المتأخرين هو ما ارتآه الشيخ ابن عبد السلام في هذه المسألة، كما وضحته في التعليق على هذا النص.
وكذلك التعليق على النص رقم 277 يبدو فيه أيضًا بعدٌ من البلقيني عن النظرة المقاصدية التي ينطلق منها الشيخ ابن عبد السلام.
توضيح ذلك أن الشيخ ابن عبد السلام يقول في هذا الموضع: (أحكام الله تعالى كلها مصالح لعباده)(قواعد الأحكام 1: 297). وبناء عليه بدأ الشيخ يفصّل تلك الأحكام، سواء ما تعلق منها بالقلوب أو الأبدان أو الجوارح أو الحواس. . . إلخ.
فمن ذلك أن الشيخ نبّه أن هناك أحكامًا تتعلّق بجارحتي (الأفواه والبطون) من الواجبات والمحرّمات والمندوبات والمستحبات. . . إلخ، ومبناها جميعًا على المصالح والمفاسد، فينبغي امتثال ما يُعتبر مصلحةً واجتناب ما يُعدّ مفسدةً. فمما ينبغي اجتنابه في حق هاتين الجارحتين لكونه محرَّمًا، فهو مفسدةٌ في حقهما: أنَّه "لا يجوز أن يُلقَى فيها ما يَحرُم أكله". (النص 277).
فجاء البلقيني وتعقب على هذا بأنّه يجوز إلقاء ما لا يتحلل منه شيء إلى الجوف، كالزجاج!
وكما يُلحظ فإنَّه تعقيب بعيدٌ عن النظرة المقاصدية التي يريدها الشيخ في هذا الموضع، إذ إن قصد الشيخ -كما وضحته قبل قليل- هو تقرير أحكام هاتين الجارحتين التي تظهر فيها آثار المصالح والمفاسد، ومن ثَمّ مثّل الشيخ لذلك ببعض الأمثلة، ومنها هذا المثال (لا يجوز إلقاء ما يحرُم أكله في الأفواه والبطون).
وليس قصد الشيخ هنا: بيان ما في نفس الأمر مما يجوز أن يُلقى في الأفواه والبطون، وما لا يجوز؛ إذ محلّ ذلك في كتب الفقه والفتاوى. ولعله لا يُتصور أن مثل الشيخ ابن عبد السلام يغيب عنه -عند تقرير مثل هذه النظرة المقاصدية في أحكام هاتين الجارحتين- ما ذكره البلقيني من هذا الاستدراك بمسألة فرعية لو وقعت ولو صح التسليم بها، لكانت من النوادر أو
الفرضيات؟! فكيف تُستدرك عليه تلك المسألة الجزئية، في مقامٍ يقرر فيه الشيخ نظراتٍ كلية مقاصدية في الموضوع المشار إليه.
وكما يُلحظ فإنَّه لا غبارَ على كلام الشيخ ابن عبد السلام إطلاقًا؛ ولهذا فإن استدراك البلقيني عليه وإن كان صحيحًا في حدّ ذاته، إلا أنَّه يظهر أنه بعيدٌ عن نظرة الشيخ المقاصدية.
ومن ذلك ما في النص 91 ففيه يقول الشيخ ابن عبد السلام: (لو وَجَد المضطر إنسانًا ميتًا، أَكَل لحمَه).
فتعقبه البلقيني بقوله: "محلُّ ذلك ما إذا لم يكن نبيًّا، فإن كان الإنسان الميتُ نبيًّا، فلا يجوز أكلُ لحمه".
وماذا عسى أن يقول القارئ أمام مثل هذا التعقب الذي يُستغرب صدورُه من البلقيني! رحمه الله. ويُنظر ما وضّحتُه في التعليق على هذا النص في داخل الكتاب.
ومما يمكن أن يُعدّ من قبيل مسامحات البلقيني في تعقباته على الشيخ ابن عبد السلام، ما يبدو في بعضها من التكلف في النقد والمؤاخذة بحيث لا يَرقَى نقدُه فيها إلى المقام العلمي لمثله. وربما يُلحظ في أمثال تلك التعقبات، أنها أشبهُ بمناقشات لفظية بعيدة عن السجية الطبيعية التي ينطلق منها الشيخ ابن عبد السلام.
فمن ذلك مثلًا:
النص رقم 248: ففيه يقول الشيخ عن العبادات التي لا تلتبس بالعادات مثل (التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير) أنها (قربةٌ في أنفسها، متميزةٌ لله بصورتها، لا تفتقر إلى قصد تميّزها ولجعلها قربة، فلا حاجة في هذا النوع إلى نيةٍ تصرفه إلى الله تعالى).
فتعقب البلقيني على ذلك فيما يتعلق بـ (التسبيح) أن فيه نظرا لأنه
يُستعمل في غير الله سبحانه وتعالى، كقول الشاعر (وهو الأعشى):(سبحان من علقمةَ الفاخر)، فاستعمَل مادة (التسبيح) لغير الله تعالى. فإذًا مقتضى ذلك -حسب ما يريد البلقيني- أنه لا بد من القصد والنية في لفظة (التسبيح).
وهذا تسامح غريب من البلقيني، فإن من المعلوم أن التسبيح إذا أُطلق لا يراد به إلا تسبيح الله تعالى، وهو ما أراده الشيخ ابن عبد السلام.
أما أن يقال: إنه قد يراد به تسبيح غير الله تعالى بناء على بيتِ شعرٍ لشاعرٍ جاهلي! فيبدو ذلك تكلفًا شديدًا! وهل يوجد اليوم من يقول عن شخص: (سُبحان فلان)؟ أو يقول عن شيء: (سبحان ذاك الشيء)؟!
ثمَّ ناقش البلقيني الشيخَ ابن عبد السلام في لفظتي (التكبير) و (التقديس) أيضًا، مناقشة لفظية متكلفة.
والخلاصة أن تعليق البلقيني على هذا النص كله، متكلف جدًّا، لا يعدو أن يكون مجرد نقاشات لفظية بعيدة عن السجية التي ينطلق منها الشيخ ابن عبد السلام في تقرير تلك الأحكام. ويمكن أن يقال للبلقيني في هذا المقام، نفسُ ما قاله هو للشيخ ابن عبد السلام -في موضع من الكتاب-:(إنه أعلى قدرًا، وأدقّ فكرًا من كلامه الذي أورده في هذا الموضع)(1).
ومن شواهد مثل هذه التعليقات أيضًا المتكلَّفة: تعليقات البلقيني على النصوص من 282 - 289 فهي لا تخلو في الجملة من تكلفات ومناقشات لفظية.
هذا وقد تقع مسامحات علمية أخرى من البلقيني -غير ما تقدم- مما لا تختص بتعقباته على الشيخ ابن عبد السلام.
فمن ذلك مثلًا: ما جاء في تعليقه على النص رقم 50 حيث نَسَب فيه
(1) النص 166 من الكتاب.